تحقيق ـ بشرى الغيلي ـ لا ميديا -
فواتير باهظة، وعدادات "مُبرمجة"، ورسوم ثابتة تُفرض حتى في غياب التيار، إلى جانب شكاوى من غياب الرقابة واتهامات بالتلاعب.. كل ذلك يحدث نتيجة انقطاع الكهرباء الحكومية، وصارت المحطات التجارية هي البديل "الإجباري" في هذا الظرف الحساس الذي يمر به الوطن، لكن هذا البديل لا يأتي مجانًا، بل بأسعار توصف بـ"النار"، وخدمات كثيرًا ما تكون دون المستوى.
في هذا التحقيق نكشف جانبًا من معاناة المواطنين، وننقلها عبر صفحات (لا) التي تتشارك معهم القصص عل مناشداتهم تجد آذانا صاغية لدى جهات الاختصاص، وحتى لا يهضم الرأي الآخر تم النزول الميداني لعددٍ من المحطات والذين بدورهم عبروا عن وجهة نظرهم.

فاتورة مزاجية
في حزيز جنوب العاصمة صنعاء كمثال على كثير من واقع المعاناة، يدفع السكان ثمن الضوء بلا منطق، وسط فوضى تسعيرات الكهرباء التجارية.. يقول محسن سعيد (مواطن): "المحطة التي نشترك معها تبيع الكيلو بسعر مختلف عن محطة أخرى تبعد شارعين فقط.. سعر الديزل ما يتغيّر عليهم بس علينا".
مع غياب الرقابة وغياب الكهرباء الحكومية نظرا لوضع البلد وما يمر به، يجد السكان أنفسهم مرتهنين لقرارات ملاك المحطات التجارية، يضيف: "الشهر الماضي دفعت 8,500 ريال، وارتفع السعر فجأة بذريعة الديزل، رغم أن الربح واضح أنه مبالغ فيه. لا تسعيرة موحدة، ولا جهة تحاسب. فقط معادلة واحدة يفرضها الواقع: من لم يعجبه السعر.. يُقطع عنه التيار".

لا رقابة ولا ضمير
في الصافية مثال آخر، يدفع أصحاب المحلات رسوم "اشتراك" كهرباء ثابتة، حتى في فترات الانقطاع التام.. يؤكد ذلك علي الحزمي (صاحب محل تجاري): "ندفع مبالغ شهرية رغم انقطاع الكهرباء، أي منطق يفرض علينا رسوما بدون خدمة؟".
ورغم وجود قرارات رسمية تلغي هذه الرسوم، ما زالت تُفرض بلا رقابة، ما يزيد العبء على الأعمال الصغيرة.
"هذا ابتزاز واضح يخنقنا في أصعب الظروف، نطالب بتطبيق نظام يحاسبنا على ما نستهلك فعليًا، مش مجرد اشتراك إجباري"، ذلك ما عبر عنه الحزمي.

ندفع مقابل خدمة سيئة
واقع يتكرر في أحياء عديدة من العاصمة حيث تصبح الكهرباء عبئًا ماليًا لا مفر منه.
تجد كثير من الأسر نفسها محاصَرة بين ارتفاع رسوم الكهرباء التجارية وتكاليف الطاقة الشمسية التي لا تُطاق.. تقول سماح الكور (ربة بيت): "الكهرباء ما عادت خدمة.. صارت عبئا يوميا، والطاقة الشمسية صارت حلما مستحيلا بسبب أسعارها الجنونية".
سماح التي تعتمد على تحويلات زوجها المغترب، والتي بالكاد تغطي الأساسيات، فيما تضطر لتحمل فواتير كهرباء مرتفعة وانقطاعات متكررة: "نحن نجبر على دفع الكثير مقابل خدمة سيئة، وما عندنا بديل".

بعتُ خاتمي بسبب الكهرباء
بين غياب الخيارات وغياب الرقابة، تبقى الكهرباء أزمة مستمرة تثقل كاهل المواطنين.
تقول أشجان الرويشان (تربوية): "الكهرباء المتقطعة لم تسرق منا التيار فقط، بل سرقت ذكريات وأحلاما، ما راح أنسى يوم احترق التلفاز مع عودة التيار فجأة، كان هو عالم أولادي الوحيد، ووسيلتهم للتعليم والونس".
وعبرت الرويشان عن حسرتها مضيفة عما حدث معها: "اضطريت لبيع خاتمي، آخر ذكرى عزيزة عندي، علشان أشتري تلفاز جديد وأدفع قيمة التسليك الباهظ، حسيت إني خسرت شيء من روحي، بس ما كان بيدي.. ضحّيت علشان ابتسامة أولادي".
ثم تختم: "الكهرباء الرديئة لا تحرق الأجهزة فقط.. بل تحرق القلوب والذكريات، وتخلينا ندفع ثمن التلاعب بأجهزتنا الكهربائية التي تتأثر من الانطفاءات المتكررة والمفاجئة".
قصة أشجان واحدة من مئات القصص التي تُخفيها الجدران، لكنها تصرخ بصوت كل بيت يدفع الثمن دون ذنب مقابل خدمة إجبارية وأسعار نار.

