أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
تعاني بلادنا من حالة تدهور مخيفة منذ العام 2015، ورغم أن جذور التدهور سابقة لذلك، إلا أن الحرب بأبعادها المختلفة هي آلية التدمير الأبرز، والتي فجرت الاحتقانات والأزمات مرة واحدة، فبلغت المعاناة الاجتماعية في كل اليمن مستويات غير مسبوقة في تاريخ اليمن الموحد.
مر على الحرب وظروف التدهور 9 سنوات، وهي فترة كافية لتحرق البلد وتدمر المجتمع، وهي أيضاً فترة أكثر من كافية لندرك ما يجري، ونعمل جميعاً على وقف مسار التدمير، ونشرع في عملية البناء، ونعالج الاختلالات الاستراتيجية التي تهدد الكيان اليمني ومستقبله في ظل التحولات الدولية الراهنة.
منذ بداية الحرب في العام 2015 حتى عامنا هذا 2024، هناك تغيرات دولية كبيرة، ونحن نعيش سنوات يتم فيها إعادة تشكيل النظام العالمي من جديد، ودول الإقليم من حولنا تسعى لأن تضمن مستقبلاً مشرقاً لشعوبها، وتكون جزءاً فاعلاً في بُنية النظام العالمي القادم، وعلينا في اليمن التفكير في هذا الأمر.
مؤخراً وجدت اليمن نفسها -ضمن تداعيات حرب غزة- جزءاً من الحرب، وتقوم بعمليات من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، هذا الأمر سوف يكون له تداعيات من القوى الغربية الرافضة للدور الذي تقوم به اليمن، ومن جهة اُخرى فإن هذا الحضور اليمني في الإقليم عسكريا واستثمار الموقع الجغرافي المميز لليمن، يتطلب أن تكون الدولة اليمنية قادرة على الاستفادة منه سياسياً، ودعمه مؤسسياً واقتصادياً.
إننا بحاجة فعلاً إلى بناء دولة يمنية قوية موحدة مستقرة، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت دولة وطنية ديمقراطية ودولة إنتاج ورعاية اجتماعية، تستمد قوتها من كل الشعب وتذهب خيراتها لكل الشعب، وآن أن نبني هذه الدولة، لنغلق ملفات سوداء من الصراعات الداخلية اليمنية من الحروب والتمردات والغزوات والظلم والقهر والإقصاء والجوع والتشرد والتفكك التي تعود لما يقارب نصف قرن.
التاريخ لا ينتظر أحداً، علينا أن نوجد هذه الفرصة وإلا فسنتحول إلى دويلات متصارعة واليمن اليوم فعلاً مقسمة دويلات، ولكن لايزال بالإمكان تفادي ذلك.
إن المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، والعودة إلى التوافق، وانتهاج الشراكة الوطنية، مدخل حقيقي لإنقاذ اليمن من دوامة الحرب ومن مسار التدهور، وهذه المبادئ عادلة، تطبيقها لن يكون ضرراً إلا على من يريد الاستحواذ والاستبداد.
إن المصالحة الوطنية، هي مدخل حل الخلافات البينية ومعالجة الاختلالات الاستراتيجية، وهي مدخل للتطور، لكننا في واقع دولي صعب، والمصالحة الوطنية لا تعني التصالح مع التدخلات الأجنبية ولا تعني إلغاء المسؤولية الجنائية والاقتصادية من تعويض وإعادة إعمار للدول التي شاركت في الحرب على اليمن، فهذه القضايا ستظل، ويجب أن تحل سياسياً، ضمن ملف السياسة الخارجية المتفق عليها والذي يُعلي مصالح اليمن أولاً.
ولا بد من التأكيد على ضرورة القوة المسلحة في الدفاع عن البلد وصون سيادته واعتبار ما لدى اليمن اليوم من سلاح استراتيجي مكتسبا وطنيا لليمن كلها، مع التأكيد أن صون السيادة الوطنية لا يتأتى بالسلاح وحده، بل معه بالضرورة بناء مجتمع متماسك يصعب اختراقه والنفاذ إليه وتشغيله في خدمة سياسات الدول الأجنبية.
كما أن صون سيادة البلد، وحماية أمنه القومي، يكون بانتهاج سياسات خارجية، قائمة على المصلحة الوطنية والتوازن وتبادل المنافع مع مختلف دول العالم، وعلى الأخص العربية والإسلامية والإفريقية، مع التمسك بنهج معاداة الإمبريالية والصهيونية.

