عبدالفتاح الحكيمي / لا ميديا -

 توطئة:
إلى إخوتنا (اليمنيين) في الرياض الذين يحاولون طعن ظهور أقلامنا من وراء الستار.. أقول لهم ما قالته مجندة أمريكية في حرب الخليج الثانية على العراق، عندما أوقف سيارتها جندي من المطاوعة في نقطة تفتيش في الخبر، فنزلت وهي تمسك بشعر ذقنه: «لقد جئت للدفاع عن هذه اللحية».
يحسب لقيادة الشطر الجنوبي من اليمن سابقا (1967 ـ 1990) مواقف وطنية كبيرة حافظت من خلالها على وحدة أراضي البلاد من الابتلاع وتقوية الوضع التفاوضي اللاحق للكيان الجديد بعد الوحدة مع السعوديين، حيث يقع معظم الخط الحدودي البري اليمني على حدود حضرموت، المهرة جنوبا.
قبيل إعلان وحدة 22 مايو 1990، أوفدت المملكة وزير خارجيتها الأشهر، سعود الفيصل، إلى عدن على طائرة خاصة في مهمتين خطيرتين؛
الأولى: إقناع النظام بالتراجع عن قرار الاندماج مع شمال البلاد في كيان دولي جديد موحد على وشك الإعلان.
والثانية: ترسيم حدود جنوب اليمن الطويل معهم كحد أدنى لنجاح المهمة التاريخية الفاشلة. 
رفضت قيادات الجنوب الوطنية العرضين معاً، بما فيهما ترسيم الحدود من طرف يمني واحد مع السعوديين. 
كان عرض المملكة أمام علي سالم البيض وحيدر العطاس وياسين سعيد نعمان مغرياً، بعد أن حمل سعود الفيصل في حقيبته دفتر شيكات جاهزاً ومفتوحاً تحت الطلب لإعادة إعمار وتنمية الجنوب والاستثمار وفتح عزلته الإقليمية بدون حدود.
ظلت مراكز قوى النظام الحاكم في عدن طوال 3 عقود وفية لمبادئها الكبيرة، ووفرت لقيادات الشمال المتخاذلة عنصر حماية غير مباشرة من تمادي وتعديات السعوديين الجائرة على أراضيه، فخاضت عدن معارك ضارية مع السعوديين بين 27 نوفمبر و7 ديسمبر 1969، الموافق 14 ـ 21 رمضان، لاستعادة الوديعة وشرورة والخراخير المحتلة، وتقدمت القوات في قرن الوديعة والتفت على شرورة.. واستأجر بنو سعود قوات جوية أمريكية لصد الهجوم اليمني البري والجوي الكبير بمساعدة مرتزقة جنوبيين بقيادة الهبيلي، وتمكنوا من صد الهجوم بعد خسائر فادحة، ويعترف السعوديون باحتلال تلك الأراضي اليمنية ويحتفلون بنتيجة بمعركة الوديعة. ويؤكد ذلك آخر مقال في موقع «السعودية نيوز» بتاريخ 6 ديسمبر 2018، بعنوان (انتصار سعودي في حرب الوديعة): في مثل هذا اليوم عام 1969، انتصرت المملكة العربية السعودية في حرب الوديعة وسيطرت على شرورة والوديعة وتحتل المنفذ الجنوبي «السعودية نيوز»:ثم تجددت معارك جيش جنوب اليمن على المناطق ذاتها عام 1972، واستمر بنو سعود في إرسال المرتزقة لتسميم آبار مياه الشرب في شبوة والتسلل عبر البيضاء لتنفيذ عمليات تخريب في مصافي وميناء عدن وغيرها.
