قبل شهرٍ تقريباً أعلن العسكر إحباط محاولة انقلاب قادتها مجموعة من الضباط المناهضين لـ«حميدتي»، في مؤشرٍ قبلي تجلى الاثنين 25 أكتوبر/ تشرين الأول إعلاناً انقلابياً كاملاً قاده ونفذه عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) بغطاءٍ صهيوني وبتزكيةٍ سعودية إماراتية مصرية.
وفيما يتعلق بالدور الأمريكي، فما إن غادر جيفري فيلتمان، مبعوث واشنطن إلى الخرطوم، مكتب عبد الفتاح البرهان، قبل ليلتين من إعلان الأخير الانقلاب، تدحرجت أحجار الدومينو مؤذنةً باكتمال مشهد الانقلاب الثاني.
إذن فقد أصبح عبدالفتاح البرهان، الذي كان له اليد الطولى في إلحاق الخرطوم بما سميت «اتفاقات إبراهام» التطبيعية الخيانية بين العواصم الخليجية و«تل أبيب» حاكماً بأمره، وهو من بدأ علنياً عملية جرّ الخرطوم إلى تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، باللقاء الذي جمعه برئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية في فبراير/ شباط 2020.
وكشف مسؤول صهيوني لصحيفة «إسرائيل اليوم» الموقف ممّا يحصل في السودان، بالقول: «بالنظر إلى الوضع القائم أمامنا، من الأفضل لإسرائيل دعم الجيش وقائده العسكري ورئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح برهان على دعم رئيس الحكومة عبدالله حمدوك».
وبرّر المسؤول الصهيوني ذلك بالقول إنه «لم يكن بالإمكان منع الانقلاب. لقد كان واضحاً منذ سنوات أن رئيس الحكومة والرئيس المدعومين من الجيش يقفان في اتجاهين مختلفين، وكان واضحاً أن الأمر سيصل إلى هنا».
وأضاف: «لعل القائدين السودانيين يدركان أن السودان مضطر لتقوية وتعزيز علاقاته مع الغرب. ما حصل في السودان يذكّر بفترة مبارك. الدولة ليست ديمقراطية، وكانت لمدة 30 سنة بقيادة وحيدة من عمر البشير. نحن نفهم طموحات الولايات المتحدة لدمقرطة السودان، ولكنّ البرهان أفضل من حمدوك بالنسبة إلى إسرائيل في مجال تعزيز العلاقات مع الغرب ومع إسرائيل لناحية التطبيع».
قبل الإطاحة بالمجرم عمر حسن البشير أدّى عبدالفتاح البرهان دوراً رئيساً بعيداً عن الأضواء في الدفع بآلاف المرتزقة السودانيين في «العدوان على اليمن»، ثم أصبح في دائرة الضوء حين تولى قيادة المجلس العسكريّ الانتقالي في أعقاب الإطاحة بالبشير على يد الجيش في 11 نيسان/ أبريل 2019 إثر تظاهرات حاشدة استمرت خمسة أشهر.
في 12 نيسان/ أبريل أدّى البرهان اليمين رئيساً للمجلس العسكري الذي تولّى السلطة بعد البشير. وتقلّد البرهان منصبه بعد أن تنازل الفريق أول ركن عوض بن عوف عن رئاسة المجلس العسكري بعد أقل من 24 ساعة من تسلّمه السلطة، تحت ضغط الشارع الذي كان ينظر إلى ابن عوف على أنه من داخل النظام وحليف مقرّب من الرئيس السابق.
يلفت المراسل السياسي لموقع «والاه» الصهيوني، براك رافيد، في مقابلة مع إذاعة (إف إم 103) في «تل أبيب»، إلى أن كيان الاحتلال كان يلعب دوراً مكثفاً في السودان في العام الأخير وحتى في الأسابيع الأخيرة، وأن هناك نشاطاً كبيراً في المقابل من جهة السودان يشمل حتى تعاون مساعد عبدالفتاح البرهان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مع الموساد «الإسرائيلي» ويعمل معه علانيةً.
ومنذ الإطاحة بالرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019 أضحى قائد «قوات الدعم السريع»، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الرقم الصعب في المعادلة السودانية.
