أنس القاضي / مرافئ -
إذا كانت قصيدة «مصطفى» للشاعر عبد الله البردوني تتحدث عن المخلص الفرد، فقصيدة «أولاد عرفجة الغبشي»، من ديوان «ترجمة رملية لأعراس الغبار»، تتحدث عن المخلّص ولكن كمجموعة. 
في القصيدة حشد لسمات أسطورية عن هذه الجماعة أو الحركة أو الحزب، التي «رضعت من حليب الثريا» و«ولدت من الصخور»، و«لها اطلاع على نية الريح». فالقصيدة تتحدث عن جماعة من الثوار والفرسان «ذي أصول» وليسوا طارئين، بل جماعة ثورية وطنية وحدوية يمنية، لها موقف من التوسع الكبير تصل الخليج أصداؤه، «وإذا أولموا بصعفان ليلاً كان لليل في الخليج التماعُ». 
وسواء كانت هذه الجماعة هي «الجبهة الوطنية الديمقراطية» -كما يُفهم من خلال السياق- أو غيرها، فإن القصيدة غير محدودة الدلالة، ولنا أن نسقطها على أبطال الجيش واللجان الشعبية وعلى المكون الطليعي في ثورة 21 سبتمبر/ أيلول المجيدة.
وستظل كل قوى ثورية يمنية تحضر اليوم أو تأتي في الغد، محط هذه الأسئلة والاستفهامات الواردة في القصيدة، ولها تلك الصفات الأسطورية البطولية الفروسية. وإن كانت الجماعة الثورية السابقة قد هبطت في نهاية نضالها، مثل «ثوار والذين كانوا»، فإن التجارب الثورية الجديدة مكتوب لها الظفر،فالشعب وقواه الوطنية تتعلم من تاريخ شعبنا المجيد. 

نص القصيدة 
قيل عنهم تمردوا وأطاعوا  
وكأمثالهم أضاعوا وضاعوا
قيل جاؤوا مِن صخرتين بوادٍ 
قيل شبّوا كما تطول التّلاعُ
قيل هم إخوة وقيل رفاقٌ 
قيل هم جيرةٌ غذاهم رضاعُ
ذو أصولٍ أعلى المزايا لديهم  
سلُّ سيفٍ أحدُ منه الذراعُ
قيل كانوا إذا أجالوا سيوفاً 
في رُبى صعدةٍ أضاءت رداعُ
وإذا أولموا بصعفان ليلاً
كان لليل في الخليج التماعُ
قيل كانوا كواكباً فاستحالوا
وادياً للشموس فيه انزراعُ
فترى الأرض حيث حلُّوا سماءً
ولهم مثلها سنىً واتساعُ
ولهم نسبةٌ إلى كل برقٍ
وعلى نيّة الرياح اطِّلاعُ
قيل إن الصخور كانت رطاباً
في صباهم وللرَّوابي شراعُ
رضعوا في الصِّبا حليب الثُّريا  
وارتعوا قامة الرُّبى حين جاعوا
قال راوٍ هم أربعون، وثانٍ
قال هم تسعةٌ وعمٌّ شجاعُ
فانبرى ثالثٌ تَعدّان ماذا؟  
هم أُلوف كما تمور القلاعُ
هل تكيلانهم؟ نعم هم لدينا  
نصف صاعٍ وقل إذا شئت صاعُ
ربما تشبرانهم ذات يومٍ  
ربما أول القياس ابتداعُ
قال بعض المحللين أطلُّوا 
فجأة في الدجى فهزُّوا وراعوا
قبل أن يظهروا أتى الوصف عنهم  
فرآهم قبل العِيان السَّماعُ
وأضاف اغتلوا قليلاً وأغفوا 
هل أقول اشتروا حماساً وباعوا؟
حين ذاك التقوا بزغب الأماني  
مثلما يلتقي الندى والشُّعاعُ
قال مستبصرٌ أتوا في زمانٍ  
للنقيضين في يديه اجتماعُ
فلهم كالزمان قحطٌ وخصبٌ 
وطفورٌ كموجهِ وارتجاعُ
ولهم مثل ركبتيه انحدارٌ 
ولهم مثل حاجبيه ارتفاعُ
عن حكاياتهم أشاعوا كثيراً 
واستزاد الصدى إلى ما أشاعوا
قَصَّ عنهم مؤرخٌ كيف جاؤوا  
قال ثانٍ مضوا وجاء الصراع
ما تراهم تدافعوا ثم قرُّوا 
 وامتطى الآن نفسَه الاندفاعُ؟
حينما أقبلوا تغنّى التلاقي
فلماذا لا يفكهرُّ الوداعُ؟
شوّهتهم صحيفةٌ كالأعادي  
وأعادت صحيفةٌ ما أذاعوا
قيل شب النزاع لَمّا تبدّوا  
قيل مِن قبلهم أفاق النزاعُ
قيل جاؤوا البقاع كي يحرقوها  
قيل جاءت إلى الحريق البقاعُ
قيل نابوا عن الغبار فهبّوا  
ثم ناب الغبار عنهم فماعوا
عجزوا حين حاولوا أن يطيروا  
وأرادوا أن يهبطوا فاستطاعوا
ثم قالوا تزوجوا (بنت آوى)  
وأطالت حفل الزفاف السباعُ
وتبنّى الحياد هذا وهذا  
واتّقى ما انطوى عليه القناعُ
قيل هذا وقد يقال سواهُ  
كل ماضٍ للقادمين مُشاعُ

