استطلاع: شايف العين-مومباي-

على ساحلها الغربي المطل على بحر العرب، وبمساحة جغرافية تبلغ 4334 كم2، وتعداد سكاني وصل قبل خمسة أعوام إلى 22 مليون نسمة، تقع مدينة الجزر السبع وإحدى أكبر مدن الهند وأكثر مدن العالم صخبا وازدحاما.
بعد مضي شهر على الذكرى الـ71 لاغتياله، تحديدا نهاية فبراير العام الماضي، يقبع غاندي أمام بوابة الخروج من المطار الدولي بانتظار الوافدين إلى العاصمة التجارية للهند ليهمس لهم: لم أعد هنا!
ما إن تطأ بقدميك المطار، تباغتك زحمة شديدة، نتاج العدد الكبير للواصلين إليه والمغادرين منه، رغم مساحته الواسعة. ولكن فور خروجك منه إلى المدينة، لاسيما إذا كان الوقت بين السابعة صباحا والحادية عشرة ليلا، تقطع الشك باليقين أنك وصلت أرض المحشر، وأن جميع سكان الكرة الأرضية يرافقهم من في القبور متواجدون هناك، وكثرتهم تجعل صدرك ضيقا حرجا كأنما تصّعد في السماء. مرحبا بك في عاصمة ولاية ماهراشترا: بومباي قبل 1995 ومومباي بعده، الوجهة المثلى إذا ما أردت اختزال شبه القارة الهندية في مدينة. 

سبع جزر مهراً لأميرة برتغالية
بحسب المعلومات التاريخية، تشكلت مدينة بومباي من سبع جزر تسلمها الاحتلال البرتغالي من إنجلترا كجزء من مهر الأميرة البرتغالية كاترين براغانزا، عندما تزوجت من تشارلز الثاني في عام 1661. 
في وقت سابق كانت تلك الجزر جزءًا من إمبراطوريات الشعوب الأصلية، مثل سلالة شيلهارا وسلطان غوجارات، قبل أن يسيطر عليها البرتغاليون في عام 1534. 
بعد الحصول عليها كمهر، استأجر تشارلز الثاني الجزر لشركة الهند الشرقية في عام 1668 مقابل 10 جنيهات إسترلينية سنويًا. وبحلول عام 1845 تم دمج الجزر في كتلة واحدة من الأراضي، من خلال مشاريع متعددة لاستصلاح الأراضي، وفي وقت لاحق دمجت معها الجزر القريبة من ترومباي وسالسيلت، لتشكيل بومباي الكبرى، وجميعها تشكل اليوم الجزء الجنوبي من مدينة مومباي.

ازدحام صاخب وسريع
بكل ما تحمل كلمة ضجيج من معنى، تعتاد أذناك على ذلك في شوارع وأزقة المدينة، فملايين البشر على متن سيارات وقطارات ودراجات يتنافسون في ماراثون حياة هو الأضخم من نوعه على الوصول إلى الوجهة المطلوبة.
وإذا كنت تزور مومباي لأول مرة فهذا يعني أن عليك الحذر وأنت تحاول اجتياز شوارعها، فلا أحد سيبطئ سرعة مركبته ليسمح لك بالمشاركة في الماراثون وإكمال خطواتك إلى الجهة المقابلة، وهذه من الغرائب التي ستلاحظها من أول وهلة.
ومن شدة الازدحام الذي يعصر المدينة التجارية فإن قطع مسافة 12 كم بالسيارة يتطلب ما بين ساعة إلى ساعة ونصف الساعة، رغم الجسور والطرقات المتسعة، لذا لا بد من أن يكون الزائر للمدينة صبوراً وذا سعة صدر.
ومن دلائل الحياة الصاخبة ستلاحظ الطبول التي لا تتوقف عن دق أغشيتها لتسمعك أنك في الهند وتجدها في معظم شوارع المدينة ومن حولها أناس يرقصون ويحتفلون دون مناسبة، عفوا فكل يوم هناك لا يخلو من مناسبة.
كذلك السيرك الشعبي المتجول بين أحيائها السكنية يلاحظه الزائر عدة مرات في الأسبوع على الأقل، كالمشي على الحبال وأداء حركات بهلوانية ساحرة عليها... أما الصوت الذي لن تسمعه أذناك في مومباي فهو صوت معدتك.

