قصة قصيرة «الوصيـــــة»
- تم النشر بواسطة صفاء الهمداني / لا ميديا

صفاء الهمداني / مرافىء -
أن تصبح كرامتك في مهب الريح؛ فأنت بلا شك أصبحت هشاً قابلاً للكسر سهل الكنس من خارطة الكرامة الآدمية. أنا ابن الثلاثة والعشرين خريفاً باهتاً، ممتقع الملامح، مكفهر الوجدان، فكما الزجاج يؤذي بعضه بعضا، أنا أيضاً أؤذي نفسي بنفسي، أو بالأصح بطيبتي ونقاء سريرتي، وأنا هنا لا أمدح نفسي، فليس هناك ما يستحق المدح، إنما قد اشتهرت بـ»طيب وعلى نياته» لدى القريب والبعيد، وما كنت لأحمل هذه الصفة لولا ذلك الذل الذي تمكن من أمي رحمها الله جينياً، وورثت عنها تلك الجينات الذليلة رغما عن كرامتي الفطرية.
في فترة الإعدادية كنت أشعر بأني قائد أكثر من كوني تلميذا مقيدا بين أربعة حيطان، كل زملائي يحبونني؛ فأنا قائدهم الذي يستظلون بظله وقت الشدائد، يلتفت المعلم لكتابة الدرس وأنا أتنقل بين الكراسي لتفقد أوضاع زملائي وعما إذا كان هناك متخاصمان أسعى جاهدا للإصلاح بينهما، نخطط أثناء الدرس لجدول ما بعد المدرسة، حضر والدي ذات مرة إلى الصف وسأل المعلم عن المستوى العلمي والسلوكي أمام زملائي.
ينظر إليه المعلم بحيرة ويجيب والدي: هيثم تلميذ مهذب وحبوب، لكنه كثير الحركة ولا يستقر في مكانه أثناء الحصة.
يتقدم إليَّ والدي بكل جبروته، يرفع يده ويهوي بها على خدي تاركاً بصمة حمراء ودماً يبزغ من أنفي الصغير، ويقول:
أنا إنسان كادح وعلى باب الله بالكاد أجمع المال لأدفع أقساط المدرسة، وأنت هنا في مغامراتك تلهو دون إحساس ولا تفكير بما أعانيه من أجلك وأجل إخوتك. كم تمنيت أن أحضر هنا وأسأل عن مستواك فيبشرني الجميع بمستواك العالي وسلوكك الراقي..
أقاطعه ولا أكاد أراه لكثرة الدموع:
ولكني مهذب يا أبي مع الجميع!
بصوت جهوري يرد وسبابته على فمه: اصمت.. أنت ولد بلا أدب ولا علم حتى.
يتجه إلى زملائي قائلاً: يرجى منكم عدم مصاحبة ابني.. دعوه وشأنه، وإلا اشتكيتكم إلى آبائكم. يوجه نظره إلى المعلم قائلاً: أنا تعبت من هذا الولد، لقد أذلني بين العائلة، أمنحك حق ضربه وتعزيره إن بدر منه تقصير أو ظهر منه سلوك أرعن.
سبحان الله! أبي يمنح صك إذلالي للآخرين بدم بارد، لنفترض أني مقصر وبلا أدب، أما كان الأولى منه أن يؤدبني ويجبر النقص والقصور الذي في ولده بطريقة أبوية حنونة؟
تمر الأيام مر السحاب؛ مما جعلني أتوه في ردهاتها وأمضي في دروب قاتمة كمعاملة أبي لي، هل ذنبي أني ابن الزوجة الأولى التي كانت تتلقف صفعات أبي عند أدنى خطأ يبدر منها وتردف بأدب قائلة: افعل بي ما تشاء.. أنت زوجي وأبو ابني!
لكن الله لا يرضى الظلم لعباده يا أمي، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. آه يا أمي كم وددت أن تكوني امرأة قوية كأولئك اللواتي جعلن من أزواجهن عجينة لينة يشكلنها بطريقتهن، أعلم أن لا عائل لك إلا الله، ومن بعده هذا الزوج الظالم، أعلم أنك مسالمة إلى حد كبير، ولم تؤذ أحداً قط، ولم تمارسي عادة الحش على الآخرين كما هو ديدن معظم النساء، ولكن وددت فقط أن تكوني قوية.. فقط لأجلي.
عشت أيام حياتي وأنا الخانع الضعيف، لا أدافع عن نفسي في حالة تعدى أحدهم علي، ولا أكمن في ذاتي رغبة الانتقام في ما بعد، أحاول مسايرة الجميع ومساعدة من يحتاجني حتى وإن شعرت بأنه يستغل طيبتي، تركت والدي وزوجته الثانية وأبناءه الخمسة، وانتقلت للعيش وحدي بعيدا عن الجميع حتى لا أؤذي أحدا ولا أظلم أحدا، وصيتك يا أمي كسرت ظهري وهدت حيلي: خير لك أن تكون مظلوماً على أن تكون ظالما! لكن الحياة تحتاج إلى الأقوياء، هم وحدهم متصدرو الساحة منذ بدء الخليقة، أوافقك الرأي أن الله عدل وينصف المظلوم في الدنيا قبل الآخرة، لكنه يحب المؤمن القوي، تعلمت هذا في المدرسة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ننصره ظالما يا أمي حينما نردعه عن ظلمه ونوقفه عند حده، لا بأس عليك يا أمي، لقد صرتِ عند ربك، وطاعة لك أعدك بأن ألتزم وصيتك، لكن ثقي بأني لن أتزوج أبداً، حتى لا يرث أبنائي جينات الذل المتشبثة بكل خلية فيَّ، وسأبقى وحيدا حتى لا أكسر ظهر أحد، وبعيدا عن تلك الوصمة (ابن البلهاء)، وبعيداً عن صك إذلالي الذي منحه والدي للآخرين.
المصدر صفاء الهمداني / لا ميديا