محتوى الأبيات: 
 تبدأ القصيدة برواية عنهم غير ثابتة، بل مجرد تقولات؛ وهو ما يشد القارئ لمعرفة من هؤلاء. في البيت الثاني يأتي تأويل أسطوري لظهورهم، وهو أيضاً تأول. والتأويل الأسطوري وإن كان لا يفسر وجودهم بشكل موضوعي، إلا أنه يحمل في طياته إثباتا لوجودهم الفاعل المؤثر في الواقع الاجتماعي.
 في البيت الثالث تأتي الروايات مفسرة لنوع الرابطة التي تجمعهم. وفي البيت الرابع تظهر قدراتهم وفاعليتهم وليست في سياق الأقاويل، مما يعني أن هذه السمة حقيقية ومعروفة.
 في البيت الخامس والسادس ذكر لأفعالهم خارقة التأثير على سبيل التقول. وفي البيت السابع تأويل أسطوري لظهورهم لا يتناقض مع التأويل الأسطوري في البيتين الأول والثاني بل ينسجم معه.
 في البيتين الثامن والتاسع تصوير لأفعالهم وقدراتهم الأسطورية. وفي البيتين العاشر والحادي عشر أخبار أسطورية عنهم.
 الأبيات من الثاني عشر حتى الخامس عشر تحكي روايات الأطراف عنهم والجدال حولهم. من البيت السادس عشر حتى الثالث والعشرين، تحليلات حولهم وخلافات في تفسيرهم.
وإذا كانت الأقاويل السابقة تروي وجهة نظر الجماهير والأطراف عنهم، فإن الأبيات من الرابع والعشرين حتى الرابع والثلاثين تحكي روايات النخبة من أجهزة دعائية وصحف ومؤرخين، وتحكي مسألة تأييدهم ومعارضتهم والحياد تجاههم، وهكذا عادة المجتمعات مع كل دعوة وحركة ثورية. 

حركة ثورية 
 المُطّلع على القصيدة يجد من البيت الأول حتى الأخير (الرابع والثلاثين) أن هناك خلافا شديدا حول هؤلاء: كيف جاءوا؟ وما هو أصلهم؟ كم عددهم؟ ما علاقتهم بالصراع؟ ما هي نواياهم ومقاصدهم؟ وما هي أدوارهم في الصراع؟ مختلف الاستفهامات والخلافات عنهم يشير إلى أنهم جماعة معينة، حزب أو حركة لها رابطة تنظيمية وحضور فاعل في الواقع، ومشاركة في ميادين الصراع ولها موقف منه.
 تحمل القصيدة إجابات مختلفة متناقضة؛ لكن فيها ملامح متناسقة مجتمعة. فهم كما جاء في البيت العشرين «أتوا في زمان للنقيضين فيه اجتماعُ».

