مصر واليمن.. تكامل استراتيجي
 

أمين العباسي

أمين العباسي / لا ميديا -
تأكيداً لما لا يلزم تأكيده، لا أبدع جديداً إن قلت إن مصر واليمن عمقان استراتيجيان لمشروع الأمن القومي العربي، ولبعضهما أولاً، ولا أدل على ذلك من الماء والجغرافيا.
يربط شريان البحر الأحمر بين البلدين، ويرسو بهما على مضيقين أحدهما طبيعي والآخر مستحدث. موقعهما على هذا النحو وبهذه المعادلة له دلالاته الاستراتيجية في مفهومي الجغرافيا والتاريخ.
يؤكد هذه الاستراتيجية عدد من مفكري الجغرافيا والتاريخ. أذكر -مثالاً لا حصراً- أرنولد تونبي وجمال حمدان. يطلق الأول على المنطقة المحصورة بين جنوب شبه الجزيرة العربية أو "العربية السعيدة" -كما هي في الوثائق اليونانية- وشمال أفريقيا -التي في قلبها مصر- بطلق عليها "السهل الأفروآسيوي"، مطبّقاً عليه نظريته المعروفة بنظرية "التحدي والاستجابة"، التي حاول تطبيقها على عدد من الحضارات في سياق دراسته للتاريخ الحضاري للبشرية بصورة عامة. كما أن المفكر الجغرافي العربي جمال حمدان يفرق في طروحاته الجغرافية بين مفهومي الموقع والموضع، بما يخلق تكاملاً عضوياً بين المفهومين، ويصبهما في تيار مفهوم الأمن القومي العربي، ويسقطهما على موجات البحر الأحمر الناظمة لإيقاعه بين باب المندب وقناة السويس، متقاطعاً ومتكاملاً مع طروحات تونبي المؤرخ.
الأدوار المتبادلة بين اليمن ومصر تاريخية، تمثلت في العلاقات الاقتصادية والسياسية تحديداً، حيث نشأت تجارة مشهودة بين البلدين كان البخور والمشتقات "الراتينجية" عنوانها، وكذا تبادل الهدايا، الذي مهد لعلاقات سياسية متعددة الأبعاد، متنوعة المضامين.
في العصر الحديث، ومع بروز تهديد الأمن القومي العربي، الذي جسده الاستعمار الغرب أوروبي المباشر، وقيام حركة التحرر العربي، تنبه دعاة العمل القومي إلى ضرورة مواجهة هذا التهديد من خلال التحرك المضاد له.
وبقيام ثورة يوليو في مصر بدأت أولى خطوات المشروع العربي تتجسد تفكيراً وممارسة، حيث حددت -ارتكازاً على التاريخ والجغرافيا- ملامح ذلك المشروع، وانتظمت بعض أدواته وخطواته ورؤاه.
يشير الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر إلى هذه الأهمية بقوله: "أمن البحر الأحمر استراتيجي وذو أهمية قصوى لمشروع الأمن القومي العربي برمته"، ما حدا به إلى حشد كل طاقات وإمكانات مصر للدفاع عن هذا المشروع وحمايته وبناء مداميكه.
ذهب ناصر إلى اليمن، كما ذهب إلى الجزائر وغيرها، مدافعاً وحامياً. جاء إلى اليمن بجيوش من العسكر والمدرسين والخبراء الفنيين في كل المجالات، ولم يستثنِ لازمة من أجل انعتاق اليمن إلا وأحضرها، ولم يستشعر دوراً ناهضاً ومحققاً لأهداف مشروعه إلا وقام به.
يروي اللواء المهندس حاتم أبو حاتم قصة سمعتها منه مراراً ومن آخرين غيره، وإن بصيغ مختلفة. يقول في مرويته: كنت منخرطاً في المقاومة الشعبية في صعدة كغيري من شباب اليمن الذين شكلوا غطاء رديفاً للجيش المصري، الذي كان يتولى كافة العمليات العسكرية، حد أن عناصره كانوا يغلقون علينا أبواب السكن الذي ننزل فيه، خشية تعرضنا لمكروه إذا نحن حاولنا مشاركتهم في العمليات التي كانوا ينفذونها ضد قوات الملكية ومرتزقتها، وحين كنا نسألهم عن ذلك، يجيبون: نحن ندخركم للمستقبل، بل أنتم مستقبل هذا البلد، وأنتم من ستتحملون مسؤولية النهوض به وقيادته نحو الخلاص".
منذ وصول الجيش المصري وفي أولى أيامه إلى اليمن بدأ توزيع الأدوار بين وحداته وعناصره، والتي لم تقتصر على القتال فحسب، بل تجاوزته إلى المساعدة في حماية الأمن العام وخطوات الإعمار التي تمثلت في المساعدة أيضاً في شق الطرق، بالوسائل المتاحة حينها، وبالذات الطرق والممرات المؤدية إلى بعض المواقع العسكرية.
