ميخائيل عوض

ميخائيل عوض / لا ميديا -
1
السلاحُ والأنفاقُ والنصرُ هي الرجالُ ليس إلا. السلاحُ بلا هدفٍ ووظيفةٍ عبءٌ وخطرٌ. الأنفاقُ والتحصيناتُ بدون الرجالِ مصيدةٌ ومقتلةٌ.
التقانةُ والقدراتُ على التدميرِ وقتلِ الأبرياءِ ليست القوةَ ولا طريق النصرِ، إنما الحروبُ في الميدانِ والمسافةِ صفر، ويَحسمُها البرُّ لا الجوُّ، والإبداعُ البشريُّ لا الذكاءُ الصناعيُّ.

2
الحربُ في نتيجتِها، وعند توقفِها تُحسبُ الانتصاراتُ ولِمَن تُسجَّل.
ونتائجُ الحربِ تُقرِّرُها موازينُ القوةِ الكليةِ والبيئةُ الاستراتيجيةُ، وليس الكلفةُ والمسارحُ والمدةُ أو العملياتُ التكتيكيةُ، ولا عراضاتُ القوةِ والعضلاتِ على مواقعَ وأنفاقٍ وتحصيناتٍ وأسلحةٍ بلا رجالٍ.

3
غزةُ ورجالُها، والحافةُ الأماميةُ في الجنوبِ، واليمنُ وحكمتُهُ وإيمانُهُ وأداؤُه، خيرُ أدلَّةٍ معاشةٍ وناطقةٍ بالمقارنةِ مع الجبهاتِ التي انهارتْ أو صمتتْ أو استسلمتْ لنقصٍ في عزيمةِ الرجالِ، وفي الإيمانِ والحكمةِ.
الرجلُ، بحسبِ القرآنِ الكريمِ، هي صفةٌ ليستْ للذكوريةِ، إنما للقيمةِ والفعلِ والإبداعِ والإيمانِ، وللتصميمِ والتعقُّلِ.

4
في غزةَ، والحافةِ الأماميةِ، وتجاربِ التاريخِ، صانعوا الانتصاراتِ هم الرجالُ المنظمون، والمؤمنون العقائديون، العارفون بالجاري وما سيكون، والذين حَزَموا أمرَهم أنَّ الآتي يجبُ أن يكونَ لهم ولمستقبلِ الأجيالِ.

5
أمامَ رجالِ السلاحِ في لبنان، وحماةِ الأرضِ والعِرضِ والكرامةِ، أولياءُ الدمِ وحفظُة الوصيةِ والوفاءُ لِمَن تَقدَّم إلى الاستشهادِ باسمين واثقين، من الرجالِ وعهدِهم والوعدِ الصادقِ.
خيارُ الاستسلامِ؛ غير أنَّه خيارُ الموتِ بذُلَّةٍ، وقَبولُ المهانةِ والعبوديةِ، والتفريطُ بالأرضِ والعِرضِ والعقيدةِ والإيمانِ، وخسارةٌ لكلتا الحسنيين.
وإذا كان الاستسلامُ خياراً قد يُبقي على شيءٍ، كما في تجاربِ التاريخِ عندما كان الفاتحونَ يحملونَ جديداً للمستقبلِ، ومؤمنينَ أوفياءَ لعُهودِهم ووعودِهم، فإن في الجاري أمامَ أعينِنا، الاستسلامُ يعني عينَ الهزيمةِ، وتمكينَ الغزاةِ من ارتكابِ المجازرِ والإذلالِ، بل إعطاءَهم الفرصةَ لتحقيقِ أهدافِهم بالتهجيرِ والإبادةِ التامةِ.
وتجربةُ غزةَ الجاريةِ، ووقائعُ الأحداثِ في سورية، وما يُبطنُ ويُعلَنُ للبنان وأقلياتِه، بمن فيهم السنةُ المدنيةُ، واضحةٌ. نتيجةُ الاستسلامِ لا تحتاجُ إلى شرحٍ.
الاستسلامُ يعني الفناءَ والذلَّةَ، سبيَ النساءِ، ذبحَ الأطفالِ والشيوخِ، لا غير، ولا وعودَ، ولا ضماناتٍ.
ما مِت، ما شفت مين مات؟
المؤمنُ لا يُلدغُ من جُحرٍ مرتين!

6
ليس أمامَ رجالِ السلاحِ إلا القتالُ، وقد كُتب عليهم وهو كُرهٌ لهم.
فطريقُ الاستسلامِ ونتيجتُه، مهما زُيِّنَ بالوعودِ والأوهامِ والخُدعِ، واضحةٌ ومعاشةٌ في الواقعِ الجاري.
القتالُ يفتحُ بواباتٍ واحتمالاتٍ للنجاةِ، وحفظِ العِرضِ والكرامةِ والأرضِ، وفرصتُه وافرةٌ جداً. كلُّ ما هو مطلوبٌ: وعيُ الواقعِ، ومعرفةُ عناصرِه، للاستدلالِ على الآتي، وجعلِه في صالحِ الأمةِ والشعوبِ وبيئةِ السلاحِ ورجالِه.