الأسطوري والواقعي 
التأويل الأسطوري والملحمي، رغم تناقضه مع الواقع الموضوعي، إلا أن لهذا التأويل ارتباطا بالواقع الموضوعي، فهو مبالغة وتضخيم للعناصر الواقعية وإخراجها عن المألوف لتصبح أسطورية بالمعنى الأدبي أو سريالية بالمعنى الفني. 
 من الاطلاع على مختلف التأويلات الأسطورية لظهور هذه الجماعة، نجد أنها مكونة من عنصرين: عنصر الأرض وعنصر السماء. وفيما عنصر الأرض له مدلول وطنية هذه الجماعة، فإن عنصر السماء له مدلول تسامي تطلعاتهم ورحابة آفاقهم.
 وعلى الرغم من أن تفسير منشأهم جاء على سبيل التقول، إلا أن مختلف الأقاويل اتفقت على مسألة انتمائهم إلى الأرض: «قيل جاءوا من صخرتين بوادٍ»، «فترى الأرض حيث حلوا سماء»، «قيل إن الصخور كانت رطابا في صباهم وللروابي شراع». 
 فيما جاءت رموز السماء لتؤكد سمو تطلعاتهم وفاعلية ممارستهم، التي لا تفسر من قبل المجتمع بأدوارهم الاجتماعية، ويُنظر إليهم كخارقة من الخوارق في مواجهة نظام شديد الاستبداد. وقد جاءت هذه الرموز في القصيدة كالتالي:
(قيل كانوا كواكبا)، (فترى الأرض حيث حلوا سماء ولهم مثلها سنىً واتساعً)، (ولهم نسبة إلى كل بريق)، (وعلى نية الرياح اطلاع)، (رضعوا في صباهم حليب الثريا)... الخ.

التنظيم الحركي والنظام الاستبدادي 
تطرح القصيدة على لسان حال الناس استفسارات عنهم، عن أصلهم، عن الروابط التي تجمعهم، عن عددهم؛ وهي استفهامات بوليسية كانت تطرح في فترة كتابة القصيدة من قبل «الأمن الوطني- السياسي» حول الناشطين السياسيين. فالعمل السياسي كان محظوراً حينها.
ومثل هذه الاستفهامات ترد في كثير من قصائد البردوني التي تتناول مسألة العمل السياسي والنظام القمعي؛ منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدة «سندباد يمني في مقعد للتحقيق»، وقصيدة «حزبية ومخبرون»، وقصيدة «سكران وشرطي ملتح».
وإذا ما بحثنا عن الجواب عن هويتهم كجماعة، وبحثنا في السياق التاريخي الذي صدر فيه الديوان عام 1983، فسوف نستنتج بأنهم عناصر الجبهة الوطنية الديمقراطية اليمنية (ج. و. د. ي) أو «المخربون» وفق الرواية الرسمية حينها.
وما يُشير إلى ما ذهبنا إليه هي الاتفاقية الفاشلة لحل النزاع ما بين حكومة صنعاء وبين الجبهة الوطنية الديمقراطية اليمنية، ثم تقدم الجبهة الإسلامية (الإخوانية التكفيرية) وطي عهدهم الثوري. 
عجزوا حين حاولوا أن يطيروا 
 وأرادوا أن يهبطوا فاستطاعوا
ثم قالوا تزوجوا (بنت آوى)  
وأطالت حفل الزفاف السباعُ

هويتهم 
 في بداية القصيدة إشارة إليهم «قيل عنهم»، فالشاعر يفترض أنه يتشارك مع المتلقي المعنى المقصود بـ»هم»؛ أي يتشارك والمتلقي المعرفة بهم، فلا يُمكن أن يأتي الشاعر بالإشارة دون أن يكون لدى المتلقي فكرة عن المُشار إليهم في تلك المرحة السياسية التاريخية التي تمثل سياق كتابة القصيدة. 
وفي تلك المرحلة السياسية، كان الشاعر البردوني يلجأ إلى الرمز في تناوله للقضايا السياسية، كما كان المناضل يلجأ إلى العمل السري والاسم الحركي. فمن هذا السياق يمكن القول بأن البردوني كان يقصد جماعة معينة يعلم القارئ جيدا من هي.

