«تشرين» السورية - لمى بدران -
بين عاشق ومدينة يستمر البوح، تتحول صباحات ومساءات دمشق إلى احتفاء متواصل بشاعر عاشق كجده امرئ القيس، يجوب أزقتها صاخباً كالبحر وعابقا كالنسائم.
صلاح الدكاك في استضافة «تشرين» سورية، الصحيفة الأولى عروبة وقومية ونضالاً، حيث الكاتبة الرائعة لمى بدران تنسج من «هذه الأبجدية أمي» وشاحاً لـ«ألف ليلى وليلى».

لا تثقي تماما
في لهفتي عليكِ
في تدحرجي إليكِ
في تزلٌّفي لوعد
حتى أنا لم أتبيّن بعد
إن كنتُ حقاً مُغرماً
أم أدّعي الغراما!

كمبدعين عرب آخرين مروا من هنا، من دمشق، ليعلنوا نتاجهم الإبداعي، وفي مختلف أنواع الإبداع وأشكاله: شعراً، رواية، تشكيلاً، مسرحاً، ودراما، وأمسوا اليوم نجوماً في سماء تنوعاتهم الإبداعية... وإذا كان معظم هؤلاء اختاروا دمشق في ذروة أمانها واطمئنانها، فإن الشاعر اليمني صلاح الدكاك سيختار دمشق ومازال ينزفُ جرحها المستمر من حربٍ خاضتها على مدى أكثر من عقدٍ من الزمان ضد قوى كل شرِّ هذا العالم وفجوره وظلاميته وطغيانه.
من هنا يبدو صلاح الدكاك في توقيعه مجموعتيه الشعريتين في صالة ألف نون بدمشق، وهما مجموعة «ألف ليلى وليلى» التي بدأنا هذا المقال بومضة شعرية منها، ومجموعة «هذه الأبجدية أمي»، الصادرتان عن دار نينوى بدمشق أيضاً، إعلان موقف من هذا الشاعر اليماني الذي لا ريب في عروبته.
مجموعتان شعريتان أشبه بمشهد شعري متنوّع، لاسيما لجهة الأشكال الشعرية التي ينوّع عليها في قصائد المجموعتين من شعر عمودي موزونٍ ومقفى، وشعر تفعيلة، حيث تختلف أحجام هذه الأشكال بين المجموعتين، وإن كانت النوعية الغالبة تميلُ إلى الشعر الموزون العمودي.

هذا أنا سلماً وحربا
هذا أنا سأماً ووثبا
هذا أنا صحواً وأنواءً
وإجداباً وخصبا
هذا أنا بحراً وإبحاراً
وقافلة ودربا!

كما أنهما (المجموعتين) أقرب إلى مهرجان الأقوال، لاسيما لجهة شواغل القصيدة وأغراضها، من هموم ذاتية، إلى هموم وطن... ديوانان يجمعان نتاج تجربة الشاعر العاطفية والسياسية وصولاً إلى العرفانية (الصوفية)، وذلك بعد اعتقاده بأنه لن يجد سقفاً يَنصِب فيه قامته الأدبية بشكل كامل غير دمشق كما يذكر. لكنه وبعد طباعة توأمه الأدبي أصبح يراهن على أن دمشق هي التي ستقدّم هذه الأعمال الأدبية بشكلٍ يمنحها أجنحة للطيران والتحليق في فضاءٍ أوسع.
يشبّه الشاعر تجربته الحاليّة بامرأةٍ حبلت في مراهقتها وولدت في الخمسين من عمرها، أي: ولادة متأخرة. ويعتقد -حسب ما ذكر أثناء حفل التوقيع الذي اختار له فنوناً تشكيلية- أن ما يمنح اللغة البعد والدلالات ويجعلها مطواعة بين يدي الشاعر هو «الجوانية» وصدق المشاعر لديه. وبرأيه أن «الأحداث الأخيرة التي تشهدها المنطقة أنضجتنا بشكلٍ كبير، وأمسى المواطن العربي يشيب في المهد»، وربما لذلك يرفض الدكاك تصنيف الشاعر زمنياً، كما يرفض الألغَاز أيضاً، ويمقت المباشرة، وهو لا يغرّد خارج السرب وإنما يتمنى ذلك؛ لأنه يكتب بلغة تمشي الهوينى على طرقات المفردات الدافئة التي تهرب من جزالة مفردات القواميس الباردة، وأحفورياتها، تماماً كما تهرب من لغة الأزقة.
«هذه الأبجدية أمي» عنوان مجموعته الأولى التي زيّن غلافها بلوحة مفعمة بالأمومة. أُمّ تتَدفّقُ حناناً وتعانق طفلها الصغير الغافي على قلبها، وهي بريشة الفنان اليمني أنس عبد الكافي، والتي تُشكّل مع العنوان شعوراً بالدفء قبل أن نبدأ بقراءة المضمون الشعري، صورة لا تبتعد عن السيدة العذراء في احتضانها السيد المسيح، بل تستلهم من تلك الأيقونة الكثير، والذي يشي بمضامين المجموعة. وبعد الانتقال إلى المضمون سنلاحظ كمية الفقد والألم التي ينقلها الشاعر لنا، فهو يُعبّر بكلماته عن يتمه وشوقه لوالدته المتوفاة ويعتبرها أبجديته، ويقول على سبيل المثال:

