استطلاع وعدسة: نشوان دماج / مرافىء -

تتملكك الرهبة وأنت تقترب من رحاب أهم معلم ديني في صنعاء، بل وفي اليمن عموماً، خالعاً نعليك عند الباب، ووالجاً كأنما إلى القرن الهجري الأول، حيث في انتظارك كل الأشياء في لحظتها الأولى: السقوف والزخرفات والأعمدة، حتى السجاد الأحمر المنبسط أمامك ومن حولك، إلى الدرجة التي تشعر معها بأنه قد بلغ كل أركان وأرجاء الجامع. مازال الوقت مبكراً على صلاة الظهر، لكن يبدو أن الجامع لا يمكن إلا أن يكون ضاجاً بالناس طوال الوقت. مصاحف مبسوطة على كراسيها، وظهور عاكفة عليها لشيوخ وشبان، وحلقات درس هنا وهناك، وناس هنا وناس هناك، كل له شأن.

أعرق المكتبات التاريخية عربيا
تصل إلى البهو المكشوف للجامع وتعرج يساراً إلى حجرة مديدة حيث مبتغاك: النسخة المصورة من المصحف الشريف بخط الإمام علي عليه السلام، وقد تم عرضها مؤخراً في صندوق زجاجي مغلق، ليطلع عليها الزائرون بكاميراتهم ومختلف اهتماماتهم. تقترب أكثر محاولاً استنطاق تلك الأحرف العربية الأولى في الصفحتين المعروضتين من المصحف، وبذلك الخط غير المنقوط ولا المشكل. تبذل جهداً في التهجي، تماماً كذاك الذي يبذله طلبة الصفوف الأولى، وربما يحالفك الحظ في اكتشاف أنك تقرأ من «سورة النساء».
في انتظارك في الجهة الغربية من الجامع واحدة من أعرق المكتبات التاريخية في الوطن العربي، زاخرة بآلاف العناوين والكتب المخطوطة والمحتوية على نفائس الكتب من التراث اليمني، سواء ما ألَّفه علماء اليمن، أم ما قاموا بنسخه والاعتناء به. تنتظر فقط مجيء القائمين عليها مسترقاً السمع لدرس من دروس الحلقات، وقد تجمع حوالى عشرة شبان حول صوت يشرح لهم مسائل في النحو يبدو من ملامحهم أنها تمثل إشكالية بالنسبة لهم، فتقول في نفسك: ربما حتى هنا أيضاً لا تخلو دروس النحو من صعوبات.

خزائن تحولت إلى مكتبة
«أكثر من 1200 مصحف مخطوط، وأكثر من 300 رق قرآني، وأكثر من 5000 جزء قرآني. 2532 مجلدا مخطوطا تمت فهرستها، وما يقارب 700 مخطوط غير مفهرسة، وأكثر من 5000 كتاب مطبوع، غالبها طبعات قديمة، وقليل منها حديثة»، يذكر أمين عام مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، عبد الله الشريف، مضيفاً أن المكتبة تتبع وزارة الأوقاف والإرشاد، وهي التي تقوم بالإشراف عليها. أما مشاريع المكتبة فيتم تمويلها من أوقاف الجامع الكبير، والتي يقوم بمتابعتها مكتب الأوقاف والإرشاد بأمانة العاصمة.
تأسست المكتبة رسمياً في عهد الإمام يحيى حميد الدين، وتحديداً في عام 1355هـ/ 1936م. أما وجودها فقديم جداً، بحسب الشريف؛ حيث كانت عبارة عن مجموعة من الخزائن، كل خزينة تعود لأسرة معينة، أو لبيت من بيوت العلم حينها، مثل خزانة آل الوزير وخزانة محمد بن علي قيس وخزانة سعد البواب الحاشدي... وغيرها. هذه الأسر أو هؤلاء الأشخاص كانوا يوقفون ما بحوزتهم من مخطوطات، والتي قد تصل إلى أعداد كبيرة جداً، ولكنه كان وقفاً محصوراً على ذرية ذلك الشخص أو تلك الأسرة.
وظلت تلك المخطوطات بحوزتها، إلى أن ارتأى الإمام يحيى أن بقاء تلك الكتب والمخطوطات في حوزة أسرة بعينها قد يؤدي إلى ضياعها، فأمر بنقل كثير منها إلى الجامع الكبير بصنعاء، مع الاحتفاظ لأصحابها بحقوقهم في إنشاء خزينة خاصة باسم كل أسرة.
وقام لأجل ذلك بعدة أمور، منها بناء مكان خاص لتلك الكتب في الجامع نفسه، جنوب المنارة الشرقية، ممتداً إلى جهة الغرب، سماه «الخزانة المتوكلية»، وعين عليها حافظًا هو العلامة الحسين بن يحيى الواسعي، وأصدر لوائح تنظيمية للمطالعة والإعارة. كما وجه عام 1363هـ تقريباً بفهرسة المكتبة، وكلف بذلك القاضي العلامة محمد بن علي الحجري.
وهنـــا يدعو الشريف أجهزة الدولة المعنية إلـــى أن تحذو حذو الإمام يحيـــــى فــــي البحث عن المخطوطات التي لدى هذه الأسرة أو تلك وقد تكون معروضة للبيع، بحيث تشتريها منهم بالسعر المناسب واللائق وتحفظها من العبث أو أيدي لصوص المخطوطات، مع الاحتفاظ لهم بكونها ضمن ملكياتهم؛ «فنحن لا ندعو إلى نزع ملكية تلك الكتب والمخطوطات، وإنما لحمايتها والاحتفاظ لأصحابها بذلك الحق».