أجهزة كهربائية رديئة
يحذّر وليد الشميري (مدرس فيزياء) من خطورة ما يُباع في الأسواق من أجهزة كهربائية رديئة ومقلدة: "البسطات تبيع شواحن ولمبات وأسلاكا غير مطابقة للمواصفات، وهي قنابل موقوتة داخل البيوت.. وغياب الرقابة يزيد الخطر".
ويضيف الشميري: "كم حريق سببه شاحن صيني رخيص؟ المواطن يواجه مأزقا ثلاثيا: انقطاع متكرر، بدائل شمسية مكلفة، ومواد خطرة تُباع دون رقابة"!
ويطالب بتدخل فوري من أجل "منع البيع العشوائي، مراقبة السوق، وتوعية الناس بمخاطر هذه المنتجات".

حياة المرضى في خطر
يقف المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة ليس فقط في مواجهة أوجاعهم، بل في مواجهة خيار قاسٍ: إمّا الدواء أو فاتورة كهرباء لا تصل معها الخدمة.. عن هذه الجزئية يقول محمد المطري (مريض سكري) بمرارة: "لم أعد أستطيع الاحتفاظ بالأنسولين، لأن كل فلوسي تروح على كهرباء باهظة الثمن".
ويضيف: "نحتاج الكهرباء لتبريد الأدوية، ونحتاج المال لشرائها.. لكن فواتير الكهرباء التجارية حتى وهي منقطعة مرتفعة".
ما يعيشه المطري ليس مجرد أزمة خدمات، بل كما يصفها "جريمة بحق المرضى، اليوم أنا قد أموت، ليس بسبب السكر بل لأن فاتورة الكهرباء سببت تلف العلاج"!!
واقع يختصر كيف تتحوّل أزمة الكهرباء إلى مأساة إنسانية وتلف الأدوية.

اتهامات بالجشع.. وملاك المحطات يبررون
في ظل تزايد شكاوى المواطنين من ارتفاع أسعار الكهرباء التجارية، يواجه ملاك المحطات اتهامات متكررة بالجشع والمبالغة في التسعيرة.. لكن من وجهة نظرهم الصورة أكثر تعقيدًا.. وللوقوف على حقيقة ذلك نزلت صحيفة (لا) لبعض المحطات وأفردت مساحة توضيح للمشتركين والقراء.
محمد الجلال (صاحب محطة كهرباء)، يقول: "الناس ما يعرفوش نصف الحقيقة.. الديزل ارتفع أكثر من 300%، ورواتب الموظفين تضاعفت، وندفع ضرائب ونلتزم بمعايير وزارة الكهرباء".
ويشير إلى أن المحطة تتحمل أيضًا "نفقات إضافية في سبيل السلامة وخدمة المجتمع. نوفر الكهرباء مجانًا للحي القريب، للطرقات، للجوامع، وحتى للأنفاق وفوق ذلك هناك مشتركون يسرقون التيار من خارج العدادات".
ويرى الجلال أن سبب ارتفاع الأسعار لا يعود فقط للمحطات، بل لغياب الحلول وعوامل أخرى: "بدل ما الناس يتهمونا ليش ما يسألوا عن أسعار الديزل؟ الذي يكلفنا 70%.. نحن نحاول نوازن بين التكاليف الكبيرة واستمرار الخدمة.. الأسعار مرتفعة نعم، لكنها انعكاس لواقع اقتصادي ضاغط لا نتحكم به نحن".
بين نظرة المواطن ومعاناة المزوّد، تظل أزمة الكهرباء حلقة من أزمات أعمق، لا تنتهي بالاتهام ولا تُحل دون تدخل رسمي يراعي الجميع.