إن القصيدة أمي وهي ترضعني
خمر النبوءة طفلاً، يافعاً، رجلا
أو أن أمي أوصت بي إذ ارتحلت:
يا حور عبقر حِلّي حيثما ارتحلا!

ثم يُنوّع في طرح القضايا الإنسانية، ويحكي عن الحزن والكهولة والموت واليقين والذات وعن الحب والعابرات... ثمّ ينتقل إلى الأوطان للكلام عن بيروت ودمشق، وعن رسول الإسلام في «البُرْدة اليمانية»، وغير ذلك من الموضوعات التي تحمل المشاعر الإنسانية وتلامسها.
أما في مجموعته الثانية «ألف ليلى وليلى»، فيذهب بنا إلى فلسطين بالدرجة الأولى التي يعتبرها ليلاه الأولى والأخيرة وهو قيسها، وكتب فيها إلى ليلى خالد، المناضلة الفلسطينية الأممية التي «خلعت ملامحها لترتدي ملامح الوطن»، وإلى روح الشهيدة الإعلامية السورية يارا عباس التي «ارتقت على مذبح الحرية الحمراء»، وإلى أرواح كل شهداء وشهيدات الإعلام السوري العربي المقاوم... ومما كتب:

ليلى، والأحرار بكل العالم قيسٌ
والثورات قصائدْ
تتبتّل عينيك الواسعتين كدمعة «حيفا»
الدامعتين كمفتاح العودة
والمشرقتين كرشّاش فدائيّ عائد!
ليلى
لا ليلى إلا أنت!

بعد ذلك يعود للتنويع في المضمون أيضاً في هذه المجموعة، حيث يسافر بشعره بين البلدان العربية، مثل لبنان والكويت وفلسطين، واليمن بكل تأكيد، ليحكي آلاماً وآمالاً لا تنتهي، مبتعداً في أسلوبه عن القصديّة في تقديم شكلٍ فني مختلف لنصوصه الشعرية؛ لأنها برأيه نوعٌ من التكلّف، إلا أنه يجد من المهم أن توجد مفارقة عن لغة الأقدمين والسالفين، وأن يُنجز خطاباً وجملاً جديدة، وهذا لا يحصل في ديوان واحد، بل في حالة الصيرورة، حيث استحضر الشاعر الدكاك في هذا السياق قولاً لناظم حكمت هو: «أجمل القصائد هي التي لم نكتبها بعد، كما أن أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد»، ويعتبر أن سقف تجربته مفتوح، وأن التجريب عنده قائم ومستمر.
كما أفصح الدكاك، أثناء توقيعه توأمه الشعري عن ديوانين قادمين هما تحت الطبع حالياً، الأول بعنوان «بزمن بخس»، والثاني «أبجدية الحرير». واللافت أن الثاني هو ديوان مكرّس للمشهد السوري منذ الحرب على سورية عام 2011 حتى هذه اللحظة، أي هو عبارة عن قصائد سورية دمشقية بامتياز، وأنه بمنزلة وفاء لنفسه وللقضية السورية؛ لأن سورية -بتقديره- ليست ملكاً للسوريين فقط، بل هي ملك العرب جميعاً.

ضعوا ورقاً أبيضاً قرب رأسي إن متّ
علّ سكون الضريح يساعدني
فأدوّن ما فاتني من كلام!
ورشّوا رفاتيَ بالحبر
إن لم يكن مرةً كلّ يوم،
إذاً فليكن مرةً كلّ عام!


نقـلا عـن صحيفة «تشرين» السورية