الشهيد الغماري..مدرسة القيادة والانضباط في المؤسسة العسكرية
- علي القرشي السبت , 18 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 1:20:35 AM
- 0 تعليقات
علي القرشي / لا ميديا -
مع ارتقاء اللواء الركن محمد عبد الكريم الغماري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة اليمنية، يكون اليمن قد ودّع واحداً من أبرز القادة العسكريين في تاريخه المعاصر، رجلاً امتاز بثباته ورصانته وتفرّده في هندسة العمل المؤسسي داخل بنية عسكرية شهدت تحولات هائلة وسط ظروف بالغة التعقيد.
الغماري لم يكن مجرد قائد ميداني؛ بل كان عقلاً استراتيجياً وإدارياً، يُعيد بناء العقيدة العسكرية بمعايير الانضباط والولاء المسؤول، ويقود بمزيجٍ فريد من الصمت الفعّال والرؤية البعيدة المدى.
عرفت المؤسسة العسكرية الفريق الغماري كأحد أعمدة البناء القوي والدقيق؛ إذ ارتكز مشروعه القيادي على إعادة تموضع الجيش على أساس وطني عقائدي يحاكي التحديات الأمنية والجيوسياسية، مع الالتزام الكامل بالنهج المؤسسي في اتخاذ القرار وتنفيذه.
لقد أدار الرجل ملفات عسكرية حساسة، وشارك في هندسة معارك مصيرية على مستوى الجبهات الداخلية والخارجية، وأظهر في كل محطة قدرةً فذّة على قراءة الواقع، وتقدير الموقف، واتخاذ القرار الحاسم في التوقيت المناسب. لا تُقاس قيمته فقط بعدد المعارك التي أشرف عليها، بل بنوعية التحولات التي أسهم فيها داخل بنية الجيش اليمني، لاسيما في لحظات الانهيار أو الفراغ أو الخلل الإداري.
ما يلفت في شخصية الغماري هو حضوره الهادئ والصارم في آنٍ واحد. لم يكن من القادة الذين يتحدثون كثيراً للإعلام أو يحرصون على الظهور، بل كان رجلاً عملياً، يفضل أن تتحدث عنه النتائج، ويؤمن بأن القيمة الحقيقية للقائد تُقاس بمدى التزامه واستقامته في تنفيذ المهام، لا بالضجيج المحيط به.
لقد عرفته عن قرب، وكذلك من عايشه في مواقع القرار أو الميدان، كرجل انضباط نادر، يحمل عقل الدولة وروح المؤسسة. لم يُسجَّل عليه خروجٌ عن الإطار الأخلاقي أو المهني، بل كان مدافعاً دائماً عن ضرورة تثبيت الأداء العسكري على قواعد الاحتراف والالتزام والانضباط العالي.
إن من أبرز سمات شخصية الغماري، علاقته الوثيقة والواعية بالقيادة العليا، ممثلة بالسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، إذ كان من أكثر القيادات التصاقاً برؤية القيادة، والتزاماً بتوجيهاتها، وتنفيذاً أميناً لاستراتيجياتها العسكرية. وقد أظهرت السنوات الأخيرة أن الغماري كان جزءاً أساسياً من صناعة القرار العسكري، بل من هندسة «العقيدة القتالية» الجديدة التي تغيّرت جذرياً منذ 2015.
هذه العلاقة لم تكن شكلية، بل كانت نتاجاً لثقة عالية ببُعد نظره، دقّته، ولائه، وقدرته على تحويل الرؤية السياسية والعقائدية إلى خططٍ عملية قابلة للتنفيذ. كان يتعامل مع التوجيهات كمسؤولٍ لا كمنفّذ، يُضيف إليها من تجربته ما يعزّز دقتها، ويُقدّم البدائل المناسبة، دون أن يتخطى موقعه المؤسسي.
الاستشهاد المؤلم الذي طال اللواء الغماري ونجلَهُ، بغارة «إسرائيلية» نادرة ومباشرة، لم يكن حدثاً عابراً في سياق الصراع؛ بل كان رسالة مدروسة تستهدف رأساً عسكرياً من العيار الثقيل، عُرف بدوره المحوري في بنية الردع والتماسك العسكري، وهي استهدافات لا تتم إلا عندما يُدرك العدو حجم التأثير المتصاعد لشخصية ما داخل الصف الأول من القيادات.
غير أن ما يجب تأكيده هنا أن غياب الغماري لا يعني غياب المؤسسة. فهو نفسه، وبحسب شهادات من عرفوه وأنا منهم، كان حريصاً على نقل خبراته، وإعداد كوادر مؤهلة، وغرس الانضباط في الصفوف الوسطى والصاعدة، حتى لا تبقى المؤسسة رهينة الأفراد، بل تُبنى لتصمد مهما تغيرت القيادات.
إن قيمة الشهيد الغماري لا تكمن فقط في موقعه، بل في ما قدّمه من نموذجٍ مختلف للقيادة العسكرية؛ قيادة هادئة لا تُغريها الأضواء، مسؤولة لا تتهرب من التحدي، متجردة من المصالح الشخصية، وتخدم مشروعاً وطنياً وعقائدياً بوعي وثقة.
لقد أعاد للأذهان صورة القائد الذي يُلهم من حوله، بالفعل لا بالشعار، ويؤسس لمؤسسة تحكمها القوانين لا المزاجات، ويُفضّل الصمت على الادعاء، والبناء على الظهور، والنظام على الفوضى.
الخلاصة: برحيل الفريق محمد عبد الكريم الغماري، يفقد اليمن أحد أبرز رجالاته في مرحلة حساسة. لكن ما تركه من إرثٍ، في الميدان والمؤسسة وفي نفوس القادة والجنود، سيبقى شاهداً على رجلٍ تجاوز الظرف والزمن، وأسّس لما بعده، وأثبت أن القيادة الحقّة ليست صفةً يُمنحها الموقع، بل خصالٌ تصنعها التجربة والموقف والتضحية.
المصدر علي القرشي
زيارة جميع مقالات: علي القرشي