في ليلة الـ9 من يوليو الجاري اتجهت كاميرات محطات الإعلام العالمية صوب قاعة في مدينة هامبورغ الألمانية، لتغطية فعالية قمة الدول الـ20 الاصطناعية الرأسمالية.
لقد حرصت وسائل الإعلام على تغطية برامج الفعالية على أكمل وجه، فنقلت للعالم أجمع كيف يداعب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زوجته ميلانيا، والأخيرة كيف تضحك على الهواء دونما سبب، كل التفاصيل الصغيرة من وصول قادة الدول الـ20 إلى هامبورغ الألمانية حتى مغادرتهم، رآها العالم على مضض.
بينما صرفت كاميرات الإعلام أنظارها عن الجانب الآخر من المشهد نفسه، حيث تجمع على بعد 20 متراً فقط من بوابة المبنى المنعقدة فيه القمة، أكثر من 100 ألف متظاهر مناهضين لانعقاد القمة وللسياسات الاقتصادية التي تنتهجها الدول الـ20.
المظاهرات التي ظلت تجوب شوارع هامبورغ لـ8 ليالٍ متوالية، والتي أدت الى اشتباكات مباشرة مع قوات الأمن الألمانية، نظمتها حركات وأحزاب يسارية أوروبية ومنظمات حقوقية مناهضة للدول الاصطناعية الرأسمالية.
ما هي هذه الحركات والمنظمات؟ وهل هي امتداد للمنظومة الاشتراكية الأممية؟ وما هي أيديولوجيتها ومطالبها؟ وكيف نشأت؟ ولماذا يتم قمعها بشدة؟
تساؤلات كثيرة تدور في ذهن المتابع العربي واليمني؛ صحيفة (لا) تسلط الضوء على ملامح الحركة اليسارية الجديدة ودورها في مناهضة النيوليبرالية.
 
نشأة الحركة اليسارية الجديدة
لم تتوقّف الحركة المناهضة للرأسمالية منذ نشأت الأخيرة، وكانت المنظمة الشيوعية العالمية الوجهة الأولى للنضال ضد الامبريالية، بجانب الحركات القومية التي لعبت دوراً بارزاً في التصدي للمشاريع الرأسمالية الاحتكارية.
عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية الأممية، وتحكم الشركات الرأسمالية بحركة السوق العالمية، تخلى اليسار الذي شعر بالهزيمة وبعجز الأحزاب، عن الأيديولوجيات الكبرى، وذهب إلى مواجهة الوحش الرأسمالي القادم بطريقة أخرى في معارك جزئية محدَّدة.
حيث ظهرت في أوروبا وأمريكا اللاتينية منظمات وأحزاب وحركات مناهضة للرأسمالية، اتخذت وجهة يسارية سميت (اليسار الجديد)، وهي عبارة عن منظمات وحركات منفصلة تهتم بمناهضة العولمة وحماية البيئة ومناصرة قضايا الشعوب المظلومة بطريقة إنسانية وحقوقية، إلا أنها ترفض النضال السياسي باعتباره يلوث المبادئ الأساسية لأية قضية، وتفضل النضال المطلبي دون أيديولوجيا سياسية.

أبرز الحركات
ومن أبرز الحركات والمنظمات المناهضة للرأسمالية في أوروبا وأمريكا، منظمة اليسار المتحد في إسبانيا، إلى جانب بعض الأحزاب الصغيرة كـ: ISA, CUT, IR… والمنظمات الاجتماعية وبعض النقابات ومجموعة أتونومس (اللاسلطويين) وحركة أتاك العالمية لمناهضة العولمة، إضافة إلى حركة النسوية البيئية في أوروبا وحركة النسوية الاشتراكية في لبنان وحركة البديل أو اليسار الجديد في لبنان ومصر وأمريكا.