ثغرات التدخل الأجنبي
التدخل العسكري الأجنبي في العام 2015، وما ارتبطت به من معارك داخل حدود الجمهورية اليمنية وخارجها، والحصار الخارجي المتزامن معه، وانقطاع الطرق داخلياً، كان الضربة القاضية على حاضر اليمن ولايزال بالإمكان إنقاذ مستقبلها.
ولم يأت التدخل العسكري الخارجي على اليمن، إلا لأنها كانت مهيأة لذلك في لحظة وهن إثر مخلفات الماضي، كانت هناك ثغرات سهلت للأجانب النفاذ ومازالت قائمة، وعلينا كيمنيين سدها بجدية حتى لا تتسرب اليمن من بين أيدينا، وهذه الثغرات هي:
- اختلال المعادلة السياسية الاجتماعية من عام 1994.
- عدم وجود عملية انتقال سلمي للسلطة وديمقراطية حقيقية.
- عدم وجود مواطنة متساوية وتكافؤ فرص، ومؤسسة قضائية مستقلة ضامنة.
- وعدم وجود برامج تنمية استراتيجية، قائمة على الإنتاج والعدالة، وتوازن المصالح بين مناطق اليمن المختلفة.
العوامل سابقة الذكر هي أبرز الثغرات وليست كلها، وقد ورثتها الجمهورية اليمنية الموحدة من مرحلة التشطير ولم تعالجها بعد الوحدة، بل تعمقت أكثر، هذه العوامل جعلت الحياة الاجتماعية والسياسية قائمة على القهر والتسلط والحرمان والتفاوت الاجتماعي والتعصب المناطقي، وعدم قبول الآخر، وجعلت الحرب مهنة والخيانة فرصة عمل.

القضية الملحة
تتسم هذه الفترة من تاريخ بلادنا بالتشتت والتمزق، والترصد، والاحتراب في بعده الداخلي، في ظل الهدنة غير الرسمية مع المعتدي الخارجي، ونحن بأمسّ ما نكون إلى التوافق حول رؤية مشتركة تحدد السياسات والتوجهات الضرورية التي تمكن البلاد من معالجة مشاكلها الداخلية والخارجية، رؤية لكي ينفذها الجميع دون تردد ومماطلة، فعلى الجميع المشاركة في صنعها، كل الأطراف اليمنية المنضوية ضمن "حكومة صنعاء"، والمنضوية ضمن "حكومة عدن"، والأطراف غير المنضوية في الحكومتين.
إن هذه المسألة قضية وطنية وبديهية وواقعية، قبل أن تكون بنداً في جهود السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة، والتي أعلنت أنها توصلت إلى "خارطة طريق" وهي مسألة مهمة لا بد من الاستثمار بها، ولكن الحل في الداخل، فالجهود الدولية عرضة للتأثير عليها من قبل الدول المختلفة.
إن المهم اليوم هو العودة إلى مائدة الحوار والمصالحة بعد كل ما جرى من حرب وصراع وما أسفر عنهما من جراحات وأوجاع لا يمكن الاستهانة بها وبآثارها التدميرية إن لم تعالج.
إن الحرب مشكلة دفعت إليها تطورات الأوضاع المحلية والإقليمية، وقد وقعت الحرب وعانى الجميع منها، وما هو أشد خطورة من الحرب، هو ترك تداعياتها وعدم معالجتها، فيمكن لحرب استمرت سنوات أن تمتد تداعياتها إلى عقود، وهناك دول في آسيا الوسطى وشرق أوروبا وإفريقيا، محيت من الخارطة وتحولت لأكثر من بلد، أو عادت إلى زمن العشائر المتحاربة تعيش حياة اجتماعية اقتصادية بدائية وبائسة، ويمكن لليمن أن تصبح كذلك إذا لم نتفاد الأمر ومسار التدهور الراهن يجعل كل متابع قلقا من ذهاب اليمن إلى هذه المآلات الخطيرة.
في تاريخنا هناك نماذج تدميرية من سياسات ما بعد الحرب، السياسات المسؤولة عن وصول اليمن إلى ما هي عليه الآن، وهي السياسات الهادفة لتصفية الطرف المهزوم، ولدينا نماذج ما بعد حرب 1986، ما بعد الحروب الوسطى، ما بعد حرب 1994، ما بعد حرب صعدة 2004؛ فقد واصل المنتصر الحرب ضد الخصم، في وقت الحاجة للسلام والمداواة، ولم يستثمر القوة والثروة في بناء دولة مواطنة بل قسمها غنائم.