ولكن لم يمر تجديد التوقيع على تمديد اتفاقية الطائف الحدودية بين صنعاء والرياض عام 1974 دون رد «عالمي» مزلزل من عدن، بصرف النظر عن مدى تقييمنا الآن لما حدث؛ فلم يعترف الجنوب بمعاهدة الطائف التي تنازل بموجبها الإمام يحيى حميد الدين قسرا عن نجران وجيزان وعسير اليمنية للسعاودة، فتولت أجهزة أمن الدولة والاستخبارات في عدن بالتعاون مع خلايا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الخارج التخطيط لاغتيال نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق محمد أحمد نعمان، في بيروت في 28 يونيو 1974، بمسدس كاتم للصوت أثناء خروجه من سيارته، ومن بعده اغتيل ايضا رئيس الوزراء الأسبق القاضي عبدالله الحجري وزوجته (فاطمة) والقائم بأعمال السفارة في لندن عبدالله الحمامي في 10 أبريل 1977، على خلفية تجديد التوقيع على معاهدة الطائف مع السعودية في زيارة مشتركة للقاضي والنعمان الابن في مايو 74 إلى مملكة السعودية، ونفذ عملية لندن شاب فلسطيني في الـ23 من العمر، هو يوسف زهير عكاشة، الذي قتل بعدها بأشهر في أكتوبر 77 بمطار مقديشو، في عملية اختطاف طائرة الركاب الألمانية الشهيرة، ولا يستبعد أن يكون هو قاتل النعمان أيضاً. كما تمت تصفية الرئيس أحمد الغشمي بعد أكثر من عام ونيف فقط، في 24 يونيو 78 أيضاً بالحقيبة المفخخة الشهيرة بلعبة استخبارية من عدن ليس انتقاما للرئيس إبراهيم الحمدي فقط ولكن للمبادئ التي دبر الأشقاء بتواطؤ الداخل اغتياله بسببها أيضا، أبرزها وحدة الأرض والإنسان وريادة اليمن للعب دورها الإقليمي اللائق، على الرغم من استغلال نظام عدن الماركسي الواقعة للتخلص من الرئيس الشهيد سالم ربيع علي الذي ألصقوا به العملية.


التحايل على اتفاقية جدة
ظلت قضية الحدود مع الجيران ملغومة بين الحكام الذين تعاقبوا على حكم اليمن، ومحل يقظة وحالة توجس دائمة في أوساط النخب والقادة السياسيين، وأحيطت بحراسة الوعي الشعبي كجزء من الاهتمامات الخاصة في البلاد كلها.. وأي تنازل او حتى تفاهمات حولها يحسب من باب التفريط. وما فعله الحجري والنعمان الابن وكلفهما حياتهما، كرسه الرئيس صالح والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر مع انتهاء تجديد «معاهدة الطائف» بمسمى مختلف «مذكرة تفاهم جدة» في فبراير 1995. وفوض الرئيس علي عبدالله صالح الشيخ الأحمر لرئاسة الجانب اليمني في لجنة ترسيم الحدود النهائية مع السعوديين شمالاً وجنوباً، ووضعه في الواجهة للتخلص من تبعات شخصية محتملة. فمهما انفرد أي حاكم بالسلطة في اليمن إلا أنه يدرك في النهاية حدود سلطته وسطوته أمام إرادة الفعل الشعبي والوجدان العام الذي لا تمرر عليه الصفقات المشبوهة. وهذه معادلة لم يفهمها أو يستوعبها الأشقاء في طبيعة النفسية والعقلية اليمنية (التضامنية) في مواقف الخطر المصيرية التي تتهددهم. فالحرية والكرامة والحقوق الوطنية قيم ثابتة في الوعي الجمعي عندنا يحسب لها الحاكم ألف مرة، بعكس الذين اعتادوا التعامل مع شعوبهم كقطيع، ثم أغراهم الزهو مجددا منذ 2015 بمحاولة فرض سلوك مماثل على غيرهم في بيئة طاردة متمردة على الضيم والإذلال.
مرت اتفاقية ترسيم الحدود بين اليمن وسلطنة عمان عام 1992 بسلاسة دون منغصات أو توتر ورفع الجاهزية القتالية بين البلدين.
تعتبر اتفاقية جدة 12 يونيو 2000 لترسيم الحدود بين اليمن والسعودية مجحفة، استولى فيها الأشقاء على 3 أقاليم يمنية (نجران، جيزان، عسير) وبينها آلاف الكيلومترات في الربع الخالي (المليان) والوديعة وشرورة والخراخير والبديع في حدود الجنوب، والزحف مؤخراً باتجاه ميناء نشطون المهري في بحر العرب. ورغم كل ذلك تستغل الأوضاع الأمنية والعسكرية في اليمن لمعاودة استقطاع المستقطع وإلغاء العلامات الحدودية والتوغل في عمق حدود محافظات حضرموت والمهرة. ويفرض مشروع تقسيم قسري جديد بمسمى «المصالح المشتركة بين البلدين» لتمرير مشروع «أنبوب وقناة بحر العرب»، دون موافقة أو رغبة الطرف الآخر الذي لم تحترم سيادته على حدود أرضه وثرواته، وسط احتجاجات شعبية متواصلة في المهرة على وجه الخصوص.

