سيناريو «أوسلو» الماراثوني
 

أمين العباسي

أمين العباسي / لا ميديا -
كنت كتبت سابقا على إحدى صفحات هذه الصحيفة موضوعا مكثفا بعنوان: "الشرق الأوسط الكبير.. قراءة موجزة في السيناريوهات"، وقد ارتأيت الآن أن أفرد موضوعا مستقلا خاصا بسيناريو "أوسلو"، أكثر السيناريوهات "الغرب صهيونية" أثرا وفاعلية في تمكين اليهود من فلسطين سلما عبر الاتفاقات، بعد أن فشلوا حربا وتنكيلا بالفلسطينيين منذ زرعهم ككيان دخيل أوائل القرن المنصرم.
"أوسلو" هي اتفاقية أو "معاهدة سلام"، تمت بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" في مدينة أوسلو النرويجية، حيث بدأ "ماراثون" فعالياتها رسميا أوائل العام 1991، غير أن ذلك الماراثون لم يكن إلا مكملا لماراثون سري بدأ قبل سنوات عدة، سأسرد ما تيسر من تفاصيله لاحقا.
وقعت الاتفاقية في مدينة واشنطن في 13 سبتمبر 1993، برعاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون، وقعها عن الجانب الفلسطيني الزعيم ياسر عرفات كأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فيما وقعها عن الصهاينة شيمون بيريز، وزير خارجية الكيان آنذاك. غير أن إرهاصات المحادثات المفضية إلى الاتفاقية الأصل بدأت قبل ذلك بكثير كما أسلفت، في ظل ظروف غاية في الغموض والتعقيد، على مستوى المنطقة العربية والجوار الإقليمي لها، حيث كانت تدور رحى الحرب العراقية الإيرانية المخطط لها بحسب التقارير والمعلومات والوثائق التي تناولتها. تلك الحرب كما هو معروف ومرسوم لها، آلت إلى حرب أخرى سميت "حرب الخليج الثانية"، على غرار "حرب الخليج الأولى" التي وصفت بها الحرب العراقية الإيرانية نفسها.
والواضح أن فضاء الحرب هذا كان لازما لصياغة وإنفاذ تلك الاتفاقية بما هي عليه من بنود مجحفة، بل منهية للقضية الفلسطينية، حيث قام صدع كبير في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي ودائرتها الإسلامية بسبب تلك الحرب، أضعف الموقف الفلسطيني، وحشره في زاوية حرجة إلى جانب عديد أسباب أخرى أسهمت بصور مباشرة أو دونها في إرهاق الفلسطينيين، وإضعاف موقفهم النضالي المشروع في انتزاع حقهم المستلب. بدأت خيوط تلك الاتفاقية تنسج بما يشبه "الحكاوي" أو الأساطير البدائية.
موظفة في السفارة النرويجية في القاهرة تدعى منى يول كانت تملك مبلغا أو بالأصح كان في حوزتها مبلغ من المال تود به مساعدة الفلسطينيين، ولم تجد طريقة سوى توظيفها في وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وذلك عقب تعرفها على باحث نرويجي يُدعى تيري رود لارسن كان يعمل في الوكالة، والذي أقنعها بهذه الفكرة، والغريب أن لارسن كان عضوا وناشطا في ذات الحزب الذي كانت تنشط فيه يول؛ حزب العمل أو العمال النرويجي، بغض النظر عن التسمية، صورته التقارير كما لو أنه التقى بيول لأول مرة وهذا فيه أقوال. بعد سفرهما معا تكرارا إلى بيروت وفلسطين وغزة بالذات وبلدان أخرى والعودة إلى القاهرة، تزوجا كنهاية لقصة حب نشأت بينهما، وكان ذلك الزواج مقدمة الملهاة للمقاربة والمزاوجة "الأُوسلوية" بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، ذاك الاقتران غير الشرعي من ضمن ما نتج عنه، تخلي منظمة التحرير بكل فصائلها عن فكرة العمل العسكري المسلح لاسترداد الحق الفلسطيني التاريخي في الأرض والعودة.
كانت يول منخرطة وناشطة في حزب العمال قبل أن تبدأ مشوارها في وزارة الخارجية النرويجية كموظفة تدرجت في السلك الدبلوماسي حتى بلغت مستويات متقدمة فيه، كسفيرة للنرويج لدى الكيان الصهيوني من العام 2001 حتى العام 2004، ورئيسة بعثة النرويج في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومن ثم ترؤُّسِها لمجلس الأمن أثناء عملها في الأمم المتحدة. كذلك كان الحال مع زوجها لارسن الذي تقلد مناصب رسمية عدة بعد اختتام ماراثون أوسلو، بما في ذلك نائبا لرئيس وزراء النرويج ووزيرا للتخطيط، وكذلك مسؤولا كبيرا في الأمم المتحدة لاحقا، قبل أن يستقر به المطاف مديرا لمعهد السلام في واشنطن.