الفراغ الاستراتيجي
في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، تسعى كل بلد إلى أن تحجز لنفسها مكانة مرموقة في مستقبل ما بعد التعددية القطبية، ونحن نشاهدها حولنا في إفريقيا ومنطقة الخليج وأمريكا اللاتينية، فتظهر تكتلات اقتصادية جديدة كالـ«بريكس»، وتحالفات أمنية كـ«شنغهاي»، وتسعى دول لتنويع علاقاتها الخارجية كدول مجلس التعاون الخليجي، وتنويع فروعها الاقتصادية، وتعميق دورها الإقليمي وتطوير بنيتها الاقتصادية وعلاقتها الدولية كما تفعل الجزائر وإثيوبيا ومصر، وإلى إجراء مصالحة في محيطها كما تفعل إيران وتركيا والسعودية والإمارات، فيما يسعى الكيان الصهيوني إلى توسيع علاقته الخارجية عبر التطبيع، مختلف هذه الدول التي ذكرت والتي لم تذكر، تفكر جيداً في مستقبلها في ظل التحولات العالمية.
ونحن في الجمهورية اليمنية بحاجة إلى أن نفكر في مستقبلنا، إلى تطوير اقتصادنا، وعلاقتنا الخارجية، وتحالفاتنا الدولية، وتعزيز مكانة مرموقة لنا إقليميا ودولياً، بلدنا يحتاج كل ما تحتاجه بقية البُلدان يحتاج إلى فتح آفاق جديدة، وإلا سوف يتجاوزه التاريخ، واليمن لا تستطيع أن تقوم بذلك ما لم تعالج الاختلالات الاستراتيجية.
تكمن الاختلالات الاستراتيجية في كون الجغرافيا اليمنية ممزقة، وتحت سيطرة أكثر من سلطة، والموقع الاستراتيجي لليمن عرضة للاستقطابات الدولية، لا يوجد لليمن طرف يعبر عن سياستها الخارجية ويقيم العلاقات الدولية ويمثل الشعب ومصالحه، وبدون مركز سياسي يمني واحد وبدون جغرافيا يمنية موحدة، لا يمكن لليمن أن تواكب التحولات العالمية وأن تضمن مكانة مرموقة لها في الإقليم، بأن تعزز علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي والإفريقي، وعلاقتها مع بقية دول العالم.

الحرب لم تلغ المشاكل
لا يمكن لطرف يمني اليوم في الوضع الراهن لوحده أن يقود جزءا من اليمن نحو التطور ومواكبة التحولات الدولية بدون الاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية الأخرى، ومن المتعذر السعي لبسط السيطرة عسكريا وتجديد الجراح القديمة فعودة الحرب ليست حلاً وهي تهدد بتفكك اليمن الذي هو اليوم أكثر عرضة لذلك من عام 2015م حين بدأت «عاصفة الحزم».
إن الحرب التي نكأت كل الجراح التاريخية، وفجرت مختلف الأزمات والاحتقانات، لم تلغ المشاكل السابقة لها، بل إنها تتفاقم، القضية الجنوبية مازالت موجودة، قضية صعدة، المظلومية التهامية، الخلافات حول شكل الدولة، الخلافات حول الدستور، هذه الإشكاليات مازالت موجودة، بل إن الحرب عمقتها، وظهرت مشاكل جديدة، لا يُمكن تجاهلها ولا الاستهانة بها، وهي تعبر عن نفسها على شكل مراكز قوة عسكرية ثقافية وسلطات محلية في كل من: الساحل الغربي، عدن، حضرموت، مأرب، صنعاء.
فما كان عبارة عن مخاطر تقسيم الأقاليم أصبحت أقاليم واقعية، وكل إقليم بات له جيش مقاتل وضحايا، ومشروع سياسي وفكري ودول داعمة، ولما كانت في السابق مسألة الأقاليم تقسيما إداريا مُفترضا يدار من مركز واحد في العاصمة في ظل التنافس (هكذا تم التسويق لمشروع الأقاليم ورغم خطورته حتى بهذه الصيغة)، فإن تقسيم الأقاليم اليوم تقسيم عسكري حربي وقائم على أساس العداوة، ولا توجد حكومة مركزية فوق هذه الأقاليم والسلطات والقوى العسكرية، تديرها وتحتكر العلاقات الخارجية لليمن.
الحرب لم تلغ المشاكل السابقة لها بل عمقتها وعقدتها، والمصالحة والحوار والتوافق كانت ضرورة في الأمس لإدارة الخلاف، وهي اليوم ضرورية وهامة لمعالجة الصراع، وإيقاف مسار التدهور.