النيوليبرالية
تعرف النيوليبرالية بأنها فكر أيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي تمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد.
يشير تعبير (النيوليبرالية) إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، ويستخدم اليساريون هذا التعبير لمواجهة بشاعة الرأسمالية.
يخلط الكثيرون بين مفهوم النيوليبرالية ومفهوم آخر يسمى الليبرالية الجديدة New Liberalism، وهي ذات ميول اشتراكية، حيث تهتم بالعدالة الاجتماعية، وتهدف إلى التوفيق بين حقوق الفرد والجماعة، وتدعم تدخل الحكومة في التحكم بالقطاعات الخاصة الحكومية.

حركة عالمية
منذ سنة 1999 بدأت تتبلور حركات اليسار الجديد في حركة عالمية منظمة، هي المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسّس في يناير سنة 2001 في بورتو أليغري، وكان ردّاً على المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينعقد منذ سنة 1971 في دافوس في سويسرا، والذي يمثل مصالح الطغم المالية والشركات الرأسمالية الاحتكارية. وأصبح المنتدى الاجتماعي العالمي البوتقة التي تجمع كل النشاط العالمي المناهض للعولمة، ومن ثَمّ تشعّب إلى منتديات قارية في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وأخرى إقليمية في المتوسط والوطن العربي.

نشاط اليسار الجديد
بدأت الحركة اليسارية الجديدة نشاطها في أوروبا في بداية الألفية الثالثة، ودعت إلى تعبئة الحركات المناهضة للعولمة ضد أهداف النيوليبرالية عبر العالم، وعملت على عقد الاجتماعات والقمم المناهضة للعولمة بشكل مكثف في عدة مدن أوروبية بداية من بيس، براغ، برشلونة، والضاحية 13 في باريس التي يعاني أهاليها من عنصرية من قبل الحكومة الفرنسية، وجنوى الإيطالية حيث قتل مناهض العولمة المشهور كارلو جولياتي.
وشكلت قمة مناهضة العولمة في برشلونة سنة 2000 منعطفًا جديدًا في تاريخ الحركة، حيث استطاعت إجهاض قمة الدّول الـ8 العظمى وصندوق النقد والبنك الدوليين. فكانت أول مرّة في التاريخ يتم فيها إلغــاء قمـمهم واختـراق حصارها الإعلامـي، وتقديم مشروع بديل تمثّل في اقتراحات قطـاعية واقتصادية حول المديونية الخارجية والتنمية المستدامة.
استمرت الحركة المناهضة للرأسمالية بعقد المؤتمرات والندوات وتنظيم الاحتجاجات للتنديد بجرائم الرأسمالية، وتم عقد قمة إشبيلية في يونيو 2002، والتي دعا فيها اليسار إلى حماية البيئة من الانتهاكات التي تمارسها قوى الرأسمالية، وتتمثل في تقطيع الأشجار والغابات في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، بالإضافة إلى نهب ثروات الشعوب الفقيرة وتهجيرها، مشيراً للكثير من الجرائم التي يرتكبها الأمريكيون والفرنسيون والبريطانيون في البلدان الأفريقية النامية.

أيديولوجية النضال
ليس هناك مركز معروف يدير هذه الحركات والمنظمات، أو جغرافية معينة، فهي تقود حملاتها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وتتبنى قضاياها في مؤتمرات وندوات منفصلة.
وتعتبر قمة الدول الاصطناعية الـ20 هي المحطة الرسمية التي يجتمع فيها كل الناشطين اليساريين والحقوقيين والمنظمات والحركات المناهضة للرأسمالية من مختلف دول العالم. حيث تنظم الحركات اليسارية تظاهرات حاشدة بالتزامن مع انعقاد كل قمة للدول الـ20.
وتعتبر الحركات والمنظمات اليسارية أن الرأسمالية هي آفة تسعى لتدمير كوكب الأرض، حيث تتهم المنظومة الرأسمالية ونظام العولمة واقتصاد السوق والنيوليبرالية المتوحشة في الغرب بتخريب العالم وشن الحروب واضطهاد الشعوب وإفقارها.. يقول الكاتب والقيادي الاشتراكي المصري سمير أمين: الرأسمالية لا يهمها اللون ولا العرق ولا الانتماء الفكري. الرأسمالية هي عبارة عن آلة لممارسة التجارة وتحقيق الأرباح. هذا ما يفسر موت طفل في العالم من الجوع كل 3 ثوانٍ، في الوقت الذي يعلن فيه البنك الإسباني سانتاندير لمساهميه عن إحرازه هذه السنة أكبر حجم للأرباح في تاريخه. إنها حقّاً أرقام مخجلة.