كل ذلك الصعود السريع وغير المفاجئ لهذين الزوجين اليساريين تم عقب كتابتهما للفصول السرية من "معاهدة أوسلو"، جنبا إلى جنب منذ لقائهما الأول في القاهرة، والذي تشكك التقارير بعفويته وتلقائيته، إضافة إليهما كان هناك آخرون، وإن كانت أدوارهم "كواليسية"، حسب ما تقتضيه السيناريوهات، رتبوا وخططوا ماراثون أوسلو ومضماره شديد الوعورة، الذي أرهق الفلسطينيين وجعلهم يسلمون بما أمليَ عليهم من اتفاق منجز ومعد سلفا.
تفيد المعلومات بأنه كان من الصعب جدا على يول ولارسن التخاطب أو التعامل المباشر مع قيادات كبيرة من منظمة التحرير أو أيٍ من فصائلها كفيصل الحسيني أو حنان عشراوي أو حتى نبيل شعث، لصعوبة ذلك بسبب إحاطتهم بعناصر مخابرات عربية وعالمية ترقب حركاتهم وتصرفاتهم أولاً بأول، وأسباب أخرى مختلفة، ألجأت الزوجين للبحث في تفاصيل أنشطة منظمة التحرير، حتى وقفت على شخصية ثانوية غير معروفة، كان مدرسا لمادة الرياضيات في دولة الكويت على سبيل الإعارة، دُعي بعدها للعمل في إطار قيادة المنظمة كأمين صندوق أو راصد لنفقات المنظمة اليومية والشهرية كعمل وظيفي مهني بحت، بعيدا كل البعد عن القرار والنشاط السياسيين للمنظمة.
تفيد معلومات أخرى أنه وخلال فترة عمله في الكويت كان أصبح قريبا من بعض مشائخها في إطار علاقات ظُنّ أنها شخصية. ذلك الرجل هو أحمد قريع الذي صار في ما بعد رئيسا لوزراء السلطة الفلسطينية بعد التأسيس، التي هيأت أوسلو أرضيتها ورفعت مداميكها "على شفا جُرفٍ هارٍ"، حسب الوصف القرآني.
ما إن استقر رأي الزوجين الموساديين على قريع كممثل سري غير معروف في المباحثات ما قبل "أوسلوية"، حتى انطلق الأخير في رحلاته المكوكية بين عواصم أوروبية كثيرة، وأخرى عربية، وإن كانت محدودة وقليلة، خشية أي محذورٍ قد يذاع حول تلك المباحثات المادونية لأوسلو المشؤومة. بالطبع، فإن تلك المباحثات السرية السابقة لـ"أوسلو" توزعت خريطة نشاطها على أكثر من بلد وفي أكثر من مستوى تفاوضي. دخل في سكة مسار هذه المباحثات أجهزة مخابرات، وبالذات الموساد والمخابرات الأمريكية، وأجهزة أخرى حسب الحاجة والطلب رسمت أدوارها من قبل جهازي المخابرات الأمريكي والصهيوني بدقة وعناية.
هناك إيماءات عديدة تناولتها وثائق أوسلو السرية كيوسي ميلن ضابط مخابرات صهيوني تمكن بطريقة ما من توظيف شخصيات مختلفة في أكثر من بلد تمت فيه مباحثات، كأغطية تمويهية لحقيقة ما يجري، وضمن هؤلاء أساتذة جامعات ومحامون ورجال أعمال وآخرون كثر استُخدموا بحسب الحاجة والضرورة وما تقتضيانه من أدوار وأنشطة. هناك عدد غير يسير من الكتب والمؤلفات والتقارير أشارت وأكدت الكثير من الحقائق حول أوسلو منها على سبيل المثال: "أوسلو سلام بلا أرض" لإدوارد سعيد، و"حرب من أجل السلام" لشيمعون بيريز، و"طريق أوسلو" لمحمود عباس، وكتابات متفرقة لمحمد حسنين هيكل، وبالذات منها المفاوضات السرية بين العرب و"إسرائيل"، وكذا عادل حمودة وآخرون، بيد أن بعض تلك المؤلفات كـ"طريق أوسلو" لعباس حاولت بطرق شتى تبرير قناعات متورطي أوسلو وتسويقها للرأي العام، أو بالأصح ما فُرض من اتفاق، كي يخلق رأيا عاما مناصرا.
"اتفاق أوسلو" ثبّت اليهود على ما هم عليه، بل مكنهم أكثر من خلال الكثير من بنوده التي بموجبها اعترفت منظمة التحرير بحق اليهود في الوجود والاستيطان وإقامة دولة آمنة على ما يقرب من الثمانين بالمائة من الأراضي الفلسطينية مقابل إقامة حكم ذاتي فلسطيني على مساحة لا تتجاوز العشرين بالمائة عرفت لاحقا باسم السلطة الفلسطينية. في هذا الاتفاق تخلت منظمة التحرير عن الكثير من أهدافها المنصوص عليها في وثائق تأسيسها.
هذا الاتفاق جرد الفلسطينيين وقضيتهم من أبسط الحقوق والأهداف التي كانوا يسعون لإنجازها عبر نضالاتهم الطويلة والمشروعة، كحقوق تاريخية مكتسبة، مقابل تمكين الصهاينة بالإكراه غير المباشر من كامل تلك الحقوق، كالأرض والعيش والسلام وإقامة دولتهم الغاصبة على حساب الحق الفلسطيني التاريخي، وغدت العبارة "مكّن من لا يملك من لا يستحق مما لا يستحق".. رغم كل ذلك فإن الأصوليات الصهيونية كانت ومازالت رافضةً لذاك الاتفاق جملة وتفصيلا شكلا ومضمونا، حتى حدا بمتطرفيهم اغتيال إسحاق رابين، وهذا "نتن ياهو" يحذو نفس الطريق في حربه الحالية على قطاع غزة.

أترك تعليقاً

التعليقات