علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

لم يكد يمر القرن الأول من بداية السلطنة العثمانية إلا وقد تعرضت البلاد العربية والإسلامية بكاملها للغزو والاحتلال والسيطرة المباشرة باسم الإسلام والخلافة والدولة الواحدة. وكانت البلاد اليمنية آنذاك مزدهرة رغم الظروف الإسلامية العامة، وكانت لها دولة وطنية موحدة تلم شملها من جميع الجهات، مزدهرة اقتصاديا وتجاريا وزراعيا وحرفيا وصناعيا وعلميا وثقافيا، فقد كان في المخا مثلا أهم وأكبر مصانع بناء السفن في البحر الأحمر كله، وفيه أفضل سلع التجارة مع العالم الخارجي، وأفضلها كان البن اليمني الواسع الرواج والشهرة على المستوى العالمي.
أما عدن فقد كانت تعمل كأكبر الموانئ وأشهرها في المنطقة، وتسيطر على التجارة الدولية البحرية بين الشرق والغرب عبر خليجها وجزرها الكبرى المتميزة، وتعمل كعاصمة متقدمة للدولة اليمنية آنذاك ومصدرا للثروة الوطنية. وهذا هو السبب الرئيس الأول الذي أغرى العثمانيين الأتراك للغدر باليمنيين: الثروة الوطنية المزدهرة والجشع القاتل للسيطرة عليها وامتصاصها لصالح الخزائن الإقطاعية التركية العثمانية، أي: وضع اليد على المواقع الاستراتيجية للبلاد واستغلالها خارج المصلحة الوطنية والقومية. أما بقية المبررات والأسباب فقد كانت أسباباً مضافة لتغطية العامل والسبب والدافع الرئيس. 
لم تكن خدمة الدين والعقيدة الإسلامية هي المحرك الأساسي للعثمانيين، كغيرهم من ملوك الأرض مثل الأمويين والعباسيين والمماليك الذين حكموا وتحكموا وسيطروا وتوسعوا وتجبروا وتملكوا وملكوا باسم الدين الإسلامي وهو منهم براء. والحقيقة أنهم استغلوا الإسلام والمسلمين وشوهوه وما زالوا بآثارهم ونتاجاتهم التي تتواصل مفاعيلها  إلى اليوم.
 
من نتائج الاحتلال التركي الأول
في الغزو العثماني الأول لليمن خلال القرن السادس عشر الميلادي كانت البلاد حينذاك مازالت لها استقلاليتها الوطنية المميزة نسبيا والمعبر عنها بدولة واحدة مستقلة تقف في وجه الأطماع الأجنبية والتدخلات الخارجية تحشد خلفها الشعب كله لمواجهة الغزو والاحتلال.
فحينها لم يكن هناك نخبة سياسية مالية تتوافق مصالحها مع الغازي الأجنبي، فقد تشكلت تلك النخبة خلال وجود المستعمر التركي بعد خسارة المعركة الوطنية المباشرة وبقاء المستعمر لأكثر من قرن من الزمن، خلالها اشتعلت ثورة المقاومة الوطنية التحررية حتى أجلت المستعمر مطلع القرن السابع عشر الميلادي.

