أكثر من 10 آلاف شمالي تم تهجيرهم من المحافظات الجنوبية خلال عام
السفر جنوباً.. عبر مفارز تحالف العدوان

صارت تربة جنوب البلاد مرتعاً يستقبل صنوف المسوخ والمرتزقة، وخاصة المختصين بتخريب الأوطان وتمزيقها، من شتى جغرافيات العالم، ضمن رحلتهم المكوكية حول البلدان، استقروا أخيراً في المحافظات الجنوبية، يقومون بعملهم المعتاد، والذي شاهدنا أبشع صوره أخيراً، وليس آخراً، في الجمهورية العربية السورية وليبيا والعراق.. في الوقت ذاته، ليس مسموحاً أن يتواجد اليمنيون من أبناء المحافظات الشمالية، هناك، كما يتواجد الجنجويد والكولمبيون وبوكو حرام وأنصار الشريعة والقاعدة وداعش والأفغان، بمطلق الحرية، والأنكى أنهم صاروا هم الحاكمين هناك، فيما البساطون المتعبون والشقاة وشغيلة المقاهي والمطاعم والفنادق والباعة المتجولون والصيادون...- إلى آخر قائمة أولئك الذين هجِّروا وصودرت ممتلكاتهم وأعمالهم- صاروا منفيين من هناك، وملاحقين كأنهم مقيمون غير شرعيين في بلدان أجنبية.
وفيما استقبلت صنعاء وذمار والحديدة...، آلاف الأسرة الجنوبية النازحة جراء الحرب العدوانية؛ طردت العصابات في عدن ومحافظات جنوبية أخرى، عشرات آلاف المواطنين من أبناء الشمال.. 
لم يعد اليوم متاحاً لك أن تشرع صوب عدن الجميلة قبلتك، كي تغرق في تفاصيل المعلا وكريتر والخور، وتهيم في أمواج ملائكية لخليط روائح الـ(بخور) والـ(فُل) في حضرة (الشيخ عثمان) و(دار سعد). ليس بمقدور أقدامنا المتعبة، أن ترتخي في سواحل عدن، وأن تُسبح الأيادي برمال شواطئها. لقد صودر حقنا بأن تعانق أعيننا خيوط الشمس المتخللة زرقة بحرنا اليماني العربي، وتهيم في ملكوت المشهد الجمالي البديع.

صائدة القلوب.. دوافع غير قابلة للتنفيذ
تعددت دوافع السفر جنوباً، وأهمها السفر من أجل العمل، سواء كان عملاً خاصاً أم حكومياً، أو السفر لزيارة الأقارب والأصدقاء، أو غرضاً بقضاء العطلات الصيفية أو الإجازات الأخرى وخوض رحلات الترفيه، أو لأسباب أخرى كالدراسة الجامعية والعلاج والسفر عبر المطار أو استقبال أحدهم فيه.
وفي ظل الأوضاع الراهنة التي يشهدها الجنوب اليمني، تأتي دوافع ملحة للسفر جنوباً تفرض تحمل المشاق والقبول بالمخاطرة، فدافع كالموت (موت أحد الأقارب) لا يوقفه إلا موت مقابل أو ظرف إجباري بذات القسوة، كأن يتم منعك من السفر، والدراسة كذلك، أو الزيارة للأقارب في الحالات الحرجة التي يتعرضون لها.
هذه الدوافع لا تجد الآن حيزها من التنفيذ، فقد انقلبت الآية، حيث يسمح للأجنبي بالتحرك في الجنوب بحرية مطلقة، بينما أبناء الوطن يمنعون من ذلك.
يقول عبد الكريم (37 عاماً): قلوبنا معلقة بعدن، فقد ارتبطت بذاكرتي منذ صغري ما قبل الوحدة، التي صارت أغنية لي منذ حدثت، فقد صار حلمي واقعاً بالسفر إلى عدن، الذي كان أول ما فعلناه مع أسرتي بعد الوحدة بأشهر قليلة. وبيَّن أنه صار مدمناً من حينها للذهاب إلى عدن.
واستطرد عبد الكريم، يتحدث عن شعوره الحالي في ظل الأحداث الأخيرة، بأن روحه مأسورة هناك على شاطئ عدن المتلألئ بلا تعب، فلم يعد بمقدوره وأسرته، السفر إلى هناك.
وعبد الكريم، هو حال يجسد واقعاً مريراً لشعب بأكمله، ينتظر أن تلتحم أواصره مجدداً، وتعود الدماء مرة أخرى، تجري في العروق اليمنية.
(ع.س)، كان يعمل في حضرموت، لكنه عقب العدوان، غادرها مع بدء عمليات ملاحقة للشماليين هناك، خاصة من قبل القاعدة التي اختطفت الكثير من الشماليين، وقامت بإعدامهم أو إخفائهم، بدعوى أنهم (حوثيون).
 وذكر أن لديه أقارب في عدن، ليس بمقدوره زيارتهم بعد عمليات التهجير التي شهدتها المحافظة، كما ليس بمقدورهم ذلك أيضاً خيفة ألا يتمكنوا من العودة مجدداً.