مواقف الحركة اليسارية
تتخذ الحركة اليسارية الجديدة موقفاً صارماً تجاه الكثير من القضايا العالمية، حيث تعتبر أن إسرائيل دولة غازية، مع احتفاظها بدعم مشروع إقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية.
إبان الغزو الأمريكي للعراق طالبت الأحزاب اليسارية الأوروبية، بوقف العدوان الأمريكي على العراق، ودعا حزب اليسار الألماني، في بيان أصدره آنذاك، إلى وقف العدوان بصورة فورية وفقاً للشرعية الدولية، والذي جاء فيه أن العالم يشهد الآن تطوّرات مأساوية تتمثّل في تدمير إقليم آخر في الشرق الأوسط بعد بغداد وغزة.
أيضاً كان للأحزاب اليسارية الأوروبية موقف من العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، ونظم ائتلاف اليسار الأوروبي الذي يرأسه اليوناني أليكوس ألفانوس، عشرات المظاهرات المنددة بالحرب على لبنان.
في حين تعارض الحركات والمنظمات اليسارية الأوروبية، الاتحاد الأوروبي، وترى أنه فخ تنصبه الولايات المتحدة الأمريكية على سوق الإنتاج الأوروبي، من خلال فرض الدولار الأمريكي في السوق، حيث إن الاتحاد الأوروبي لم يشكل سياجاً للدول الأوروبية ذات الإنتاج المحدود، ولعل إعلان حكومة اليونان الإفلاس نموذج بسيط للرأسمالية الأمريكية البشعة التي تغطي على سياسة الاتحاد الأوروبي.
لذلك تبدو الدول الرأسمالية الأوروبية رهينة الرأسمالية الأمريكية، وهذه هي دعوة الحركات والمنظمات اليسارية الأوروبية لتحرير الاتحاد الأوروبي من الهيمنة الأمريكية.

الرأسمالية والإرهاب
في الاحتجاجات التي رافقت قمة الـ20 الأخيرة في هامبورج، رفع المتظاهرون شعارات مناهضة للسياسة الرأسمالية بكل صورها وأشكالها، ومنددة بطريقة تعامل الدول الغربية مع النازحين العرب، واستغلالها بطريقة قذرة.
كما حمل المتظاهرون الرؤساء المجتمعين في قمة الـ20 مسؤولية دعم الإرهاب وشن الحروب وتجارة الأسلحة وإشاعة الفقر والتطرف، متهمين الطغمة الحاكمة في الغرب بتحويل شعوب الشرق الأوسط الى شعوب فقيرة ومضطهدة ومُمزقة، وسوق للأسلحة الفتاكة لجعلها لقمة سائغة للنهب والاستغلال من قبل الطغمة السياسية والرأسمالية والمالية المُتوحشة في الغرب, التي لا تبالي بالسلم والأمن العالميين، ومُستهترة بحماية البيئة، وتُمارس الاضطهاد والقمع والتمييز العنصري والخرق الفاضح لحقوق الإنسان والديمقراطية.