صراع يمني سعودي جديد
لم تعترف بريطانيا، التي احتلت جنوب اليمن قبل ذلك، بالوجود السعودي في شرورة أو غيرها، فيما لم تعترف السعودية بخط الاستقلال الذي رسم حدود اتحاد الجنوب العربي معها، جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لاحقا.
واستمر استيلاء المملكة على منطقة الربع الخالي (غير المرسمة دوليا) واستقطاعها طوال فترة الحرب الجمهورية الملكية منذ 1962 وحتى 1969، مع اندلاع الحرب بين سلطات جنوب اليمن وحكم بني سعود. واستغل «الأشقاء» عدم ترسيم الربع الخالي للتوغل في عمق الوديعة والخراخير التي اعتمدها خط الاستقلال ضمن أراضي جنوب اليمن، وكذلك شرورة، لفرض أمر واقع بالقوة.
في ديسمبر 1994، بعد أشهر فقط على حرب 94 الداخلية في اليمن، تكرر مشهد العدوان والاستيلاء على اراضي حضرموت والمهرة والربع الخالي، وجوبه ذلك برد فعل عسكري يمني قوي حيث اخترقت قوة يمنية شرق مركز الخراخير، ووقعت اشتباكات عنيفة حول منطقة (البوقة) اليمنية، وتدخلت وساطة سورية بطلب سعودي لتنسحب القوات اليمنية إلى تموضعها السابق. وكان من السهل على كاتب المقال وغيره مشاهدة الصواريخ الباليستية وغيرها تخرج من جبل نقم بصنعاء محمولة على منصات أو شاحنات عسكرية تشق طريقها من جولة الحصبة وطريق الجراف باتجاه مأرب والجوف وحضرموت.
راهنت السعودية في مغامرتها تلك على لجوء عدد كبير من القادة العسكريين والجنود الجنوبيين إلى أراضيها بعد حرب صيف 94.
ربما كان هدف عدوان ديسمبر الذي بدأته هي بتسلل المرتزقة هو إعادة فصل حضرموت والمهرة بدعم الفارين الجدد إليها، بعد أن فشل دعم المملكة العسكري لهم بالسلاح الثقيل المتطور والمتنوع والأموال التي تدفقت عبر شرورة في يونيو صيف 94، قبل فرار علي سالم البيض إلى عمان لفرض أمر واقع آخر في الجنوب.

لغة الصواريخ
أشهر علي عبدالله صالح في وجوههم الصواريخ ذاتها التي غنمتها قواته من معسكرات في صلاح الدين بعدن والعند بلحج والمهرة.
اتهم سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، اليمن بالتصعيد الحدودي، وقال إن عدداً من التجاوزات الحدودية قد بدأ منذ ديسمبر 1994 وإن السعودية تفضل عدم تصعيد الأمور مع اليمن، لكنها لن تقبل بالأمر الواقع الذي يحاول اليمن فرضه. 
وزعم السعوديون أيضا أن اليمن لم تلتزم بالوعد الذي قطعته لنائب الرئيس السوري بالانسحاب، بل عززت قواتها في المركز الذي احتلته.
ولعدم ثقة اليمن بنوايا المملكة، طلبت تدخل طرف ثالث هما (مصر وسوريا) واللجوء إلى التحكيم الدولي الذي يعني عدم الاعتراف ضمنا بمعاهدة الطائف 1934، لكن السعوديين بسبب ضعف حجتهم أصروا على مفاوضات ثنائية تحمس لها الشيخ الأحمر أكثر!
غير أن المواجهات المسلحة اندلعت من جديد في حدود حضرموت والجوف في فبراير 95 مع حلول شهر رمضان، رغم تصريح الرئيس صالح أن بلاده غير مستعدة للدخول في حرب مع أشقائها. لكن إعلان عبدالله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب رئيس لجنة «تفاهمات جدة»، إصراره على البقاء أيضا في السعودية أثار حوله الشكوك وأضعف الموقف أكثر من رغبة تفادي الحرب. 
وقعت مذكرة التفاهم في 27 رمضان 1415 (فبراير 1995)، لكن مسار التسوية والاتفاق النهائي استغرق أكثر من 6 سنوات لاحقة بالنظر إلى غشامة «الأشقاء». فعاودت المواجهات العسكرية بين الجانبين بشراسة في نوفمبر 1997. وكرد فعل منها، لجأت السعودية إلى خلط الأوراق في حدود المنطقة كلها للانتقام من الجميع أواخر يونيو 1998، لتعطيل اتفاق ترسيم الحدود البرية بين اليمن وسلطنة عمان الذي تم في أكتوبر 92، وسلمت خرائطه إلى الجامعة العربية عام 1997.