7
السلاحُ وحدَهُ قاصرٌ، وليس بفاعلٍ، وليس هو الغايةُ.
رجالُ السلاحِ هم صُنَّاعُ المستقبلِ، وسادةُ الأزمنةِ، ولهذا عُرفتِ الحربُ بأنَّها القابلةُ القانونيةُ لتوليدِ الجديدِ من رحمِ القديمِ.
السلاحُ فاعلٌ نوعيٌّ مغيرٌ في الأحوالِ، ومولدُ المستقبلِ بيدِ رجالٍ مؤمنين باعوا أرواحَهم لله، رجالٍ يعرفون أهدافَهم، ويَلتقطونَ الفرصَ، ويَخوضونَ المقاومةَ بصبرٍ وعزيمةٍ وتصميمٍ على النصرِ، فالنصرُ صبرُ ساعةٍ.
السياسةُ بتعريفِها: «علمُ هندسةِ المجتمعاتِ والاستثمارِ بالزمنِ والقدراتِ»، ليست عصيَّةً على فهمِ ومعارفِ رجالِ السلاحِ، بل كانوا أسيادَها وحكماءَها، وقادرين على الاستمرارِ.
حمايةُ السلاحِ وتجديدُ واشتقاقُ وظيفتِه سهلةٌ، ويجب أن تكونَ قد أُنجزتْ عناصرها، فنقدُ الماضي والتعرفُ إلى الأخطاءِ ونتائجِ السياساتِ التي اعتُمِدَتْ فعلُ مقاومةٍ وإجراءٌ ثوريٌّ، والمقاومون لا يخجلون من إشهارِها للملأ، فما حصل قد حصل، وما كان ليكونَ سيئاً لولا الأخطاءُ والثغراتُ، والبشرُ خطّاؤون، وليس غيرُ الرسلِ والأنبياءِ معصومين.
فالاعترافُ وإشهارُ معالجةِ الخطأ فعلُ إيمانٍ وواجبٌ لا عيبَ منه ولا فيه.

8
ما تلقَّتْهُ المقاومةُ من ضرباتٍ مؤلمةٍ وقاسيةٍ كان نتيجةِ أخطاءٍ وترهُّلٍ وفسادٍ، وصار ما صار، وليست نهايةَ الكونِ ولا مقتلةً، ولا هزيمةً نهائيةً.
هكذا هي الحروبُ عبرَ التاريخِ، وما سُمِّيَ بالخرقِ والمفاجأةِ ليست من خارجِ نَصِّ الحروبِ، فقد حقَّقتْ كتائبُ القسامِ في عمليةِ الطوفانِ العجائبيةِ أنضجَ وأكبرَ وأبدعَ عمليةَ خرقٍ ومفاجأةٍ تُسمَّى إعجازيةً وعجائبيةً لقيمتِها وبمن استهدفتْ.
فكيف لـ»إسرائيلَ» أن تحتويَها وتُبادِرَ؟! وللمقاومةِ أن تنكسِرَ وتَعجزَ؟!

9
ما حقَّقتْهُ المقاومةُ منذ نشأتِها حتى وقفِ النارِ إعجازيٌّ وعجائبيٌّ، وفوقَ التصورِ والخيالِ، من انتصاراتٍ إعجازيةٍ، ومن دورٍ فاقَ كلَّ تصورٍ، بأدائِه ونتائجِه، ولمدةِ أربعةِ عقودٍ ونيِّفٍ، وتالياً أن تُخفقَ في واحدةٍ، أن تُخترقَ، وأن تتعطَّلَ قدراتُها، وأن يُستشهدَ قادتُها، فهذا من طبائعِ الأمورِ وحقائقِ الحروبِ ومساراتِها، وليس استثناءً أو قَدَرَ نهايةٍ واستسلامٍ.