طريق الحديدة - صنعاء مثلاً، كان للجيش المصري دور بارز في تمهيد أجزاء كثيرة ومهمة جداً منه، كإضافة ضرورية لما بدأته الصين من 1958 وحتى 1962، بغية ربط المدينتين لتسهيل العمليات "اللوجستية" لنقل العدة والعتاد الخاص بالجيش المصري تحديداً، وكذا إيصال ما تيسر من مساعدات عينية للمواطنين في اليمن.
في كانون الثاني/ يناير 1967 حاصر الملكيون صنعاء، ما استدعى من الجيش المصري إنشاء جسر جوي عبر ناقلات "الأنتونوف 12N " لنقل أطنان من الطعام والوقود إلى العاصمة المحاصرة. وحينها قدر خبراء تكاليف تجهيز القوات المصرية إلى اليمن بملايين الدولارات. بعيدا عن خارطة الأرقام ودقتها حول حجم التضحيات التي قدمتها مصر لليمن؛ فإن ما تناقلته عديد من وسائل الإعلام، وأورده بعض المؤرخين في كتبهم، يؤكد أن لمصر في اليمن أدواراً وتضحيات ضخمة، حد نعتهم لها بـ"فيتنام مصر"، تعبيراً عن وجه التشابه بين تدخل مصر وتدخل أمريكا في البلدين؛ غير أن التدخل الأمريكي في فيتنام كان عسكرياً بحتاً، وخدمة لمصالحها لا غير، بينما التدخل المصري في اليمن كان إنقاذاً للأخيرة من غيابة جب الظلام.
السفير الصهيوني السابق في واشنطن، مايكل أورين، يعكس قاعدة هذا التشابه بقوله: "المغامرة العسكرية المصرية في اليمن كانت كارثية، لدرجة أن حرب فيتنام يمكن وصفها بأنها (يمن أمريكا)"، بحسب تعبيره.
لا يخفى عن الرأي العام العربي قبل نخبه مشاركة "إسرائيل" في حرب اليمن تلك، دعماً للملكية. وعلى هذا البعد وغيره كان موقف "إسرائيل" من مصر وعبدالناصر، وكان مشروع الأمن القومي العربي الذي ألقى عبدالناصر بكل ثقل مصر خلفه نشداناً لتحقيقه، هدفاً للقوى الإمبريالية العالمية ورأس حربتها "إسرائيل".
قبل قيام ثورة يوليو، وعلى مدى النصف الثاني من الخمسينيات، كانت حوارات تدار وخطط تصاغ في مدينة "جارمش - بارتينكيرشن" الألمانية، بسرية تامة، تحت إشراف وتنظيم السفارة المصرية في ألمانيا، ومشاركة، عبدالغني مطهر (الذي تكفل منفرداً بتمويل هذه الاجتماعات وما ارتبط بها من ذهاب وإياب إلى أماكن عدة) إضافة إلى عبدالرحمن البيضاني ومحمد قائد سيف.
يسرد البروفيسور أحمد يوسف أحمد في كتابه "الدور المصري في اليمن" عدداً من نماذج التدخل المصري في اليمن في عهود حكم الرومان والفاطميين والأيوبيين والمماليك، وصولاً إلى العهد الحديث، أيام محمد علي وجمال عبدالناصر. ويرى أن التدخل الأخير لمصر عبدالناصر قد نجح في تحقيق هدفه الأصيل، وهو حماية وتثبيت النظام الجمهوري والحفاظ عليه، بغض النظر عن التحفظات المحيطة بهذا النجاح.
يردف قائلاً: "لم يكن التدخل المصري في اليمن كارثياً كما يشاع. صحيح أن تكلفته البشرية والمادية كانت كبيرة؛ لكنها لم تكن الفيصل في ذلك؛ لأن الاعتبار يكون في المصالح المتضمنة في القرار. تعتز مصر بدورها التاريخي في حماية ثورة اليمن وإنجاحها وإخراج الشعب اليمني من غياهب التخلف والاستبداد، وكذا رعاية حركة التحرر الوطني في جنوب اليمن. وهو يرى أن مصر -اعتماداً على هذا التدخل، ومن خلاله- حققت النصر الكامل في زمن قياسي لم يتجاوز أربعة أعوام، وحصدت ثمار غرسها في اليمن بعد أقل من ستة أعوام، عندما قامت البحرية المصرية في حرب أكتوبر 1973 بإغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة "الإسرائيلية"، بالتنسيق مع السلطات اليمنية.