استهلاك غير واقعي!
يواجه المواطن فواتير كهرباء تفوق توقعاته، لكنه غالبًا لا يعرف الحقيقة وراء هذه الأرقام التي يراها لاستهلاك غير واقعي.. يقول مهندس في محطة كهرباء (طلب عدم الكشف عن اسمه): "العدادات الذكية يتم برمجتها من قبل أصحاب المحطات لقراءة استهلاك غير حقيقي، وأخطاء المقاييس تصب دائمًا لصالح المحطات".
ويكشف عن معاناة إضافية، بقوله: "هناك رسوم خدمة وهمية على كهرباء متقطعة، وغرامات يفرضونها على المستخدمين بلا مبرر، ورسوم صيانة بينما المحطة في حالة تدهور".
ويؤكد المهندس: "لا رقابة حقيقية على العدادات مقارنة بالفواتير والاستهلاك، ولا جهة تراقب المحطات المخالفة، والمواطن مجبر على الدفع تحت تهديد فصل التيار".
ويختتم: "المواطن صار رهينة نظام يعمد أحيانًا لافتعال أعطال لزيادة الفواتير، وبدون رقابة، ولا حلول تلوح في الأفق".

سوء تعامل
بين ضغط العمل وهموم الحياة، يعيش عبدالمجيد صالح (عامل في سوبر ماركت) تجربة يعاني منها الكثير.. يقول: "تعبت نفسيًا.. الفاتورة تأتي وأنا في عملي، وعندما أعود إلى بيتي أجد الكهرباء مقطوعة".
ويضيف بغصة: "أدفع من راتبي وأتمنى يرجعوا الخدمة، لكن يقولوا ما فيش مهندس اليوم.. إحساس مهين، كأني أتسول خدمة أنا دفعت ثمنها".
وختم بأمنيته أن تنتهي المعاناة وأن تقوم الجهات المختصة بدورها.

أسلاك عشوائية في شوارعنا
يمر محمد الدعيس (مهندس مدني) يوميًا في شارع حيه واصفا المشهد: "أسلاك كهربائية متشابكة كخيوط العنكبوت، معلقة على الأعمدة وجدران البيوت، ومتدلية فوق رؤوس الناس".
الألم الحقيقي ظهر بعد وفاة صديقه الذي كان ضحية سلك مكشوف: "مات وهو في ريعان شبابه بسبب إهمال واضح واستهتار بحياة المواطنين".
يصف الدعيس بعض المشاهد التي يراها بشكلٍ يومي: "أطفال يلعبون قرب الأسلاك المكشوفة، ونساء يخشين المرور تحتها، وسيارات تتلف بسبب الاحتكاك بها مباشرة، وحوادث كثيرة تحدث نتيجة اللامبالاة والعشوائية".
ويختم متسائلًا: "أين المسؤولية؟ أين معايير السلامة؟ هذا مشهد فوضوي يهدد حياتنا كل يوم".

برمجة مثيرة للشك!
خالد قائد (صاحب محل) كان يدفع فاتورة كهرباء شهرية تتراوح بين 700 و2000 ريال، ويعتبره مبلغًا معقولًا بالنسبة لاستهلاكه المحدود حسب حديثه لـ(لا)، لكن الأمور تغيرت فجأة عندما حضر إليه مهندسون من محطة الكهرباء التجارية التي يتزود منها، وأخبروه بأنهم سيقومون ببرمجة عداده، وبعد أن أخذوه وأعادوه إليه، فوجئ قائد بأن فاتورته الشهرية ارتفعت بشكل صادم لتصل إلى 14,000 ريال، رغم أن استهلاكه الفعلي لم يتغير.. وصار قائد يعاني من عبء مالي ثقيل لا يبرره واقع الاستهلاك، ويشعر بأنه ضحية لتلاعب غير مبرر في العدادات، ما يطرح تساؤلات كبيرة حول شفافية الأسعار وأمانة القياس في نظام الكهرباء التجارية.
بين وعود الخدمة وواقع الاستغلال تقف الكهرباء التجارية في العاصمةِ صنعاء كأحد أبرز وجوه المعاناة اليومية للمواطن، فواتير تتضاعف، وعدادات تثير الشكوك، وحقوق تُهدر في غياب رقابة فعالة أو تدخل حقيقي من الجهات المختصة، ما بين من يرى في المحطات التجارية "منقذًا اضطراريًا" ومن يراها "تجسيدًا للابتزاز"، تظل الحقيقة واضحة الكهرباء لم تعد مجرد خدمة، بل صارت عبئا اقتصاديا ونفسيا يدفع ثمنه المواطن.
ويبقى السؤال مفتوحًا: متى تتحول الكهرباء إلى حق أساسي من حقوق المواطنين لا تجارة رابحة؟
نأمل ألا تمر هذه الأصوات مرور الكرام، بل أن تجد آذانا صاغية من قبل جهات الاختصاص.