منذر المقطري

منذر المقطري / لا ميديا -
بعد عامين من معركة «طوفان الأقصى»، وما رافقها من حرب إبادة «إسرائيلية» في قطاع غزة، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن خطة سياسية جديدة تحت عنوان «خطة السلام»، أفضت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أكتوبر 2025. جاء الاتفاق تتويجاً لمسار طويل من الضغوط الأمريكية على كلٍّ من الكيان الصهيوني وحركات المقاومة الفلسطينية، بهدف إعادة خلق واقع جديد في غزة.
ورغم ما شهدته الأيام الماضية من خرقٍ «إسرائيلي» مباشر للهدنة عبر سلسلة من الغارات التي أدت إلى استشهاد عشرات المدنيين في القطاع، سارع الرئيس الأمريكي إلى تأكيد أن «الهدنة ليست في خطر»، في محاولة لاحتواء الموقف وتثبيت ما تعتبره واشنطن إنجازاً دبلوماسياً في «الشرق الأوسط».
يواجه رئيس حكومة الكيان الصهيوني، المجرم بنيامين نتنياهو، واحدة من أعقد الأزمات السياسية منذ «طوفان الأقصى»، فقد تصاعدت الخلافات داخل الائتلاف الحاكم على خلفية قانون التجنيد الإجباري للحريديم، ما أدى إلى مظاهرة ضخمة في القدس شارك فيها أكثر من 200 ألف من أتباع الطائفة المتشددة التي ترفض أن تنخرط في الجيش بحجة تفرغها للدراسة الدينية، كما أنها تعتبر قوات الاحتلال «جيشاً علمانياً»، برعاية كبار الحاخامات الذين هددوا بإنهاء دعمهم لحكومة نتنياهو.
تقدّر دوائر سياسية «إسرائيلية»، بحسب صحيفة «معاريف»، أن هذا الانشقاق المحتمل قد يؤدي إلى انهيار الائتلاف الحاكم وحلّ الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة قبل موعدها المقرر في 2026.
ورغم خطورة الموقف، لا يُتوقع أن يلجأ نتنياهو إلى تصعيد عسكري في غزة أو لبنان لتصدير الأزمة الداخلية، نظراً للضغوط الأمريكية المباشرة التي تفرض عليه الالتزام بخطة الهدنة، فضلاً عن الخشية من انفجار احتجاجات داخلية أوسع في ظل غضب «المستوطنين» المتنامي من السياسات الاقتصادية والعسكرية للحكومة. 
على الجبهة الشمالية، يواصل الاحتلال «الإسرائيلي» سياسة الضربات المحدودة ضد مواقع حزب الله في لبنان، بذريعة «منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحزب الله».
تكشف هذه العمليات المستمرة، منذ وقف إطلاق النار في لبنان، عن تحوّل في استراتيجية العدو تعتمد على استهداف قدرات المقاومة دون الانزلاق إلى حرب شاملة مع حزب الله.
في المقابل، يتجنب حزب الله الرد العسكري المباشر، مفضّلاً إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية وبناء القوة واستعادة تماسكه التنظيمي بعد عامين من الاستنزاف المتواصل، كما أن هناك استحقاقات سياسية وضغوط حكومية داخلية يتعامل معها حالياً، فيما تكتفي الحكومة اللبنانية -منزوعة الشرعية- بخطاب دبلوماسي روتيني يدعو المجتمع الدولي إلى الضغط على «إسرائيل» لاحترام السيادة اللبنانية.
وتشير المعطيات إلى أن الولايات المتحدة مصرّة على تثبيت التهدئة في غزة، إدراكاً منها أن أي انهيار جديد قد يؤدي إلى إعادة إشعال المنطقة بأكملها، بما في ذلك جبهة الاسناد اليمنية، خصوصاً مع تأكيد السيد قائد الثورة أن اليمن يراقب الاتفاق وسيعود للمواجهة في حال عاد الكيان الصهيوني للعدوان وحرب الإبادة الجماعية.
أما داخل الكيان الصهيوني فإن تفاقم الأزمة السياسية الداخلية يحدّ من رغبة نتنياهو وقياداته في خوض مغامرات عسكرية جديدة، فيما تعول السياسة الأمريكية في لبنان على جهود نزع سلاح المقاومة عبر أدوات الدبلوماسية والضغط الاقتصادي ووعود إعادة الإعمار بدلاً من الحرب المباشرة.
في المقابل، تسعى فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله في لبنان إلى إعادة ترتيب أوراقها بما يتيح لها استعادة توازن الردع دون الانجرار إلى مواجهة شاملة، وهي تقوم بإعادة بناء القوة، ورفضت مطلقاً أن تكون اتفاقيات وقف إطلاق النار مشروطة بنزع السلاح، وترى أن سلاح المقاومة سيذهب إلى الدولة حين تلتزم بواجباتها الدفاعية في ظل سياسة دفاعية وطنية ترسمها مختلف القوى السياسية، سواء الفلسطينية أو اللبنانية، ما يعزز فرضية استمرار الهدنة على المدى القريب، مع بقاء احتمالات التصعيد قائمة في حال تبدّل التوازنات السياسية داخل الكيان الصهيوني.
يُظهر المشهد السياسي والأمني الراهن أن الكيان الصهيوني يعيش حالة اضطراب داخلي عميقة بعد معركة «طوفان الأقصى»، تتقاطع فيها الضغوط الأمريكية مع الانقسامات الحزبية والدينية، ما يجعل صانع القرار «الإسرائيلي» أكثر ميلاً إلى تثبيت الهدنة وتجنّب التصعيد العسكري في غزة ولبنان. الأزمة المتصاعدة داخل حكومة نتنياهو تُضعف قدرته على المناورة، وتكشف حدود «قوة الردع الإسرائيلية» أمام تحولات البيئة الإقليمية وتنامي محور المقاومة.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى فرض تهدئة طويلة الأمد كجزء من هندسة جديدة للمنطقة، تعتمد على تطويع فصائل المقاومة عبر أدوات اقتصادية ودبلوماسية بدل الحرب المباشرة، وهو ما يندرج ضمن الاستراتيجية الأمريكية لإعادة ضبط الإقليم بما يخدم مشروعها في شرق المتوسط والبحر الأحمر.
أما على المستوى الميداني، فإن قواعد الاشتباك الجديدة في لبنان وغزة تعكس توازناً هشاً، يقوم على تبادل محدود للرسائل العسكرية من دون تجاوز خطوط الانفجار الشامل، في حين تعمل فصائل المقاومة على ترميم قدراتها وبناء منظومة ردع مستدامة تحافظ على معادلة «السلاح مقابل السيادة الوطنية»، وترفض أي تسوية تمس جوهر المقاومة.
وعليه، يُرجَّح استمرار حالة الهدوء النسبي خلال المدى القريب، مع بقاء احتمالات التصعيد قائمة في حال انهار الائتلاف الحاكم في الكيان الصهيوني أو حاولت واشنطن فرض ترتيبات أمنية تمسّ سلاح المقاومة في غزة أو لبنان، ما يجعل المرحلة المقبلة مفتوحة على توازن دقيق بين هدنة غير مستقرة وصراع مؤجل قد يُستأنف في أي لحظة.

أترك تعليقاً

التعليقات