هناك عدد من الكتابات والمؤلفات تطرقت إلى ملامح ومعطيات وضرورات الأدوار التاريخية لمصر في اليمن، التي يعد ويصنف دور مصر عبد الناصر درة تاج إنجازاتها.
في منتصف سبعينيات القرن الماضي قدمت اليمن، في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، رؤيتها لما سمّته "الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر"، والذي تضمن في أدبياته توضيحاً عملياً وتفصيلياً للفكرة والمفهوم، داعية كل الدول المطلة عليه إلى تحمل مسؤولياتها في سبيل إنجاح المشروع؛ ما ألّب عليها خصومات عدة من الداخل العربي قبل الخارج الأجنبي، وبالذات من دول رئيسية مطلة على البحر الأحمر، كالسعودية مثلاً، التي حاولت خلال حربها الحالية في اليمن أن تنجز المشروع ذاته الذي وقفت ضده في السبعينيات؛ لكنها لم تفلح، رغم إنفاقها الباهض من أجله.
أشرنا سابقاً في سياق هذه التناولة إلى أن ناصر العرب كان لديه طموح جبار وإصرار خرافي على إنجاز مشروع الأمن القومي العربي، بما يحقق كافة أهدافه، ويؤسس لإمبراطورية عربية عصرية ناهضة؛ بيد أن طموحات الرجل وإصراره اصطدم عملياً بصخرة الأنانية والذاتية البدوية لحفاة النفط المتطاولين في التبعية والارتهان لـ"الاستحمار"، ما حتّم عليه التفكير في آلية أخرى أكثر عملية وجدوى، تمثلت في فكرة التكامل الاقتصادي العربي والسوق العربية المشتركة.
كان جوهر الفكرة أن تتكامل موارد العرب لصياغة واقع تنموي حقيقي مختلف ومتاح، موارد بشرية وطبيعية ومالية كانت كلها متوفرة ولا ينقصها سوى التخطيط، واتخاذ قرار جامع بالتنفيذ عبر جامعة الدول العربية، وهو ما حاول ناصر الأمة تمريره، بل خلقه من عدم. ذلك المشروع وتلك الفكرة العظيمة ذهبا مع غبار وغباء الصحراء، مسلّمة معظم العرب لفقر جائر. هناك عدد غير يسير من الشواهد المبثوثة في بطون المؤلفات والوثائق والتقارير تؤكد جميعها حجم وأهمية الدور، بل الأدوار التي حاولت مصر إنجازها في اليمن، توازياً مع محاولات لها على خارطة الوطن العربي كله.
 بداية، ومن العنوان، تشير خارطة الاصطفاف المتناقض مع ثورة اليمن أو ضدها إلى طبيعة الصراع وحجمه وحضور القوى الدولية فيه. فإلى جانب مصر لم يكن سوى الاتحاد السوفييتي والصين مؤيدين للثورة، بينما كان الاصطفاف في الجبهة المناقضة كبيراً وعملياً حد الفجيعة. وقفت السعودية وإيران والأردن و"إسرائيل" والمملكة المغربية، وخلفها جميعاً بريطانيا وفرنسا، في مواجهة الثورة. حشدت إمكانات مهولة وحاولت تنفيذ عمليات نوعية عبر الطيران الأردني - "الإسرائيلي".
 جمعت القوى الاستعمارية أعتى وأصلف مرتزقتها -عرباً وأجانب- للقتال وتدريب فلول الملكية اليمنية، على رأسهم جيم جونسون وبوب دينار وآخرون.
 تمكنت السعودية من مزج هذا الخليط من الفلول والمرتزقة وبعض القبائل المتأهبين للحلول محل الأئمة، وكذلك بعض القوى الحزبية التي كان لديها مواقف شخصية من عبدالناصر، وتسليحها على مستويات عدة، بما في ذلك المال والسلاح كقوى مناهضة للمشروع العربي الجامع.
ما تناولناه ليس إلا تعبيراً يسيراً عن حجم دور مصر وأهميته واستراتيجيته في اليمن، متجلياً من خلال نقائضه ومناهضيه، محلياً وعربياً ودولياً.
ختاماً، فإن الدور المصري في اليمن توازيه أدوار على الساحة العربية كاملة، حيث كان ذلك الدور يشكل بؤرة لتقويض الأنظمة الرجعية من داخلها، كمقدمة لإسقاطها وفك ارتباطها بقوى الاستعمار العالمي. يؤكد ذلك مقولة ناصر الأمة: "إننا نواجه الاستعمار في قصور الرجعية". وهذا دليل وعي استراتيجي عن حجم القوى المضادة للمشروع العربي وأدوارها المتبادلة.

أترك تعليقاً

التعليقات