السفر إلى المحافظات الجنوبية، محفوفاً بالمخاطر
يجب أن تمتلك علاقات قوية كي تقبل بطاقة هوية صادرة من عدن أو أي محافظة أخرى جنوبية إلى ما قبل خمس سنوات في الغالب، وإذا كنت تستقل سيارة خاصة بك، يجب أن تكون أوراق ثبوتيتها صادرة من الجنوب ورقمها المروري أيضاً. والأهم من ذلك، يجب أن تكون لديك عائلة.
هذه احترازات هامة لمن تساوره نفسه، بالسفر جنوباً.
السخرية في الأمر -بحسب شهادات- أن أي شخص لا يملك أوراقاً ثبوتية جنوبية، سوف يعود أدراجه.
الطريق من صنعاء إلى عدن، غالباً ما تكون عبر الضالع، ومن تعز إلى لحج وعدن تكون عبر لحج، لكنها ليست دائماً آمنة جراء المعارك المتواصلة وغارات الطيران أو الاقتتال بين العصابات نفسها.
والمزري، هي نقاط التفتيش المنتشرة بشكل هستيري على الطريق، فهو عبر محافظة الضالع مثلاً، بدءاً من منطقة قعطبة (حيث تبدأ سيطرة العصابات) تقطعه أكثر من 10 نقاط تفتيش، وفي كل نقطة منها، يقومون بتفتيش دقيق لكل محتويات المسافرين ذهاباً وإياباً، ويتم إمطارهم بالأسئلة كـ: من أين أنت؟ من أين قادم؟ إلى أين وجهتك؟ لماذا؟ وفي بعض الأحيان يتم تفتيش حتى الأجهزة المحمولة للمسافرين، ولا يجب عليك أن تبدي أي تذمر أو يبدو عليك قلق أياً كان مصدره، كما أن اللكنة كثيراً ما تلعب دوراً في السماح للمسافر بالمضي أو لا، فإذا كنت من محافظات الشمال كصنعاء أو ذمار، فليس هناك أمل كبير بالمرور.. يحكي (م.ح) أنه شاهد في إحدى النقاط عملية اعتداء من قبل القائمين على النقطة ضد شخصين تم اقتيادهما إلى (الطقم) التابع لها، ولم يعرف السبب وراء ذلك، كما أنه لم يتجرأ على السؤال أو إبداء الاهتمام.
و(م.ح)، يعمل في عدن، ويعيش فيها مع أسرته، لكنه يضطر للسفر إلى صنعاء بين فترة وأخرى، لأداء اختبارات الجامعة. ويضيف أنه في كل مرة يريد السفر فيها إلى صنعاء، يأخذ معه والدته كي يستطيع العودة، فهو يتعرض لكثير من المضايقة من قبل المسلحين في النقاط، ويضطر أحياناً لتقديم المال لبعضهم لكي يمر.

يمنع دخول (الدحابشة) = تشرفنا بقدوم الجنجويد!
في أواخر فبراير من العام المنصرم، وعقب فرار هادي إلى عدن، وسيطرة العصابات المسلحة التابعة له بجانب عصابات القاعدة وداعش على المحافظة وعدد من المقار الحكومية والعسكرية، بمقدمتها مقر الأمن المركزي؛ استعرت في محافظة عدن، عمليات (التهجير القسري) ضد أبناء المحافظات الشمالية، تخللتها -بحسب الهوية- تصفيات وإعدامات وسحل وملاحقات وإهانات وضرب واعتداءات مسلحة واسعة على ممتلكات لهم كالمنازل الشخصية والمحال التجارية، شملت موظفين وعمالاً وجنوداً.
وكانت هذه الأحداث خَمِدت أثناء وصول قوات الجيش واللجان الشعبية إلى عدن، وطرد العصابات منها، إلا أن ذلك لم يدم مع سقوط محافظة عدن وغيرها، مجدداً بيد العصابات المسنودة بتحالف العدوان الدولي وغطائه الجوي والإسناد الحربي من البحر.
هذه العمليات اشتدت شراستها مجدداً في توقيت وصف بـ(الغريب)، وكان ذلك في مايو الفائت، بمداهمة آلاف العمال في المحلات التجارية والخدمية والمقاهي والمطاعم والفنادق والورش والبسطات، وكذا الباعة المتجولين، ليصل عدد الذين هجروا خلال عام فقط أكثر من 10 آلاف يمني من أبناء الشمال، وفقاً لأرقام رسمية وحقوقية..
وتركز التهجير أكثر الأمر، في مناطق الشيخ عثمان ودار سعد والمنصورة والدرين، ثم تليها كريتر والمعلا، وتم اعتقالهم بطرق مهينة واعتداءات، وجمعوا على متن شاحنات نقل كبيرة، لتقتادهم العصابات بعد ذلك إلى أماكن مجهولة، ثم يتم ترحيلهم. وكانت محافظة عدن، وبعدها الضالع، هما الأكثر احتضاناً لهذه الممارسات المخابراتية، وبروز خطابٍ تحريضي مناطقي أزكم أنوف إخوتنا في الجنوب قبل غيرهم.