رابطتهم
 كيف تقدم القصيدة الرابطة التي تجمعهم:
قيل هم إخوة وقيل رفاق
 قيل هم جيرة غذاهم رضاع
فما هو الرضاع الذي يشير إليه البردوني؟ أي ما هي عقيدتهم السياسية والثقافية؟ وفي القصيدة ما يشير إلى ذلك؛ وهو:
رضعوا في الصبا حليب الثريا 
وارتعوا قامة الربا حين جاعوا
إذن فقد رضعوا قيما سامية عالية كالثريا، قيم الحق والعدل والحرية، ولم تكن مجرد قناعات فكرية، بل متصلة بالانتماء الوطني ورابطة الأرض.

قواتهم 
تقدم القصيدة هذه الجماعة غامضة من حيث عددها؛ وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً من أنها حركة ثورية سرية، لا يعلم أحد بعددها، بل يلمسون آثار نضالها، أي فاعليتها. ووفقاً لما يتلمسونه من فاعلية يقدرون العدد.
قال راوٍ هم أربعون، وثانٍ  
قال هم تسعةٌ وعمٌّ شجاعُ
فانبرى ثالثٌ تَعِدّان ماذا؟  
هم أُلوف كما تمور القلاعُ
هل تكيلانهم؟ نعم هم لدينا  
نصف صاعٍ وقل إذا شئت صاعُ
ربما تشبرانهم ذات يومٍ  
ربما أول القياس ابتداعُ

علاقتهم بالصراع 
من السنن الاجتماعية أن الفوضى والخلافات والصراعات تخترق الهدوء النسبي، وتظهر مع ظهور الثوار والمصلحين. حينها تبدأ الخلافات والصراعات والاستقطاعات في المواقف والأفكار. وعادة ما يتم تحميل القوى الثورية مسؤولية الصراع، الفوضى، الضحايا، والترحم على الوضع السابق الفاسد من قبل الانتهازيين الذين فقدوا مصالحهم، ومن قبل الجبناء وغير المستعدين للتضحية من أجل الخلاص النهائي.
 كانت أبرز الخلافات في القصيدة هي عن علاقتهم بالصراع السائد. وقد جاء الخلاف حول علاقتهم بالصراع كالتالي:
قيل شب النزاع لَمّا تبدّوا  
قيل مِن قبلهم أفاق النزاعُ
قَصَّ عنهم مؤرخٌ كيف جاؤوا  
قال ثانٍ مضوا وجاء الصراعُ
شوّهتهم صحيفةٌ كالأعادي  
وأعادت صحيفةٌ ما أذاعوا
هناك من اعتبر أن النزاع جاء نتيجة لظهورهم. وهذا الوعي يمثل الجبناء والانتهازيين الذين فقدوا مصالحهم ولا يشعرون بالانتماء الأصيل للثورة. وهناك من يرى أن الصراع سابق لوجودهم وأنهم نتيجة واعية لهذا الصراع.
لا يتوقف الأمر عند علاقتهم بالصراع، بل يمتد إلى الاستفسار عن مقاصدهم وأهدافهم:
قيل جاؤوا البقاع كي يحرقوها  
قيل جاءت إلى الحريق البقاعُ

تأثيرهم 
 القصيدة مليئة بالأفعال؛ فهي حركية من حركيتهم ومن تأثيرهم الفاعل. وتأتي حركتهم منسجمة مع عناصر تكوينهم الأرضية والسمائية، مع انتمائهم الوطني وسمو تطلعاتهم. وفي هذه الافعال إشارة إلى وطنيتهم وموقفهم من الوحدة الوطنية، ومن استقلال اليمن عن المحيط الخليجي المعادي حينها ولا يزال، وكذلك الإشارة إلى نبوغهم السياسي وإدراكهم للتطورات وخطط الأعداء ونواياهم.
تبرز أفعالهم هذه كالتالي:
ذو أصولٍ أعلى المزايا لديهم  
سلُّ سيفٍ أحدُ منه الذراعُ
قيل كانوا إذا أجالوا سيوفاً  
في رُبى صعدةٍ أضاءت رداعُ
وإذا أولموا بصعفان ليلاً  
كان لليل في الخليج التماعُ
قال بعض المحللين أطلُّوا  
فجأة في الدجى فهزُّوا وراعوا
قبل أن يظهروا أتى الوصف عنهم  
فرآهم قبل العِيان السَّماعُ 
ولهم نسبةٌ إلى كل برقٍ  
وعلى نيّة الرياح اطِّلاعُ