أشهر الواقفين
تاريخُ وقف الكتب العلمية قديم، فالحفاظ عليها ونسخها من الأمور التي كان يحرص عليها الأئمة والعلماء ويوقفون الأموال والعقارات المختلفة لتُصْرَفَ فوائدُها فيها وفي مصلحتها. وكان لوقف الكتب صورتان: الأولى الوقف على الذرية، والثانية الوقف على عامة المسلمين. وفي كلتا الحالتين كان الغرضُ الأكبر من جهة الواقفين هو استمرار العلم وحياته في جماعة المسلمين وفي الأسرة خاصة.
يتابع عبد الله الشريف، أمين مكتبة الجامع الكبير، بأن أناساً كثيرين في الساحة العلمية اليمنية كانوا يوقفون ما لديهم من كتب ومخطوطات لذريتهم من بعدهم، ومن 
أشهر هؤلاء المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، المتوفى في 1087 للهجرة، والذي أوقف جميع كتبه ومخطوطاته، وكذا محمد بن الحسن بن القاسم بن محمد، الذي أوقف -بحسب الشريف- أكثر من ألف كتاب على ذريته التي هي منحصرة الآن في عدد من الأسر ومنها أسرة الشهيد حسن زيد.

إشكالية المخطوطات اليمنية
ربما لم يتعرض تراث شعب من الشعوب لما تعرض له التراث اليمني من إهمال ونهب وسرقة وتهريب وتغييب منقطع النظير، وحتى ما سلم منه وظل موجوداً لم يسلم من تحقيق مشوه ومسيء من قبل باحثين عديمي الخبرة لا يمتلكون أياً من مقومات التحقيق، فيبترون ويمحقون 
ويستعجلون ليخرجوه مشوهاً.«ومثلما كان للاحتلال العثماني لليمن أن ينهب الكثير من المخطوطات، وما تحويه مكتبة علي أميري في تركيا خير شاهـد على ذلك؛ فإن الاحتلال السعودي الإماراتي حالياً يفعل الشيء نفسه ويسعـى إلى ما سعـى إليه الاحتلال العثماني، بحيث استطـاع إغراء أصحـاب المخطوطات بأسعار كبيـرة ويشتري منهم أعداداً كبيرة، بل ووصلت يده إلى عدد من المكتبات الخاصة بهذا الجامع أو ذاك، والتي تعتبر من ممتلكات الدولة»، يقول عبد الله الشريف متحسراً، قبل أن يضيف أن عملية تهريب المخطوطات كانت تحدث بشكل رسمي ومن قبل شخصيات لها ارتباطات عليا وتحمل جوازات سفر دبلوماسية؛ «حتى أنه حدث في إحدى المرات أن شاركت الهيئة العامة للآثار بعدد من المخطوطات في دول أوروبية، فلما عادت من رحلتها أعلن فقدانها في مطار إحدى دول الخليج».