القمع
تتعرض الاحتجاجات والتظاهرات التي ينظمها أنصار اليسار الجديد إلى قمع شديد من قبل السلطات الأوروبية، فعلاوة على قمع المتظاهرين بالقوة واعتقال البعض منهم، فإن سلطات القوى الرأسمالية عملت على تصفية الكثير من قيادات وناشطي اليسار الجديد، ولعل أبرزهم الإيطالي كارلو جولياتي، وآلاف الجرحى في تظاهرات قمم العشرين ومسيرات احتجاجية ضد العولمة النيوليبرالية إضافة إلى التعتيم والتشوية الإعلامي الممارس بحق الحركة اليسارية ومطالبها، فهم يمنعون أية وسيلة إعلامية تتحدث باسم اليسار من تغطية فعاليات قمم الدول الـ20 الاصطناعية أو دخول بلاط المعبد الرأسمالي الغربي.

صور الاحتجاجات
تتميز احتجاجات المناهضين للعولمة الرأسمالية بغرابتها وتعدد صورها، وعلى سبيل المثال شهدت الاحتجاجات التي رافقت قمة هامبورج الأخيرة أشكالاً مختلفة، حيث ارتدى المتظاهرون أقنعة لزعماء الدول الرأسمالية، فيما ارتدى آخرون ملابس رمادية مثل (الزومبي)، وشاركوا في استعراض فني للاحتجاج على مجموعة الـ20.
بينما ظهر أشخاص ملطخون بالطين، وقد تم عرض عمل فني لهم بعنوان (ألف شخصية)، كما نظم المتظاهرون احتجاجاً بـ(الرقص الليلي) قبل انطلاق القمة، وآخرون نظموا احتجاجاً على متن قوارب في بحيرة إينر ألستر مناهضاً للقمة.

الحرمان
بعيداً عن الدور الإيجابي الذي تقدمه الحركة اليسارية المناهضة للرأسمالية البشعة، إلا أنها لا تشكل تهديداً كبيراً يهز أركان الرأسمالية، حيث إن التجارب تؤكد أن مواجهة المشاريع الرأسمالية تحتاج للقوة والبناء والمواجهة الصريحة، وليس من خلال الخطابات الرنانة، إذ إن الإنجاز العظيم الذي حققته احتجاجات هامبورج لم يمنع القوة الرأسمالية الأمريكية من سلب عرق العمال والفلاحين، بل حرمت زوجة الرئيس الأمريكي ترامب ميلانيا من قضاء رحلة ممتعة، إذ لم تتكمن من مغادرة فندقها والمشاركة في البرنامج الترفيهي المخصص لزوجات الزعماء المشاركين في القمة.
لذلك يرى الكثيرون أن الحركة اليسارية الجديدة تحتاج إلى تغيير في أيديولوجية النضال والمواجهة، حيث قال سمير أمين، في إحدى ندوات ما يسمى الحركة البديلة، إن على الأحزاب والحركات اليسارية الجديدة أن تبذل المزيد من الجهد، وتتخذ أشكالاً تنظيمية أخرى، بدلاً من تنظيم الاحتجاجات، لردع وهزم هذا المخطط الليبرالي الجديد المتمثل في انعدام مجتمع الرفاه وحقوق الإنسان، وفي افتراس الأرض، وفي تلويث البيئة وتصحرها، وفي استنزاف المياه، وفي خلق ونشر الحروب، وفي التطهير العرقي، وفي فرض تبعية الحكام والدول.

هزيمة الرأسمالية
وبين هذا وذاك، أظهرت كاميرات التضليل في قاعة انعقاد قمة هامبورج الأخيرة، مدى استهتار قوى الرأسمالية الرجعية، فيما بدت الصورة الأخرى لاحتجاجات هامبورج من مشاهد تبادل القبلات المزيفة، أن العالم ليس منسجماً، والشعوب ليست راضية عن حكوماتها. وبين الصورتين تقف بشموخ بندقية المقاومة العربية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، في مواجهة الرأسمالية والاستعمار وأدواتهما.