10
ليس أمامَ الرجالِ والسلاحِ إلا المقاومةُ، وعبرَها يُعادُ صياغةُ التوازناتِ، وتعديلُ الخططِ والرؤيةِ والهيكلياتِ والأداءِ، وخوضُ حربِ البقاءِ لاشتقاقِ عناصرِ النصرِ.
وليس الهدفُ ببعيدٍ، فالبيئةُ وميزانُ القوى الكليُّ يعملُ لصالحِها.
ماذا عليها أن تفعلَ؟ ماذا لديها من قدراتٍ وفرصٍ؟ كيف تستطيعُ العملَ؟
لسنا بصددِ بيعِ الماءِ بحارةِ السقَّائين؛ فهم الرجالُ والعقولُ، ومن حققَ الانتصاراتِ الباهرةَ قادر، ولا تنتقصُ الكبوةُ من قدراتِه والثقةِ به... فلكلِّ حصانٍ كبوةٌ.
إعلانُ ما وصلتْ إليه من تقييمٍ خلالَ الأشهرِ الثمانيةِ المنصرمةِ، ويجب أن تكونَ قد أتمَّتْ مهمةَ التقييمِ، ولا يجبُ حجبُ النتائجِ،
فإعلانُها يُطمئنُ ويَشُدُّ العزائمَ، وليس صحيحاً أنَّ العدوَّ سيستفيدُ من الإعلانِ، فالعدوُّ أصلاً استثمرَ بالأخطاءِ والممارساتِ وأعطابِ البنيةِ، ويعرفُها بأدقِّ التفاصيلِ.
إعلانُ أنَّ السلاحَ زينةُ الرجالِ، ودُفعَ ثمنُه وثمنُ الانتصاراتِ والصمودِ أرواحاً غالية وإمكانات هائلة، والمقاومةُ انتكستْ ولم تُهزمْ، ولن تقبلَ فكرةَ أنَّها هُزِمتْ، وستُقاتلُ.
تطويرُ وإعادةُ بناءِ السياساتِ والرؤيةِ والأهدافِ، وإشهارُها، ولا خطرَ من إعلانِ أنَّ للسلاحِ وظيفةً وطنيةً اجتماعيةً لصالحِ كلِّ اللبنانيين، ولبقاءِ لبنانَ وخاصياتِه، وشرحُ ذلك.
حصريةُ السلاحِ بيدِ الدولةِ شعارٌ برَّاقٌ. أما اشتراطُ وضعِ السلاحِ بحصريةِ الدولةِ فحقٌّ عندما تكونُ دولةً وتحت أمرِ جيشٍ، بشرط أن يصيرَ جيشاً، وفي خدمةِ وحدةٍ وطنيةٍ وسِلمٍ أهليٍّ، وإعادةِ بناءٍ ونهوضٍ، بشرط أن تكونَ الجهاتُ المعنيةُ والدولةُ وقادتها من صِنفٍ يُنشئُ الدولَ ويصونُ السيادةَ والاستقلالَ، ولا يُفرِّطُ ولا يقبلُ إملاءاتٍ وعبوديةً، فهذه أهمُّ الأهدافِ.
لن يُسلَّمَ السلاحُ، ولن يُحصَرَ بيدِ الدولةِ، إلا إذا تحققتْ دولةٌ تُطابقُ الدستورَ ومقدمتَه. وفي أولِ تعريفٍ للسلطةِ أنها للشعبِ، مش للنهبِ، والوظيفةُ للكفاءاتِ، لا للمحسوبياتِ.

11
التمسُّكُ بالسلاحِ، ووضعُه في خدمةِ وحمايةِ لبنان، وتأمينُ مصالحِ وحقوقِ الشعبِ بكلِّ فئاتِه، ولحمايةِ الكيانِ، يجب أن يقترنَ بإصلاحِ النظامِ وعصرنتِه، لتجديدِ وظائفِ الكيانِ.
والخطوةُ الأولى تستوجبُ فكَّ العلاقةِ مع المنظومةِ، والابتعادَ عن التزامِ حمايةِ الصيغةِ والميثاقيةِ والتوافقيةِ التي لم تُنتجْ أو تُحققْ للبنانيين إلا الكوارثَ، ونهبَ أموالِهم ومستقبلَ أجيالِهم، والتآمرَ على المقاومةِ، والخيانةَ الوطنيةَ، وتيسيرَ الاستسلامِ لإعطاءِ فرصةٍ للإبادةِ والتهجيرِ للشيعةِ أولاً، وللكلِّ عمليّاً.
لبنانُ في خطرٍ، والنظامُ أفلسَ، والمنظومةُ باعتهُ وتبيعُ السلاحَ ورجالَه وتضحياتِهم، والشعبُ نهبتهُ وباعتْه وتبيعُه.
فلْتتحوَّلِ المقاومةُ من «السلاحِ من أجلِ السلاحِ»، إلى «السلاحِ من أجلِ الناسِ»، وتأمينِ مستقبلِ الأجيالِ.
لا خيارَ أمامَ السلاحِ ورجالِه إلا القتالُ، وتجديدُ المشروعِ والرؤيةِ، وإعادةُ صياغةِ دورِ ووظيفةِ السلاحِ.

كاتب ومحلل  سياسي لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات