في الفعالية التي نظمها الحراك الجنوبي لإحياء ذكرى 7/7، الأسبوع قبل الماضي، أظهرت عدسات الكاميرا رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، داخل صندوق زجاجي واقٍ من الرصاص، وحوله عشرات الجنود من الحرس الخاص، في وقت تظهر عدسات الإعلام الوطني رئيس المجلس السياسي الأعلى صالح الصماد، على متن قارب صغير بالقرب من جزيرة كمران، متحدياً الحظر الجوي والبحري الذي تفرضه قوات العدو الأمريكي السعودي.
بعيداً عن سخافة المشهد المخزي الذي ظهر فيه عيدروس الزبيدي، تبدو الصورة انعكاساً طبيعياً لواقع مخيف ومفجع يعيشه أهالي المحافظات الجنوبية خلف الصورة، واقع موحش مقيد بسلاسل الخوف يبدو أكثر وحشة من السياج الأمني والمجنزرات المحيطة بصندوق عيدروس الزبيدي الزجاجي المضاد للرصاص.
كيف يمارس أهالي المحافظات الجنوبية حياتهم وسط هذه الكوكبة من الفوضى والدمار؟ وإلى أين يذهب الاحتلال الإماراتي السعودي بالجنوب وأبنائه؟!
مشهد رأسي لجملة من الحقائق والشواهد توضح للمتابع اليمني الصورة الحقيقية للمشهد الجنوبي القائم.

التناقضات الأصيلة
منذ دخول قوات الغزو الإماراتية السعودية جنوبي اليمن في سبتمبر 2015م، تشهد المحافظات الجنوبية حالة من الفوضى العارمة في كل مناحي الحياة نتجت عن قوى الاحتلال ومخلفاتها التي تسعى لضرب أمن واستقرار البلاد وتفتيت نسيج المجتمع.
أما بالنسبة لمحافظة عدن بالذات فهناك وضع أمني خاص، ويحتاج المشاهد ليرى ملامح المدينة الحقيقية أن يفتش عنها في الكتب والفلاشات القديمة، إذ تبدو مدينة عدن اليوم غابة موحشة يؤمها القتلة واللصوص وتجار الدم من كل صوب، تتنفس رائحة الدم والبارود.
حيث عمدت قوات الغزو منذ دخولها إلى تغييب ملامح الدولة وتدمير المؤسسات الحكومية والعسكرية وتدجين الشارع الجنوبي بالصراعات الدينية والمناطقية والعرقية، حتى تمكنت من خلق مشهد دموي فظيع جذب كل المترادفات والمتناقضات إلى ساحة واحدة تذوب فيها كل الأطراف الجنوبية المتصارعة، ويغيب عنها الجنوب وأبناؤه.
لقد أسفرت التناقضات الأصيلة بين الكينونات الخليجية إلى حالة انقسام حادة داخل معسكر التحالف العدواني في الساحة الجنوبية، وتسبب هذا الانقسام بفرض مشهد متهالك على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية.. وفي ظل صراعات دموية فتاكة بين قوى الغزو وأدواتها، يعيش أبناء المحافظات الجنوبية حياة شبه منعدمة داخل قوقعة من الرعب والقلق، في حين لم يعد هناك متسع للتعبير عن الوجع المتفاقم في شارع مكتظ بالخونة والعملاء والقوادين، فلا مشروع دولة ولا قضية عادلة يسعون إليها، فقط يقاتلون ويقتتلون لمصلحة العدو الأمريكي السعودي الذي ينكل بهم.

خدعة الشرعية
فوضى أمنية عارمة تتصدرها مشاهد الاغتيالات المروعة وانتهاكات للمحارم واستباحة للأعراض واغتصاب للنساء, وتزايد عمليات القتل والإجرام بشكل واسع, فمن لم تشتره السعودية للدفاع عن أراضيها الجنوبية أمام قوات الجيش واللجان الشعبية، أرسلته قوات الغزو السعودية الإماراتية ليُقتل برصاص القاعدة وداعش في وضح النهار في لودر أو المنصورة.
لم يكتشف أبناء الجنوب المغرر بهم خدعة الشرعية الكبرى بشكل مبكر، حيث ذهب بهم الغرور إلى شن حملة شعواء بحق أبناء المحافظات الشمالية، وترحيلهم من المحافظات الجنوبية، وسجلت الانتهاكات في هذا الأمر حالات كثيرة، إذ يتحدث المواطن عبدالله نصر، من أبناء محافظة تعز، وأحد الذين تم ترحيلهم من عدن، قائلاً: لقد قام عناصر من أحد الفصائل الجنوبية باقتحام البوفية التي أملكها في حي الشيخ عثمان (بحجة أنني شمالي) ونهبها بالكامل، ثم قالوا لي معك 24 ساعة لمغادرة عدن. عبدالله نصر ومثله آلاف المواطنين الذين تم ترحيلهم غصباً ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم من المحافظات الجنوبية، وذلك ضمن مشروع أمريكي يسعى لتمزيق الجغرافيا وتفتيت لحمة نسيج المجتمع اليمني.

سجون سرية
تمارس قوات الغزو والاحتلال الإماراتية أبشع الانتهاكات بحق أبناء عدن وبقية المحافظات الجنوبية، وتفرض سلطة متغطرسة على الأهالي وممتلكاتهم، فعلاوة على قيامها باحتلال جزيرة سقطرى والعبث بمواردها ونهب ثرواتها الطبيعية وتهجير سكانها وإقامة ملاهٍ وقصور لأمرائها، وتوقيف ميناء عدن وتعطيل مزاياه الاستثمارية لتنشيط ميناء دبي، فإن قوات الغزو لم تكتفِ بمصادرة حقوق الأهالي وممتلكاتهم، بل عمدت إلى شن حملات اعتقالات واسعة بحق أبناء الجنوب، وقد كشفت منظمة هيومن رايتس ووتش عن سجون سرية أنشأتها الإمارات في محافظتي حضرموت وعدن، ويقبع داخل هذه المعتقلات يمنيون معظمهم من المناطق الجنوبية. وبحسب ما كشفته المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في (هيومان رايتس ووتش)، سارة ليا ويتسن، فإن هناك مئات المعتقلين، بينهم 4 أطفال، تعرض فيها الأطفال للاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري في عدن، حيث كانوا محتجزين مع بالغين في السجن المركزي ومعسكر طارق (مركز عسكري تسيطر عليه إدارة الأمن في عدن). بالإضافة إلى ذلك، قال محتجز سابق في السجن المركزي إن 7 أو 8 أطفال كانوا في الحجرة معه، وهم صبية يبلغون من العمر 15 أو 16 عاماً، عندما كان هناك عام 2016م، وقد تعرضوا للتعذيب الشديد.
فيما أكدت وسائل إعلام غربية قيام الاحتلال الإماراتي بنقل المعتقلين إلى سجون سرية في إريتريا، بعد نشر هيومن رايتس ووتش للتقرير السابق.
لم تكتفِ قوات الاحتلال باعتقال آلاف من شباب الجنوب، بل أقدمت على الاعتداء بالضرب المبرح على أمهات المعتقلين، كما حدث الأسبوع الماضي في الوقفة التي نظمتها أمهات المعتقلين بالقرب من أحد معسكرات الاحتلال الإماراتي في محافظة عدن.

تمدد القاعدة
هذا الفراغ الأمني والنزاع القائم بين الفصائل الجنوبية وفر مناخاً آمناً للجماعات الإرهابية التي تلتهم جغرافية الجنوب اليمني شيئاً فشيئاً، وتزداد توسعاً بشكل شبه يومي، وتسيطر جماعة تنظيم القاعدة على عدة مدن ومناطق جنوبية أبرزها مدينة لودر في محافظة أبين والمكلا وأجزاء واسعة من محافظة عدن، ويمارس عناصرها أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بحياة الناس، وتسلبهم كل حقوقهم، إضافة إلى ارتكابها مئات جرائم القتل والذبح بحق مواطنين وإعلاميين وعسكريين في جنوبي اليمن، كان آخرها ذبح الشاب أمجد عبدالرحمن بتهمة الإلحاد.

تضييق الحريات
وبالنسبة لتضييق الحريات الشخصية، تقول لمياء حسن، من أهالي محافظة عدن، وهي نازحة في صنعاء، إن عناصر القاعدة تفرض أحكاماً شديدة على السكان، حيث بدأ يلاحظ بقاء معظم النساء في بيوتهن أو خروجهن مع محارمهن وهن منقبات، ونادراً ما تجد اليوم امرأة تمشي وحيدة وهي كاشفة وجهها دون أن تتعرض للسؤال والاستفزاز من قبل أية نقطة تفتيش.
عشرات بل مئات من العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية التي نفذتها العناصر الإرهابية، وطالت في معظمها ضباطاً وجنوداً في أجهزة الأمن والجيش وشخصيات سياسية وصحفيين، ولعل أشهر هذه الجرائم قيام تنظيم داعش بتفجير معسكر الصولبان، شرق محافظة عدن، حيث فجر انتحاري تابع لتنظيم داعش، صباح الأحد 18 ديسمبر 2016م، نفسه وسط تجمع للمجندين للمرة الثانية أمام بوابة المعسكر، ووصل عدد الضحايا إلى أكثر من 52 قتيلاً و27 جريحاً.

موسم الهجرة إلى الشمال
تمثل الجماعات الإرهابية حالة رعب مستمرة للأهالي الذين لا حول ولا قوة لهم، مما اضطر الكثير منهم لترك منازلهم ومغادرة الجنوب إلى صنعاء.
وفي هذا الصدد، تؤكد عدة صحف ومواقع أجنبية، من بينها موقع (المونيتور) الأمريكي، أن الحياة في المحافظات الجنوبية أصبحت شبه معدومة.
كما أشار الموقع إلى جريمةِ مقتل الشاب عمر باطويل البالغ من العمر 17 عاماً، في أبريل العام الماضي، وذلك بعد تلقيه رسائلَ تتهمه بالإلحاد، وكذا جريمة مقتل الشاب محمد خير عثمان (17 عاماً) أثناء خروجه من صالة رياضية في مديرية البريقة، في الثالث من يونيو 2017م، بطريقة مماثلة تماماً لتلك التي حدثت لأمجد وباطويل. بالإضَافَة إلى ذلك أشار (المونيتور) إلى مهاجمة 4 مسلحين، في مارس 2016م، داراً للمسنين في عدن، وقتلهم 16 شخصاً، من بينهم 4 راهبات هنديات وموظفتان يمنيتان و8 من النزلاء كبار السن وحارس.
ونقل (المونيتور) شهاداتٍ لأبناء عدن، من بينهم نسمة منصور، التي أكدت في شهادتها أن القتل في عدن بات شائعاً وتحت مبررات غريبة، منوهة إلى أن الناشطين يغادرون عدن تباعاً، وأن الوضع بات متوتراً إلى الحد الذي منعتها فيه أسرتها من مغادرة المنزل خوفاً على حياتها.
وقالت نسمة إن (حرية الرأي بعدن انتهت، فحين تنتقد الجماعات الدينية فإن تهمتك جاهزة وهي (الإلحاد)، ولو انتقدت السلطة المحلية الهشة فأنت بالضرورة عضو في حزب الإصلاح (جماعة الإخوان المسلمين)، وحين تنتقد الحراك الجنوبي (فصيل مسلح يسعى لاستقلال جنوب اليمن عن شماله) فتهمتك ستكون أنك عميل).
وأكد موقع فرنسي آخر أن كثيراً من الناشطين غادروا عدن؛ خوفاً من اغتيالهم، من بينهم 10 شبان ناشطين وصحفيين اتجهوا إلى صنعاء، الشهر الفائت، حفاظاً على حياتهم.

عمليات سطو ونهب
بجانب الفوضى العارمة التي تشهدها المحافظات الجنوبية، فإن الأخيرة تشهد أزمة اقتصادية خانقة. وبالرغم من امتلاك حكومة الفار هادي جميع موارد البلاد الاستراتيجية من النفط والغاز، إلا أنها لم تستطع أن توفر مرتبات الموظفين، ولم تضبط أسعار السوق، خاصة السلع الغذائية والاستهلاكية، في حين تزداد عمليات السطو والنهب للمؤسسات الحكومية والخاصة، ولعل نهب البنك الأهلي في مديرية المنصورة بمحافظة عدن وقتل مديره من قبل مسلحين من القوات الخاصة، دليل واضح على ترهل الوضع الأمني والسياسي أيضاً في مشهد منقسم لا يبدو مبشراً. وفي الوقت الذي تقف فيه المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، صامتة حيال ما يحدث من جرائم داخل المحافظات الجنوبية، وبصورة فجة كما وصفها بعض المراقبين، فإن جريمة اقتحام البنك الأهلي وإغلاق بقية البنوك مقراتها في محافظة عدن لم تحرك الضمير العالمي الذي شجع وساند نقل البنك المركزي من صنعاء وحرمان الشعب اليمني من قوته.

