يوماً بعد يوم تتزايد مخاطر اندلاع حرب كونية مزلزلة، تهدد العالم عموماً، يصعب التكهن بمآلاتها، أو حدود جغرافيا التماس التي يمكن أن تطالها، خصوصاً مع أخذ منحى وتيرة الخلاف السياسي بين القوتين النوويتين (الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية)، مستويات عالية الحدة، باتت تثير ذعر شعوب العالم قاطبة، ولا تقتصر على شعبي البلدين اللدودين فحسب، إذ تتعاظم لديها مخاوف سير العالم بخطى حثيثة نحو حرب مجهولة النتائج، ليس بمقدور أحد التنبؤ بملامح المستقبل بعدها، أو يتسنى له معرفة مقدار أضرارها الوخيمة على الجنس البشري.
طمأنة أمريكية من رهاب
كيم في الجنوب
لعقود ظلت علاقة البلدين (أمريكا، كوريا) عدائية، تتخللها ـ بين وقت وآخر ـ فترات احتقان، تشهد مزيداً من خطوات التصعيد، وعلى وجه الخصوص، كلما تطلب الأمر طمأنة أمريكية لمخاوف الشقيقة الجنوبية من الأعمال العدائية التي تقوم بها شقيقة الشمال، سواء باستعراض عضلاتها حدودياً، أو بإجرائها تجارب استفزازية دائمة لجديد إنتاجها العسكري، اللذين باتا مصدر أرق مزمن لحكومة سيول، بحيث تغدو فيها مظاهر التنمية والاقتصاد المتطور متوعكين، ومصابين برهاب (بيونج يانج) ورئيسها (كيم جوانج أون).
في المقابل، تلجأ حكومة بيونج يانج لاستثمار عدائها التاريخي لأمريكا، مستفيدة من وجود قواعدها العسكرية على أراضي شقيقتها الجنوبية، هرباً من تعثر خطط إنعاش اقتصادها المترنح، وملقية كامل اللوم عليها، باعتبارها عدواً، يتموضع قريباً، في الضفة الأخرى من شبه الجزيرة الكورية، وهو مبرر ذكي للتملص من التزامات متطلبات التنمية، والوثوب بالاقتصاد المتباطئ النمو نحو مسارات إيجابية، تزيح الكاهل عن مواطنيها، المثقلين بثنائية التقشف، والعقوبات الاقتصادية الخانقة من الجوار، والإقليم، والعالم، على حد سواء، والمأسورين -أيضاً- بقداسة حرب، استهلك انتظارهم لها رصيداً كبيراً من أعمارهم.

تاريخ صراع، وحرب تأجلت طويلاً
بالرغم من مرور الصراع الأمريكي الكوري الشمالي بحقول ألغام حرجة، شهدت موجات تجاذبات دبلوماسية وإعلامية حادة، لم تخلُ من التلويح باستخدام القوة، من قبل الطرفين،  أعنفها تلك التي زامنت سباق كوريا الضاري لامتلاك السلاح النووي، في ظل رفض أمريكي صارم، يرى أن تبعات إقدامه شن حرب عليها، أقل ضرراً من إحكام قبضة زعيمها كيم على مثل هذا النوع من السلاح، وتجلت أبرز مظاهر تباين موقفي الدولتين من خلال معارك دبلوماسية وإعلامية مرعبة، وغير مسبوقة، على إثرها ترقب العالم عملاً عسكرياً أمريكياً واسعاً، يحد من طموح كوريا المقلق، ويحول دون تحقيقها هذا الهدف، إلا أن الانغماس الأمريكي عسكرياً، في أكثر من جبهة، كالعراق، وأفغانستان، وقف حاجزاً دون إتمام مهمة ولوج مغامرة حرب جديدة، قد تشتت جهودها، ويترتب عليها إهدار مزيد من المال، ويكبدها خسائر عسكرية وبشرية كبيرة، خصوصاً في قواعدها المتمركزة بالشطر الكوري الجنوبي، أو تلك الواقعة في مدى أهداف الصواريخ الكورية المعادية.. من غير المستبعد -أيضاً- أن مجرد تفكير الإدارة الأمريكية-آنذاك- في سيناريو اجتياح القوات الكورية الشمالية لأراضي حليفتها الجنوبية، قد أصابها بذعر مزدوج: أحدهما يتعلق بسقوط واحدة من أهم قواعدها العسكرية في العالم، المرجحة ميزان صراع القوى لصالحه؛ كونها تمثل فزاعة نارية مزعجة على تخوم التنين الصيني، وشرفة بالغة الفائدة للتلصص على دب روسي، يتحين فرصة مواتية للانطلاق مجدداً.. فيما يتلخص الآخر في فقدانها ثقة الحليف الجنوبي، وحلفاء آخرين، وهو ما يعني انفجار بالون القطب الواحد (القوة العظمى) الذي منح الأمريكي استثنائية التميز، وحرص على الاعتداد به منذ فجرت بروسترويكا جورباتشوف بالون القطب الآخر (الاتحاد السوفيتي)، في أواخر ثمانينيات القرن الفائت.