البحث عن الجوع
في مومباي ستبحث عن الجوع، لأن المدينة بأحيائها السكنية وشوارعها وأزقتها تعج بأماكن الأكل المتاح للغني والفقير، فمطبخها ثري جدا، وجادت عليه المطابخ العربية والفارسية بما لديها من نكهات إلى جانب ما تملكه وتفخر به من مأكولات. 
سكان المدينة لا يلتزمون بوقت محدد لأكل وجباتهم، التي لا عدد يحددها. يأكلون على مدار الساعة، كيف لا وحيثما وليت وجهك تجد محال الوجبات السريعة تصطف بالعشرات جنبا إلى جنب في كل شارع، وأمامها ترى العجب من زبائنها الكثر الذين يتناوبون على أكل الباني بوري اللاذع (حساء وخبز مقلي) والشاورما والكباب والباف بهاجي (كعكة جافة مغطاة بالتوابل والخضروات المطهوة والمهروسة) والفادا باف أو برغر الفقراء كما يسميه البعض (خبز وبطاطا) والفرانكي (خبز طري محشو باللحم)... ولا تخلو أكلة هندية من صلصة الماسالا الحارة، سر مذاق المطبخ الهندي. 
وكأجنبي ليس من السهل عليك أن تعتاد الأكل المتواصل، فمعدتك لا تقوى على مجاراة ما اعتاده الهنود، إلا إذا أرغمت لسانك وحاسة التذوق لديك على تحمل ألم البهارات الحارة طوال وجودك في بلد المليار وربع المليار نسمة، فالفلفل الحار هو العامل الأساسي -كما يرى أهل البلد- في فتح الشهية باستمرار.

مسالا الهند والطقس بدرجة حرارة 35 مئوية
من الأمور المتعبة في عاصمة الهند التجارية درجة الحرارة المرتفعة جدا، والتي يعجز أبناء المناطق الباردة في اليمن على التكيف معها، كونها تشابه طقس مدينة الحديدة غربي البلاد، وبين مارس ويوليو تصل إلى 37 درجة مئوية، والرطوبة تتجاوز الـ90?.
رغم ذلك فإن درجة حرارة الفلفل الذي يدخل في إعداد 90% من أطباق المطبخ الهندي، هي ما يجعل الأمور تسير بشكل سيئ على كل من يزور الهند، ومومباي تحديدا، ولا يستطيع أن يتحمل الأكل الحار، ولا حل أمامه سوى التخلي عن تحفظه.
فالباهوت جولوكيا يقعد للزائرين الأجانب بالمرصاد، وهو أشهر وأفتك أنواع الفلفل، ويسمى بالشبح، نتيجة حرارته الشديدة، وقد حمل الرقم القياسي بين أشد الأنواع اللاذعة لعام 2007, ويتقاسم النفوذ والسيطرة على مومباي مع بوليوود السينما الهندية. 

مشهد حقيقي من بوليوود
إذا رأيت الشوارع والبنايات ولوحات الإعلانات تعج بصور نجوم بوليوود والتي سيطر عليها النجم الهندي سلمان خان في العشر السنوات الأخيرة وبات الأكثر شعبية في بلد يتجاوز عدد سكانه المليار نسمة، فتأكد أنك في مومباي، مدينة السينما الهندية.
والغريب أن الهنود يمنحون تذاكر دور السينما الأهمية الكبيرة ويعتبرونها جزءا أساسيا من متطلبات حياتهم، حتى أن المسحوقين (الطبقة الأشد فقرا) يجمعون المال طيلة شهر مقابل الجلوس أمام شاشة عرض عملاقة والانغماس في تفاصيل فيلم جديد من إنتاج بوليوود، ليحققوا بذلك حلما يراودهم طيلة 30 يوما.
قبل مغادرتنا الهند إلى الوطن بيوم واحد كنا نتجول في شارع شاندي نجر بميرا روود، وهو سوق شعبي مليء بالملابس والأزياء والأحذية ذات السعر المتوسط والتي عدد المتسوقين أكثر منها بكثير. ودون سابق إنذار في الرابعة عصرا اختفت الشمس وغشي السماء شيء من الليل، ورأينا الناس من حولنا يسرعون إلى داخل المحلات التجارية. لم نعلم ماذا يحدث إلا بعد لحظات، حيث كانوا يفسحون مجالا في المكان لما ألقته السحب من أمطار غزيرة جدا لم يسبق أن رأينا مثلها من قبل، بل شاهدها آباؤنا لأول مرة تنهمر على أميتاب باتشان، وكل هذا حدث بالفعل ما بين عشرين إلى ثلاثين ثانية تقريبا.
كان المشهد صادما لنا، وولد في قرارة نفسي شخصيا اعتذارا للهنود على اعتقادي السابق بأن هطول الأمطار بتلك الغزارة على نجوم بوليوود وهم يخوضون المعارك مع العصابات ليست سوى مشاهد مصطنعة، لكنها بالفعل حقيقة يشاهدها سكان مومباي طيلة فصل الصيف، وفي مدن أخرى طيلة العام. وكزائر للمدينة تتمنى هطولها في التاسع من مارس لتغتسل من ألوان الهولي. 

