«لا» 21 السياسي -
لا أزال أذكر تلك اللحظة التي حلق فيها صاروخ يمني في سماء أبوظبي، في حين كان رئيس كيان العدو الصهيوني يدنس لأول مرة علانية أرض جزيرة العرب. لم تكن المسألة مجرد شعور عاطفي ومعنوي، بل ومنذ تلك اللحظة حق القول بأن الجزيرة العربية قد عادت للتاريخ.
مئات السنين مرت، عدة قرون، على تحول هذه البقعة الجغرافية التي انبثقت منها الرسالة المحمدية، إلى بقعة يكتب فيها الآخرون تاريخهم فيها وعبرها؛ الأتراك والبرتغاليون والإنكليز والأمريكيون... أصبح تراب جزيرة العرب عبارة عن مدن ودول ساقطة بالمعنى العسكري والثقافي والاقتصادي لخدمة قوى أجنبية. كان هنالك بقعة وحيدة في خاصرة الجزيرة طالما سجلت نوعاً من التمرد، ترفض التطويع. وكانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عنواناً لهذا التمرد، وإنشاء أول جمهورية في جزيرة العرب، كانت ثورة 14 أكتوبر تؤرخ لأول طرد للمستعمرين من الجزيرة العربية. إلا أن دول النفط تكالبت على هذا الشعب لعقود، استضعافاً وتوهيناً. ولأن اليمن هو الخزان البشري والثقافي والإيماني كان منطقياً أن يكون ضعفه قوة لممالك النفط والتبعية، الإسراف والتفريط، الوهن والذل، كان اليمن هو الجوار الحق المضيع من على حدود النعمة الموفورة.
حتى أن قامت حركة اجتماعية سياسية أشبه بالأساطير، تخال من الخرافة وهي صدق، بتعبير أحمد شوقي، جعلت من سبتمبر سبتمبرين، نفضت الغبار عن ستة، وكيد سحرته، فأعادته سيرته الأولى فكان واحداً. لعل هول ما نعيشه اليوم من الإجرام الصهيوني في شعبنا الفلسطيني يحاول عبر الصهاينة والأمريكيين توهين ما حدث ويحدث. لكن هذه القصة يجب أن تروى: رجل أسمر السحنة نائب في برلمان اليمن يدعى حسين، رأى من داخل البرلمان تكالب وحوش وضباع لا تنهش في جسد وطنه بل أمته، ليقوم من داخل مسجد صغير وتارة خيمة وتارة كهف، فهو ابن الأرض، جلس وقرأ الذكر الحكيم، ورمى ببصره أوضاع العرب والمسلمين كافة، لا نعلم كيف أفرغ الله عليه الصبر وآتاه الحكمة، لكننا نعلم أنه سبق ببصيرته الجميع، ليصرخ أمام جمع من العشرات من الفقراء: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام". قالها لوجه الله، خاطب فيها التاريخ، لا نستطيع أن نقول إنه لم يكن يعلم، فمن نظر إلى عينيه رأى ذلك اليقين بأن هذه الصرخة بعد مجرد عقدين من الزمن ستنتج قوات مسلحة يخرج ناطقها مخاطباً العالم فيسمعه: "أطلقت قواتنا المسلحة دفعة من الصواريخ البالستية على أهداف مختلفة للعدو الصهيوني".
في خطابه التاريخي الأخير، وتحديداً حين قال السيد عبدالملك بدر الدين: "عيوننا مفتوحة للرصد الدائم"، ترى اليقين ذاته في عين الشهيد القائد حسين الحوثي ذاتها. كثيرٌ ما يمكن أن يقال؛ لكن أقصر القول وما يختصر الحكاية والمسيرة هو: القائد.
لأي عربي، صدقاً، فقط شاهد خطاب الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، لغة الجسد، لغة الكلمات، المفردات، كل غضبنا، رغبتنا في النيل من الصهاينة، الانتقام، نفض العار، تراه فيما يقوله هذا الرجل، سنظفر بكم! سننكل بكم! ليس في اللغة العربية مفردات تعبر عما في كينونتنا العربية اتجاه العدو الصهيوني كهذه. والله، لم يكن في خاطري وأنا أشاهد الخطاب سوى القول: يا ليتني في جامع الشعب بصنعاء، بين تلك الجموع، ونحن نرى ضمير العروبة والشرف ينطق على لسان بشر.
وكأحد ربي صباه في ظل ذل أمراء آل سعود وتحت مملكتهم، فلربما يحق لي القول إنني عشت في الجزيرة العربية في جزئها الخارج عن التاريخ، الخارج عن أي منظومة أخلاقية وقيمية، المقطوعة الصلة عن امتدادها العربي والإسلامي، وأفكر في الأسى كيف أن هنالك مسجداً جميلاً صغيراً في المدينة المنورة يسمى القبلتين، حيث وليّ أبي القاسم روحي فداه قبلة يرضاها في مكة، وأن هذا المسجد شاهد على الترابط والتواصل حتى العمراني بينا وبين قبلتنا الأولى في القدس، في المسجد الأقصى. لكن، خروج البقعة المنتهكة اسمها السعودية عن امتدادها الحضاري صور لنا وكأننا قطعنا عن تاريخنا، حتى رأيت الجمع في جامع الشعب فرأيت القبلتين في مسجد، يصلى فيه لله في مكة، ويقام من الجهاد للأقصى، وحين سقطت سماء جزيرة العرب لطائرات العدو وأرضها لقواعدهم وبحرها لسفنهم، كان لنا اليمن جميعاً ركناً شديداً. حفظتم كرامتنا وعزتنا أيها اليمنيون، فمن نحن بدونكم؟!

موسى السادة - كاتب وصحفي من أبناء الجزيرة العربية (نجد والحجاز)