 عجوز ومراهق بيدهما بارود العالم!
لم يأبه الزعيم الكوري كيم جوانج ـ ذو الشخصية العنيدة والصدامية ـ لحجم حرب الإعلام الأمريكي والغربي الموجه ضد بلاده، ولم يوهنه إنهاك العقوبات الاقتصادية لشعبه، بل دفعته تلك التحديات لاختصار الكثير من الوقت، ليخرج بعدها بمفاجأة أذهلت العالم (الانتهاء من صنع أول قنبلة نووية)، موجهاً بذلك صفعة موجعة لأمريكا والحلفاء، ومدشناً دخول بلاده نادي الدول النووية القوية، وكرد فعل استشاط الطرف الآخر، في بادئ الأمر، ثم تقبل الوافد النووي الجديد على مضض، كواقع وشر لم يعد بإمكانه تجاوزه، مكتفياً ـ إثر كل تجربة تسليح حديثة يعلن عنها ـ بشحذ كل ما في قاموسه من ألفاظ تهديد ووعيد، تحفظ له ما تبقى من ماء وجهه، وعلى ما يبدو فإن التلويح الأمريكي الحالي بالرد الحاسم، على ما وصفه بالتهديد الكوري لأمن بلاده، يجب أخذه على محمل الجد، والتعامل بنفس الجدية مع ردة الفعل الكورية، التي لن تقف مكتوفة اليد، طالما يمسك بزمام قرار البلدين رئيسان؛ أحدهما مراهق عنيد، يصعب ترويضه، ومستعد للمقامرة بكل شيء، وآخر عجوز أحمق، وجد نفسه فجأة على رأس القوة الأولى عسكرياً، دون أن يستوعب فنون المناورة فوق بارود يمكنه تفجير العالم بأية لحظة.

قرع طبول الحرب
وفقاً لمعطيات التصعيد الأخطر على المياه المحيطة بشبه الجزيرة الكورية، فإن طبول حرب وشيكة تقرع بقوة، فقطع البحرية الأمريكية، وحاملات طائراتها المقاتلة، أنهت زحفها، وباتت تتموضع قبالة الشواطئ الكورية، في وضعية قتالية، تمكنها من تحديد أهدافها، وتوجيه ضربة هجومية واسعة النطاق، لتتفرغ بعدها مقاتلاتها، وعشرات الآلاف من جنود مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) المتواجدين، أو المتمركزين في قواعد أمريكية منتشرة في دول عدة، لإنجاز ما تبقى من أهداف، وكل ما يعوزها هو إطلاق شارة البدء من عجوز البيت الأبيض، الباحث عن أمجاد مضاهية لأمجاد إمبراطوريته التجارية، غير عابئ بسيناريوهات الفاتورة المكلفة، التي ستدفعها شعوب العالم، وشعبه أولاً، وفي الشط الكوري الشمالي يبدو الرئيس كيم أون منشغلاً بإعداد كل خياراته للمعركة المقبلة، وبينها خيار (ضربة صاروخية استباقية) لم يستبعد تنفيذها كعمل وقائي، لأهداف عسكرية في العمق الأمريكي، وقواعد عسكرية مختلفة، إضافة لبعض الأهداف في العاصمة الكورية الجنوبية سيول.

استعادة ترامب بريق الرجل القوي
رغم كل الاستفزازات الأمريكية الرسمية، بدءاً بالتهديدات المباشرة للرئيس دونالد ترامب، ونائبه مايك بنس، الذي أشار إلى أن كل الخيارات أصبحت مطروحة بعد نفاد صبر واشنطن الاستراتيجي، أو باستعراض العضلات بالقرب من حدود كوريا الشمالية، فإن ثمة رؤية متفائلة، تستبعد حدوث مواجهة عسكرية بين الطرفين، وترى أن الهدف الحقيقي للتصعيد الأمريكي تجاه كوريا، هو رغبة إدارة البيت الأبيض بترميم صورة الرئيس ترامب، لاستعادة البريق الذي افتقده بعد قراره المثير للجدل والمتعلق بمنع مواطني دول عربية وإسلامية من الدخول لأمريكا، وإصراره على الدخول في معركة جانبية مع القضاء، إضافة إلى تزايد شكوك الشارع الأمريكي التي تربط فوزه بانتخابات الرئاسة بالدعم الروسي له، لذا فقد سعت إدارة البيت الأبيض لتعويض ما خسره بالهجوم الصاروخي على سوريا، ومن ثم اتخذت خطوات التصعيد الأخيرة تجاه كوريا، لذات السبب، وتوجيه رسائل إضافية لقوى معادية كروسيا وإيران، بحثاً عن مكاسب سياسية قد لاتخلو من محاذير، أخطرها الانزلاق في عمل عسكري واسع، غير مأمون العواقب.