الثورة الوطنية الشعبية المسلحة بقيادة الأئمة القاسميين
المقاومة الشعبية القبلية الوطنية التحررية كانت بقيادة الشريحة الثورية من الشعب ممثلة بالإمامة القاسمية التي تولت قيادة الثورة التحررية ودحر الاستعمار العثماني التركي الأول وتحقيق الاستقلال وقيام الدولة اليمنية المستقلة الأولى واستعادة سيادتها على كامل التراب الوطني، وامتدت في كل الاتجاهات بعد أن حطمت الجيوش العثمانية وأبادتها وفرضت عليها الهزيمة والاندحار ورحيل ما تبقى منها والاعتراف باستقلال اليمن كدولة وطنية مستقلة بعاصمتها صنعاء.
قيام الدولة اليمنية الوطنية المستقلة كحدث تاريخي كان أهم الأحداث في تاريخ اليمن منذ سقوط الدولة الحميرية الأخيرة في القرن السادس الميلادي، فلم تقم في اليمن دولة وطنية قوية موحدة جامعة منذ ذاك التاريخ، على الرغم من مرور العديد من الدول اليمنية المتعددة التي شهدها اليمن، فقد ظل الطابع الغالب عليها هو الطابع الإقليمي العشائري والفئوي والارتباط الخارجي ولو بشكل غير مباشر، نتيجة لقوة المراكز الإقليمية الجاذبة التي كانت وافرة ومنتشرة آنذاك تتصارع في السيطرة على مجال الخلافة العباسية التي كانت تتقلص مساحاتها وتأثيرها بفعل عوامل التغيير الجديدة، مما سهل إسقاطها بأيدي الاحتلال الأجنبي لاحقا.
أما الدولة الجديدة فقد نشأت من بين لهيب المقاومة الوطنية الخالصة ومعاركها التي تواصلت طوال قرن كامل استنادا إلى نصرة الشعب نفسه دون عون خارجي، ولقد منحها ذلك القوة والحصانة الذاتية لتبقى مستقلة رغم أعاصير ورياح المحيط الحافل بالصراعات والاستقطابات والأطماع. وترتب على هذا التطور مجموعة من النتائج والمقدمات المزدوجة، وأهمها:
1 ـ أن الصراع الذي خاضته الحركة الوطنية لم يكن صراعا من الطراز الكلاسيكي المعروف، فلم يكن صراعا ضد دولة إقليمية غازية، وإنما كان صراعا ضد إمبراطورية دولية عالمية القوى والأبعاد والإمكانيات، صاعدة القوة ما تزال في ريعان شبابها وفتوتها وعنفوانها، ورثت أقوى الإمبراطوريات القديمة وأضافتها إلى قواها وإمكاناتها واحتياطاتها الاستراتيجية، فصارت قوة لا يمكن سحقها وإذلالها بسهولة، وإذا كانت تحت نكسة الحصار اليمني الشديد الطويل قد اضطرت مجبرة للتنازل والاعتراف بالدولة اليمنية المستقلة والاستسلام لجيوشها المحلية، فذلك كان مرحلة في صراع وطني قومي لا نهاية له بعد، مخلفة وراءها طابوراً خامساً كبيراً يحضر لعودتها مرة أخرى مستقبلا، تجسد هذا الطابور في طبقة من الطفيليين والإقطاعيين البيروقراطيين والنافذين على إدارة الدولة الذين سمنوا في ظل الأجنبي ورضعوا من حليبه.
2 ـ كانت هذه الطبقة القوية ماليا واقتصاديا قد هيمنت على كافة مصادر الاقتصاد والثروة العامة والأراضي والدخل العام الحكومي الضرائبي والجبايات.
3 ـ انتقل المحتل من الحرب العسكرية المباشرة التي خسرها ميدانيا إلى المناورة السياسية الاستراتيجية والحرب الخفية والناعمة والنفسية والتخريبية الداخلية لبنية دولة الاستقلال الجديدة عبر تجنيد طبقته التي تركها خلفه لتقوم بالمهمة التي تجعله قادرا على العودة في فرصة تالية وشق صفوف قوى الشعب اليمني، وتفجير الحروب البينية الأهلية بين مناطق اليمن وأقاليمها على خلفيات جغرافية وطائفية وفئوية مذهبية مقيتة، وتأسيس وإقامة إمارات وسلطنات ومشيخات منفصلة تتبعه، يُحكم من خلالها سيطرته على المناطق الواسعة الامتداد من عُمان وحضرموت وسقطرى والمهرة وشبوة وأبين ولحج وعدن وتهامة وتعز.
4 ـ إثارة الفرقة والتنابذ بين فئات الشعب اليمني الواحد وتأسيس انقسامات في نسيج الأمة الواحدة، مكنت الاحتلال من تأمين خلفية الاحتلال العثماني وطرقه إلى مراكز المقاومة في المناطق الجبلية الشمالية وتكريس حالة من الاستقرار والتعايش والتخادم بينها (أي الطبقة الإقطاعية المذكورة) وبين الاحتلال التركي في المناطق التي تسيطر عليها جنوبا ووسطا وغربا بدرجة خاصة. وأدى هذا الواقع التخادمي إلى نتائج هامة تمثلت في انحصار المقاومة المسلحة الرئيسية ضد الأتراك واقتصارها على الساحات الشمالية الزيدية بدرجة رئيسية. ورغم وجود مقاومة ثورية في مناطق معينة جنوبا وغربا ووسطا مشتعلة ضد الأتراك إلا أنها ظلت جزراً منعزلة بين بحر من المهادنين والمنتفعين والمحايدين والمخدوعين والمستضعفين من الأرستقراطيات، ولم تأخذ طابعا عاما، وأمكنه احتواؤها وحصارها في نطاقاتها المكانية الضيقة، فقد وقفت الأرستقراطيات الزراعية والمالية والتجارية والقبلية في المناطق الوسطى والجنوبية والشرقية والغربية إلى جانب الاحتلال العثماني التركي.
ومازالت تلك النخب الهجينة المعثمنة وامتداداتها إلى الآن تحاول اختراع المبررات لتلك الخيانة البشعة التي ارتكبتها حين تحاول تصوير الاحتلال العثماني بأنهم مجرد مسلمين جاءوا لإعادة الخارجين على الإسلام من شعبنا إلى جادة الإسلام الصحيح والسليم، وهذا القول ينطوي على الكثير من الكذب والرياء والخداع والاستغفال للناس، فلم يكن أحد منا خارجاً على الإسلام، ولم يكن أحد منا خارجاً على الوحدة الإسلامية، بل إن شعبنا وحكومته المستقلة آنذاك كانت مبتهجة ومرحبة بمجيء عساكر السلطان العثماني المسلم لكي تدعم مقاومتنا ضد الزحوف البرتغالية والغربية ومطامعها في الشواطئ والبحار العربية واليمنية، وقد استقبلت قيادتها وحكومتها وملكها عامر بن عبد الوهاب جيوشه بود وترحاب وأخرجت الناس إلى الساحات والشوارع والموانئ وهي ترفع الزينات مبتهجة بقدوم سفن الأتراك إلى عدن وبقية الموانئ اليمنية على امتداد الساحل اليمني.
كما صعد الملك والأمراء والوزراء وكبار الشخصيات وزعماء القبائل إلى سفن الأتراك يرحبون بهم حسب طلب الأتراك وقادتهم، ولم ينتبهوا إلا على وقع السيوف والرماح والنبال والحبال وهي تنزل بهم حصدا وقتلا وتفتيتا، ومدافع الأتراك الضخمة موجهة نحو المدن والسكان الآمنين يحصدونهم بلا رحمة ولا شفقة، دون أي سبب أو ذنب أو شبهة، سوى شهوة السيطرة والاستعباد والاستبداد، ثم تدفقت جيوشهم العرمرمية من السفن إلى البر تجتاح المدن والموانئ والمناطق دون توقف، وقد ركزت أولا على اجتياح السهول الجنوبية والغربية والوسطى واتجهت شمالاً حتى وصلت إلى العاصمة التاريخية صنعاء بعد مقاومة استمرت وتواصلت لفترة طويلة.