نهب ممنهج
يضيف الشريف: «تعرضت بعض المساجد والهجر العلمية للنهب الممنهج، فتجار المخطوطات كانوا هم من يُكلَّف بالحفاظ عليها، ويكلفون بنقل الكتب الموقوفة من بعض المساجد والهجر العلمية بشكل رسمي، سواء كان باسم وزارة الأوقاف، أم باسم وزارة الثقافة؛ بل كان بعضهم يحمل حقداً دفيناً على فكرٍ ما، أو شخصٍ ما، فيقوم بتسويد أوراق منها، وجعلها سواداً لا يستفاد منها، أو طمسها أو إتلافها وتمزيق صفحات من كتاب ما حتى لا تعرف هوية مؤلفه، فمثلاً: أحد المتولين الكِبار في إحدى الجهات المذكورة كان عندما يتكلم عن كتابٍ لأحد المؤرخين اليمنيين الكبار يقول عنه إنه مفقود، مع أنه في بيته، وقد قام هو بأخذه من ورثة المؤلف بزعم الاستفادة منه، ثم أتلف صفحات منه ورَدَّه؛ فكيف ستراه يتعامل مع التراث المخطوط الذي هو مسؤول عنه؟!».
وفيما يخص مكتبة الجامع الكبير يوضح الشريف أنها ظلت إلى حد ما محتفظة بما في حوزتها من مقتنيات بحيث لم يحدث لها سطو مباشر، لكن ذلك لم يكن يمنع من حدوث نقص في عددها من حين لآخر. والسبب أنه لم يتم فهرستها بشكل تام ودقيق، «وبالتالي لا نستطيع الجزم بأن ذلك النقص في عدد الكتب في الفهرسات السابقة يعني فقدانها من عدمه».

فهرسة المكتبة إلكترونياً
يقول علي الدولة، نائب أمين المكتبة، إن ما تم فهرسته إلكترونياً من مخطوطات المكتبة وصل إلى 2532 مخطوطاً، من مختلف العلوم والمجالات، بينما لا يزال هناك أكثر من 700 مخطوط لم يتم فهرستها بعد ولا يعلم الباحثون عنها شيئاً. «فنحن منذ تعيننا أنا والأستاذ عبد الله الشريف في أبريل 2020، عثرنا ضمن تلك المخطوطات السبعمائة غير المفهرسة على عناوين كثيرة ونادرة لكتب كنا وغيرنا نبحث عنها بشتى السبل، حتى إن بعضاً منها كان يعد في حكم المفقود».
ويضيف الدولة أن الإشكالية الأساسية التي كانت تعاني منها مكتبة الجامع الكبير هي أنها كانت مغلقة أمام الباحثين والدارسين ولا يستفيدون منها كثيراً، وعدم ربطها بنظام يعزز ويزيد من قوة حضورها، حيث ربطت بأشخاص صاروا يظنون أنها جزء من أملاكهم، يتحكمون كيفما يشاؤون، ومن هنا أتى الاحتكار العلمي، وعدم إفادة العلماء والباحثين، بالإضافة إلى عدم فهرستها الفهرسة الشاملة والدقيقة. فالكثير من المؤلفات اليمنية في شتى المجالات والعلوم غائبة عن الساحة العربية والإسلامية، بسبب عدم جعل مخطوطاتها متاحة للتحقيق، ووضعها في أدراج المخازن حتى عدت مفقودة. و»لدينا الآن خطط موسعة لتعريف اليمنيين بتراثهم بشكل عام، وإتاحة الفرصة للباحثين والدارسين بشكل خاص للاستفادة من ذلك التراث، بحيث يتسنى لهم الوصول إليه بكل سهولة. فالساحة العلمية مفتقدة لحضور هذا التراث العلمي اليمني، بمختلف مشاربه وتنوعاته. والركيزة الأساسية التي يمكن أن تؤسس لحضور ذلك التراث عالمياً هي تسهيل الحصول على مخطوطاته، وهذا ما نسعى إليه بإذن الله. ونود هنا توجيه الشكر لقيادة وزارة الأوقاف، ممثلة بالوزير الدكتور نجيب العجي، ونائب الوزير العلامة فؤاد ناجي، وكذا مكتب أوقاف الأمانة ممثلاً بمدير المكتب الأستاذ عبد الله عامر».
وكملخص لما أنجز في هذا الصدد، يقول القائمون على المكتبة إنه في 2018 تم تنفيذ مشروع تحويل المكتبة إلى مكتبة إلكترونية، بتصوير المخطوطات المفهرسة (عددها 2532) تصويراً عالي الدقة، وذلك كأول مشروع، بإشراف وزارة الأوقاف، وتمويل مكتب أوقاف الأمانة، وتنفيذ شركة «يمن فليكس».
وبذلك تم تزويد المكتبة بأجهزة حديثة وإنشاء موقع إلكتروني يحتوي على معلومات كاملة عما تم فهرسته من مصاحف ورقوق ومخطوطات ومطبوعات موقوفة، ويعرض صورها وأسماء الواقفين وبيان موقوفاتهم، ويحتوي على التعريف بأخبار المكتبة، ومقالات وبحوث هامة في كيفية دراسة وتحقيق التراث اليمني، وفوائد مختارة من المخطوطات. وسيضم روابط مخطوطات التراث اليمني في المواقع العالمية.