ليزا جاردينر / مرافئ -
يطمس الموت أسراراً وعلوماً لا علم لنا بها.  وما التاريخ سوى رحلة تنتمي إليها البشرية لترتوي من معارفها  المخفية! قد لا نبالغ في الابتعاد عندما نعبُر إلى بلاد الأندلس لنرى ونشاهدآثار اليد اليمنية وهي تُزيِّن أرض غرناطة، ويصدق حينها قول الكاتب اليمني عفان عبد الله  نعمان: 
«لو لم تكن يمنيّا لتمنَّيت أن تكون يمنيا». استوقفتني هذه الجملة؛  من يتمنى أن يكون يمنياً؟! 
ألا يريد أهل بقاع الأرض أن يحصلوا على جواز إنجليزي أو أمريكي؟!
يقف القصر على صخرة عالية يقال عنها «حجر»، وما كانت الجبال إلا حجارة أمام الإنسان اليمني، ليسمِّي هذه الصخرة العالية التي بُنِيَ فوق سطحها القصر ليتحدى جميع التضاريس والرافعات الحديثة، ليقف العقل حائرا ويسأل: كيف تم بناء هذا القصر العجيب فوق الصخرة «الجرانيتية» الضخمة التي ترتفع 35 مترا عن سطح الأرض؟! أهو جن طائر تحدى الهندسة المعمارية هنا؟!
عند دخولك وادي ظهر يخيل إليك بأن جباله تُلقي إليك التحية، وتعتقد للوهلة الأولى بأن تلك الجبال هي بمثابة حرّاس القصر تحرسه بعين النسر المدافع عنه ضد المعتدي.
بعد أن تتسلق الصخرة وتدخل مرآب القصر تستهويك الرغبة والدهشة في آن واحد، وكأنك تسافر إلى زمن مختلف وعصر فريد، وتشتم رائحة الحجارة القديمة التي صُمِّمَت من كوكب آخر لتنتقل إلى أرض همدان الأبية في ضيافة كريمة. وعند دخولك عبر الممرّ الواسع المرصع بأحجاره الضخمة كأنك في مملكة خيالية لا يستطيع حتى جن النبي سليمان تصميم قصر بهذا الجمال وهذا الإبداع الهندسي.
هناك تتعلم أن الإنسان اليمني هو من أعظم من سكن هذا العالم، وأنّ بقاع الأرض المختلفة تشهد على عظمته. تتراقص أدوار القصر السبعة ذات الطابع الهندسي اليمني الفريد وكأنها قلب همدان النابض. يطل على الزائر الشذروان الأخضر في خجل لتسقيه النافورات العذبة وكأنها تغني لأروقة القصر، وجدرانه وزواره.
في القصر غُرف كبيرة المساحة لاستقبال الضيوف من الرجال والنساء، كما يوجد غرف نوم. ويجب ألا ننسى «المفرج» وهو حجرة لاستقبال كبار الضيوف تُطل على حوض من الماء. يتألق الحوض بالحجر الأسود الدائري الأنيق ويتلألأ الماء عليه مثل بلورات بيضاء تعانق الحوض بمحبّة وحنيّة نادرة.
في كل دور نجد الاحتياجات الشخصية لساكني القصر، مثل الخزانات التي استخدمت كثلاجات للمياه والفواكه، ونجد أيضا طاحونة للحبوب وبئرا للحصول على المياه الجوفية، وحمامات ومطابخ. كما يوجد خطوط قديمة على بعض الجدران، وهناك مغارات حفرت في الصخر يقال إنها استخدمت كمقابر لدفن الموتى.
وكيف لا؟! فكم دَفَنت قبائل همدان من الأعداء، وهي التي اشتُهرت بالقوة والشجاعة وشدّة البأس!
ولا يخفى علينا أن اسم همدان من الأسماء السبئية القديمة، وقد جاء في الخطوط المسندية بصيغة شعب همدان.
فهو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ويتفرع إلى قبيلتي حاشد وبكيل، ومنهما تتفرّع عدة قبائل. ويتفرع من هذا النسب علماء وشعراء وفلاسفة ومؤرخون ومقاتلون، منهم محمد ابن الحسن الهمداني مؤلف كتاب «الإكليل» وغيره من الكتب القيمة. كما تنحدر أصول الدولة الصليحية من أصول همدانية، وأهم ملوكها كانت الملكة أروى بنت أحمد الصليحي.
قادت همدان حروباً لا عدَّ لها بمقاتلين لا يهابون الموت، بل إن الموت يفر منهم خوفا وجزعا. وخاضت مع القبائل اليمنية حربا ضد الأحباش، تحت إمرة الملك شاعر أوتر، وحاربت المتمردين في بقاع شمال الجزيرة العربية، وشنت حرباً على ملك كندة ربيعة ذو الثور. وفي 25 (ق.م) حاربت الغزو الروماني تحت قيادة إيلي يخصب الهمداني.
ويقال بأن قبيلة همدان هي التي تحدث عنها القرآن الكريم وسمى أهلها «أصحاب الجنة». ويزيد همدان عزة وفخرا دون قبائل العرب في الجزيرة أنها أسلمت عن بكرة أبيها وشاركت في الفتوحات ونشر رسالة الإسلام. وقد قال فيهم الإمام علي عليه السلام:
لهمدان أخلاق ودين يزينها
وبأس إذا لاقوا وحسن كلام
ولو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
لكل هذا أقول لك: ارفع رأسك، فأنت يمني.

كاتبة وأديبة إنجليزية يمنية الأصل.