وتشير المعلومات إلى أن العصابات قامت -ولا تزال- بين الفينة والأخرى، بتوزيع منشورات تحذيرية تطالب أبناء المحافظات الشمالية بالمغادرة قبل أن تفعل ذلك بالقوة، كما حدث في عدن مع عشرات الأسر، وتحت دعوى سمجة: (عدم امتلاك أوراقٍ ثبوتية)، وكأن الجنجويد والكولمبيين وبوكو حرام والأفغان والسنغال والإثيوبيين وداعش والقاعدة...؛ يملكونها، وليس غريباً أن تقوم سلطات الاحتلال بإعطائهم المواطنة، كعملية أخرى من العمليات التاريخية في اختراق المجتمعات واجتثاثها واستبدال هويتها الوطنية.. ما يضع البلد عموماً والجنوب خاصة، أمام مصير يصعب التنبؤ بمدى مأساويته طالما بقي الاحتلال مسيطراً في جنوب البلاد.
وبحسب إفادات محلية، فإن الغرض من عمليات (التهجير) هو إثارة الكراهية بين أبناء البلد الواحد، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتقول شاهدة عيان إنها تابعت بألم بالغ وحسرة ما حدث، مؤكدة أن هذه الممارسات لا تعبر إلا عن سلطة الاحتلال، وليس عن أبناء محافظة عدن أو باقي المحافظات الجنوبية.
واعتبرت الشاهدة -التي فضلت عدم ذكر اسمها- أن عمليات التهجير، أريد منها إثارة الكراهية ضد الجنوبيين، بنفوس إخوتهم في المحافظات الشمالية، ودفعهم لرد فعل مشابه أو أعنف منه تجاه آلاف المواطنين من أبناء الجنوب الذين يقطنون المحافظات الشمالية، سواء عاملين أو ساكنين من فترات طولية، وأخيراً عشرات الآلاف من النازحين.
وأضافت أن سكان عدن من أبناء المحافظات الجنوبية، لم يعودوا أنفسهم آمنين في ظل الانفلات الأمني المخيف وتفشي العصابات والقتلة، بمقدمتهم الدواعش.
شاهدة أخرى، تحكي تفاصيل المدينة مؤخراً، حيث البؤس والخوف، وانقطاع الكهرباء، والمعارك الدائرة بين قوات العدوان، جعلت المدينة، وبمقدمتها كريتر والمعلا، مناطق طاردة، والأسوأ حالاً منها هي المنصورة التي باتت وكراً مفخخاً بالدواعش.
وتضيف أنها تعرف كثيراً من الأسر من أبناء تعز بالأخص، موجودون في عدن منذ عقود، لكنهم اليوم مهددون بالتهجير، ولم يعد بمقدورهم مزاولة حياتهم بشكل طبيعي، لخوفهم على حياتهم وممتلكاتهم.
لقد صارت عدن ومحافظات جنوبية أخرى، تعج بـ(محاكم التفتيش) وعديد (دار الحسبة) وقصور (أمراء الفرق الإرهابية). وعوضاً عن أعلام الوطن اليمني، رفعت الأعلام السوداء وأعلام دول الغزو والاحتلال، وبدلاً عن حاملي (الفُل) جاء حاملو الرؤوس المعلقة وحازوها، وآخر الأمر، نكست عدن اليافعة رايات بهجتها، وأوصدت أبوابها دوناً عن ابتسامة الضوء وعناق المحيط، والقادمين توقاً إليها.
وكما هو الحال مع (جحملية تعز)، يبدو المشهد قريباً في (عدن) من حيث استهداف بنيتها الوطنية، بمحاولة ضرب تنوعها الاجتماعي والثقافي، واستبدال سلوكها الحميمي تجاه اليمنيين، بوحشية المستعمرين، الذين يريدون وصمها في جبينها بهذا السلوك: الوحشية.
فعدن -كما الجحملية- قامت كمركز مدني يتجمع فيه الناس من كل صوب، لأغراض مختلفة، أبرزها التجارة والتبادل، ومع الوقت كونت بنية خليطة السكان ومتعايشة، متعددة الثقافة والأصول، متصلة بفضاء الوطنية اليمنية. ولا وصف أدق لهذه الحالة من: وطن في مدينة.
تجدر الإشارة إلى أن الاستعمار البريطاني، قبل الثورة، كان قد سعى كثيراً لخنق هذه الحالة الوطنية، بمحاولات عدة، كان أهمها دفع شبكته المخابراتية في عدن إلى تشكيل تنظيم هزيل سمي (عدن للعدنيين)، والذي حطمته ثورة أكتوبر المجيدة، لكنه عاود مجدداً الظهور مع معاودة الاستعمار نشاطه في عدن، الفترة الماضية.