فالرجل كسر شوكة النظام قبل سقوطه بنحو 100 يوم، حين أعلن عصيانه البشير بالانحياز للمتظاهرين. والمفارقة التاريخية في مسيرة «تاجر الإبل» أن أعداءه الذين حاربوه طيلة 15 عاماً وحاولوا نزع زيه العسكري طالبوه بالانضمام للمجلس الانتقالي، في محاولة لإضفاء شرعية على مثلث الحرس القديم المتمثل في: وزير الدفاع ابن عوف، ورئيس الأركان كمال معروف، ومدير المخابرات صلاح قوش. لكنّ حميدتي أعلن رفضه ثانية؛ ليتسبب بعدها فيما عُرف بالسقوط الثاني للنظام.
وبعدما ترأس الفريق أول عبد الفتاح البرهان المجلس الانتقالي بديلاً عن ابن عوف أصبح حميدتي -الذي تجمعه بالبرهان صداقة قديمة- نائبا لرئيس المجلس بدلاً عن كمال معروف، ثم أصبح بعدها الوسيط بين النظام والولايات المتحدة، وهو الدور القديم الذي صنع نفوذ مدير المخابرات صلاح قوش.
ينحدر حميدتي (43 عاماً) من قبيلة «الرزيقات»، إحدى أكبر القبائل العربية في إقليم دارفور، التي تشكلت منها قوات «الجنجويد» المدعومة من البشير.
وانتهجت تلك القوات سياسة القتل الجماعي وحرق القرى، في واحدة من أبشع مجازر القرن خلفت نحو 300 ألف قتيل وأكثر من 3 ملايين مشرد بلا مأوى.
حميدتي سبق أن خان البشير ثلاث مرات، فقبل انحيازه للمتظاهرين أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2018 سبق أن انسحب بمليشياته مرتين من القتال لصالح الحكومة واعتصم في دارفور، كما أنه حاول الانضمام لقوات التمرد بعد خلافات مع الرئيس السوداني بسبب تقنين أوضاع المليشيات.
الرجل الذي اعتاد الحديث عن نفسه بأنه لا علاقة له بالقتال ولا الحكومة ولا السياسة، مثّل وجوده امتدادا لقوات الدفاع الشعبي التي تشكلت من الإسلامويين لتكون قوة رادعة لحماية نظام البشير.
حميدتي الذي ظل حامي عرش البشير نحو 15 عاماً، توّج عام 2017 حين أصدر البشير قراراً بترقيته لرتبة فريق ومنح قواته الحق في التدخل الفوري لحسم أي شغب متمثل في انقلاب أو تظاهرات. والمفارقة أن الحصان الأسود الذي نمّاه البشير وجعله الرقم الصعب في المعادلة السودانية كان هو الذي أطاح بالبشير من الحُكم، حين انحاز للمتظاهرين ليتوّج بذلك الانحياز الخيانة الثالثة.
«ثلاثة طلبات: مشاركة حقيقية في السلطة لِمَا فعلْت مع المتمرّدين، وإعطاء مجموعتي رتباً عسكرية، وتحقيق تنمية لأهلي». قالها حميدتي للبشير في أوّل لقاء بينهما عام 2006. وبالفعل كان له ما أراد، إذ تمّت قوننة مليشياته المعروفة بالجنجويد ومنحها صفة رسمية باسم الدعم السريع، ورفدها بالأسلحة والمعدّات، وإرسالها في المهمّات القذرة الكبرى، سواءً داخل السودان أم خارجه وتحديداً في اليمن حيث ذاع صيتها في ميدان الارتزاق لصالح السعودية والإمارات.
اكتسب حميدتي بسبب مرتزقته بُعداً إقليمياً مكّنه من التقارب مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، بالإضافة إلى الصداقة التي جمعته مع عبد الفتاح البرهان، المشرف العام على المرتزقة السودانيين في اليمن، والذي يرتبط أيضاً بصلات مع السعودية والإمارات، ليجتمع الرجلان بعدها في أروقة السُلطة فردتين انقلابيتين في حذاء عمالة واحد.