صدمة العتاد الحربي الجديد والضخم
لم يكن اليمنيون يعرفون بعد أكثر من البنادق العثمانية والعربية القديمة والبدائية ذات الجمر في أفضل الحالات، إذ إن أغلب الناس كان مازال يتسلح بالسلاح القديم الأبيض التقليدي المتمثل بالسيوف والخناجر والرماح والنبال والخيل والبغال والجمال.
كانت مدافع البارود ما تزال حينها سرا من أسرار الدول الكبرى. وكان تنظيم الجيوش الضخمة وعتادها الجديد الحديث وانبساط الأرض على السواحل وعدم استعداد النخب المحلية للمقاومة الشعبية الجديدة الضرورية، كان سببا في خسارة فرق المقاومة الحربية المعارك الأولى أمام الغازي العملاق الإمبراطوري، خاصة وأن النخب المحلية لعبت لصالح الغازي وقواته في البداية.

 فرق تسد
عمل المحتل على التلاعب بالبنية الاجتماعية الوطنية ومزق وحدتها إلى طوائف وجماعات وإمارات ومذاهب وقبائل أرستقراطية إقطاعية. كما عمد إلى احتواء الأرستقراطيات القبلية الإقطاعية المالكة وإشركها في إدارة السلطة المحلية الإقليمية التي أقامها في مناطق ومراكز الاحتلال وسلطها على الشعب في تلك المناطق لامتصاص دمه وعرقه وثرواته واقتسامها مع النافذين من رجال الاحتلال وموظفيه.
وخلال قرن من الاحتلال عاد الاقتصاد اليمني قرونا إلى الوراء وأُفني الملايين من السكان بفعل القتال أو الأمراض والجوع والخراب والحرائق والجثث المنتشرة في كل مكان والمجاعات الواسعة والضرائب العثمانية.