التراجع الاقتصادي
إن ما يجعل من المصالحة الوطنية ضرورية، ليس فقط الجانب السياسي والاستراتيجي، فالحرب بقدر ما كانت مدمرة سياسياً، فدمارها الاقتصادي أكبر وأخطر، وأكثر وضوحاً، والاقتصاد اليمني يتجه نحو التلاشي وتحول اليمن إلى دولة فاشلة تماماً.
أوضح المؤشرات على تدهور الاقتصاد اليمني هو تراجع إجمالي الناتج المحلي للجمهورية اليمنية، من 43 مليار دولار في العام 2014م إلى 18 مليار دولار في العام 2020م، مع العلم أن عدد السكان قد ارتفع من 25 مليون نسمة تقريباً عام 2014م، إلى 40 مليون نسمة تقريباً في العام 2024م.
التراجع في الناتج الإجمالي المحلي يرافقه تراجع في معدل دخل الفرد، الذي انخفض من 1176 دولارا في العام 2014م إلى 272 دولارا في العام 2020م، وهو يعني الجوع والفقر والبؤس، وهو يعني أيضاً إمكانيات تغلغل الإرهاب وعصابات الجريمة والفساد الأخلاقي والتسول، وتعمق النفوذ الأجنبي وكل يد دولية تمتد بالمساعدات الإغاثية والدعم للجماعات والسلطات وللعصابات والأفراد.
كما أن الوضع الاقتصادي، وخصوصاً تحول اليمن إلى منطقتين نقديتين، ووجود جمارك داخلية يمنية يمنية، يعمق من مخاطر تمزق اليمن إلى دويلات ويهدد وحدتها.

شرط وإمكانيات التطور
من أجل البناء والتطور، وإيجاد مكانة مرموقة لليمن في الإقليم والعالم، فاليمن بحاجة إلى صفر مشاكل، بناء علاقات مع كل العالم -عدا دولة الاحتلال- على أساس السيادة وتحمل دول «التحالف» الإعمار، ومصالحة وطنية تداوي الجروح، وشراكة وطنية ومواطنة متساوية، لا وجود لمواطن درجة ثانية ومجتمع محارب وآخر دافع ضرائب، بل مجتمع واحد منتج وقيمة كل فرد بحسب ما ينتجه ويخدم به المجتمع.
ولدينا إمكانيات وموارد للمضي في درب التطور في حالة أصلحنا الواقع الداخلي، وعالجنا الاختلالات الاستراتيجية، فلدينا في اليمن جيش قوي وسلاح متطور فعال، وموقع استراتيجي هام، وثروات طبيعية، وقوى عاملة شابة مبدعة، وكوادر وخبراء.
ينقصنا بناء دولة تدير هذه الموارد، فينعم بها كل الشعب، وتأخذ اليمن مكانتها في المنطقة، دون بناء دولة وطنية موحدة ديمقراطية حديثة، سيتبدد كل هذا، كما تبدد تاريخيا، سيصبح الموقع الاستراتيجي للأساطيل الأجنبية، والنفط للشركات العالمية العابرة للأوطان، والجيش للصراع الداخلي وترجيح الكفة السياسية، الشعب عاطل عن العمل، والكوادر والعقول مهاجرة.

أترك تعليقاً

التعليقات