فوضى عارمة
يعيش أبناء الجنوب مأساة حقيقية في ظل الاحتلال وسيطرة الجماعات الإرهابية، والمأساة الكبرى هي أن أبناء الجنوب لا يرون أفقاً لإخراجهم من هذا الوضع الخطير؛ حيث حياة الناس وحرياتهم معرضة جميعها للخطر من قبل أكثر من جهة وأكثر من سلطة أو جماعة مسلحة.
ويمكن لأصغر جماعة مسلحة وتحت أي عنوان أو حجة أن تتحكم بحركة الناس وحياتهم وتصادر أراضيهم وأموالهم بحجة أنه شمالي أو بتهمة أنه جنوبي رافضي.
كما يمكن لأي قاتل أو قاطع طريق أو إرهابي أن يقتل أو يعذب أو يختطف أي مواطن باعتباره كافراً أو منحرفاً أو غير صحيح العقيدة أو ساحراً، ويمكن أن تقام له محاكمة صورية ويقتل أو يرجم أو يقطع رأسه.
كل هذا يحدث برعاية أمريكية سعودية ضمن مشروع قذر لإذلال الشعب، وفي نموذج بسيط يوضح مدى استخفاف قوات الغزو بأبناء المحافظات الجنوبية، قامت مدرعة عسكرية تتبع قوات الاحتلال الإماراتي السعودي، صبيحة يوم 12 ديسمبر الماضي، بدهس سيارة صغيرة أثناء مرورها في الخط البحري بعدن، ما أدى إلى وفاة أسرة كاملة مكونة من 5 أفراد، بينهم نساء وأطفال، كانوا بداخلها، وهذه الجريمة تم التكتم عليها وإخفاؤها كأن لم تكن.

الخيار الأمريكي الأخير
مؤخراً، وبعد حظر نشاط حزب الإصلاح في المحافظات الجنوبية من قبل ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي، فإن اللعبة الأمريكية باتت تتخذ خطوات جديدة على الساحة الجنوبية، حيث يؤكد المحللون والمراقبون الدوليون أن الصورة تبدو واضحة، وأن قرار تسليم المحافظات الجنوبية للجماعات الإرهابية الهدف منه إعلان دولة إسلامية على غرار تنظيم داعش في العراق وسوريا، مشيرين بذلك للكثير من العوامل والتطورات على الساحتين المحلية والإقليمية، ولعل أهمها هزيمة داعش في العراق وانهيار أركانه في سوريا، وفشل تحالف العدوان الأمريكي السعودي في تحقيق أي نصر يذكر في عدوانه على اليمن، خصوصاً في جبهات الساحل الغربي للبلاد.
إعلان دولة إسلامية بمعية حزب الإصلاح ومشتقاته الإرهابية جنوبي اليمن، حسب ما يراه المراقبون، خيار أخير للبيت الأبيض الذي يفقد أوراقه وأدواته الواحدة تلو الأخرى، لإعادة ترتيب مصالحه في المنطقة، كما أن إعلان حزب الله على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، عن محور مقاومة يضم سوريا والعراق وأنصار الله في اليمن، يزيد من توجه أمريكا لإعلان دولة باسم داعش جنوبي اليمن، كذريعة تبرر لها الدخول بشكل مباشر في معركة اليمن لضرب محور المقاومة القادم بقوة لاجتثاث أدوات الشر العالمية في البلاد.

رهينة الكاوبوي
لم يعد هناك مكان آمن للأهالي في المحافظات الجنوبية، ولا سلطة سوى للإرهاب، فداخل كل كيلومتر مربع هناك دويلة مستقلة تحكم ذاتها بذاتها، وتشرعن لنفسها الأحكام والقوانين، وإذا ما كان السبب غياب الرؤية المستقبلية لجميع الأطراف، فإن هذه الأطراف في حقيقة الأمر رهينة الكاوبوي الأمريكي، وأداة لتنفيذ مصالحه ومخططاته التدميرية، سواء تدرك ذلك أو لا تدرك، فهي تنطوي داخل مؤامرة عظمى أكبر مما تتصوره الأطراف والكينونات الصغيرة، مؤامرة صهيوأمريكية تسعى لتمزيق شعوب المنطقة وإعادة رسم الخارطة بما يخدم وحش الرأسمالية المتعجرف.

لا مقارنة
مقابل الوضع المخزي الذي تشهده المحافظات الجنوبية في ظل الاحتلال، تشهد العاصمة صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة القوى الوطنية وضعاً مستقراً على كافة المستويات الأمنية والسياسية، إذ يمارس سكان هذه المدن والمناطق حياة طبيعية وآمنة ومستقرة بدرجة كبيرة جداً لا يمكن مقارنتها بالوضع المزري الذي تعيشه المحافظات الجنوبية.
وبين هذا وذاك، تشير التطورات الطارئة في المشهد الجنوبي إلى أن الوضع وصل إلى منعطف خطير للغاية ينذر بأن الجنوب اليمني على موعد مع الخراب والدمار، يبدو فيه المستقبل أسود ومريراً في حال ظلت الفصائل الجنوبية على حماقاتها وغبائها المفرط.