رشقة ألوان إجبارية 
تحتفل المدن الهندية في مارس كل عام بالعيد الأضخم في البلاد، وهو الهولي، أو عيد الألوان، المرتبط بالهندوس، وهم الغالبية العظمى، حيث يتراشق المواطنون طوال يومين بمساحيق الألوان التي تكتظ الشوارع ببائعيها.
وإلى جانب الاحتفالات الشعبية الضخمة بالهولي يقوم الهنود ليلة أول يوم للعيد بجمع كومة من الأخشاب والأوراق في كل حي وإشعالها، ليأتي المنتمون لإحدى الطوائف الهندوسية ويأخذوا رمادها وينثروه فوق رؤوسهم كنوع من تطهير النفس من الذنوب بحسب اعتقادهم.
وكغريب عن البلد يجب عليك المكوث في بيتك إذا كنت لا تريد أن تتلطخ بالألوان من أناس لا تعرفهم ولا يمكنك أن تفتعل مشاكل معهم أو تشكوهم للشرطة، لأن لهم الحق وفقا للقانون الهندي.
فكل من يسير في الشوارع خلال عيد الألوان لا بد أن تنال ملابسه وبشرته نصيبها من مساحيق الألوان رغما عنه، كون المحتفلين هم الهندوس وبقية الطوائف الدينية، عدا المسلمين الذين يلزم غالبيتهم منازلهم تجنبا للتعرض لرشقة من اللون الأحمر أو الأخضر أو أي لون يمسكه المحتفل في يده أثناء مرورك من أمامه.
وأكد مواطنون يمنيون مقيمون في مومباي التقينا بهم أثناء الاحتفال أنه لا يمكنك تجنب لطخة الألوان إلا بالجلوس داخل بيتك، لأن الجميع سيرميك بمساحيق الألوان، وإذا افتعلت مشاكل معهم تأتي الشرطة وتقبض عليك، كونك تعديت على قانون من قوانين البلد الذي تخلى عمن وصفه بروحه العظيمة للوصاية البريطانية.

نضال غاندي يتوج بأصابع دجاج حارة تحت الانتداب
لا تزر الهند بحثاً عن زعيمها غاندي، لأنك لن تجده إلا على هيئة تماثيل وصور بلا أثر. وهنا تأتي الصدمة لمن يزورها معتقداً أنها ما زالت كما تركها أبو الأمة، كما يلقبونه، إذا فرضنا أنها نالت الاستقلال بالفعل.
كانت زيارتنا إلى الهند بغرض العلاج بعد شهر واحد من إحيائها للذكرى الـ71 لاغتيال زعيمها السياسي، الملقب بالمهاتما غاندي (الروح العظيمة)، واسمه الحقيقي منذ ولادته في 2 أكتوبر 1869 هو موهانداس كرمشاند غاندي، الذي حاز لقب "أبو الأمة"، لدوره النضالي الكبير في تاريخ البلاد. 
تزعم غاندي نضال الهنود ضد الاحتلال البريطاني والسيطرة الأجنبية، وقاد بلاده إلى الاستقلال، وقاد مع أنصاره تظاهرة سارت 400 كيلومتر، احتجاجاً على فرض بريطانيا ضريبة على الملح، في مسيرة ملح داندي الشهيرة عام 1930.
وفي 30 يناير سنة 1948 أطلق أحد الهندوس، ويدعى ناثورم جوتسي، ثلاث رصاصات على غاندي سقط إثرها قتيلا عن عمر ناهز 78 عاماً، لتنتهي حياته بعد أن تعرض قبلها لخمس محاولات اغتيال فشلت ونجحت السادسة.
وللمعجبين بالمهاتما ودوره النضالي يجدر الإشارة إلى أن الهند وقوى الظلم والاحتلال اغتالت المهاتما غاندي للمرة السابعة، وهذه المرة تظهر جلية عندما تزور البلاد.
روح الهند العظيمة استُبدلت اليوم بمطاعم وكافيهات كنتاكي وماكدونالز، ولم يعد لغاندي من وجود سوى في صور وتماثيل بلا روح.
عند زيارتنا مدينة كولابا في مومباي لمشاهدة بوابة الهند أحد المعالم الشهيرة هناك، لاحظنا طابع العمارة الفيكتورية مسيطراً سيطرة تامة على مبانيها. ليس ذلك فقط، بل الأسوأ أنه بمجرد صعودك على متن قارب من بوابة الهند باتجاه جزيرة إليفانت (جزيرة القرود) تتفاجأ بقواعد عسكرية بريطانية وبوارج حربية متواجدة في ساحل المدينة على بعد كيلومترين فقط من البوابة التي تجاور فندق تاج محل الشهير الذي يتجاوز عمره مائة عام.
حينها تدرك أن نضالات الهند لم تتوج سوى بسوق وصاية مليء بأصابع الدجاج التي تحالفت مع الفلفل الهندي الحار وكونت صورة لبلاد تقبع تحت الانتداب. وتتأكد وأنت تدخل إلى مطار مومباي بانتظار رحلة العودة إلى الوطن أن تمثال غاندي القابع عند البوابة حزين جدا ويهمس في أذنك: لا تخبر أحدا عما رأيته في بلدي!