صعدة..سجدة الصلاة والصمود
- تم النشر بواسطة حلمي الكمالي/ لا
.jpg)
إنها المرة الأولى التي أواجه جمالاً فتاكاً أجبرني على الالتفات عدة مرات إلى الخلف لأصرخ هل من مسند هل من مدد لأقاوم هذا الصرح العظيم من الألق والتألق؟! أحاول منذ أن طالعت عيناي جبال المدينة وهضابها، أن أحشد جميع اللغات دفعة واحدة لأتمكن من وصف المشهد، ولكني عالق بين الدهشة وبين الجنون وبين المناظر الطبيعية الخلابة.
من أي معجم أدبي أستلهم اللغة والمفردات التي تليق بقداسة تراب صعدة الأبية، الأحرف الأبجدية تتوه مني كلما هممت بنسج دهشتي، وكأني أطاردها كفراشة دمشقية تسافر خلف رائحة اللوتس من جبال صعدة وتنام على أكفة الرفاق في جنوب لبنان. . يحتاج الزائر لصعدة أن يحشد قواه الذهنية والحسية ليقوى على تحمل الألق السحري النابع من وجدان الطبيعة الآسرة، ومن رصيد تاريخي حافل بالبطولات والمعجزات، فصعدة لا تستقبل الضعفاء ولا تواجههم، وإنما تنصرهم.
كلما يممت العيون نحو صعدة فثمة نور الله يشرق بين الحمائم والجدائل، وثمة مريم تهز جذع النخلة، وثمة المسيح وطه والحسين وجيفارا. في صعدة ثمة كل ما نزل على الأرض من خير وعدل وعزة ودموع.. إنها ببساطة متناهية إحدى هبات الرب علينا.
من الوهلة الأولى عندما تزورها لأول مرة، ودون أن ترسم لها صورة مسبقة، تفاجئك محافظة صعدة بمناظرها الطبيعية الساحرة وجبالها الشاهقة وبيوتها الترابية المزخرفة ولونها الذهبي الذي لا مثيل له، فبخلاف ما روجته السلطة عنها لعقود من الزمن، وتقديمها بصورة موحشة، كان يدور في مخيلتي كما في مخيلة كل اليمنيين الذين يشاهدون بشكل يومي جرائم العدوان السعودي في صعدة بعد إعلانها منطقة عسكرية مستهدفة على مدار الساعة، أن صعدة قد تبدو موحشة، لكنها بدت أليفة.
هكذا فاجأتنا صعدة بصمودها الأسطوري ونشاطها الحي الذي لا يموت، الناس يتجولون بكل حرية في كل الأماكن، الأسواق مكتظة بالمنتجات الزراعية، هناك حركة تجارية غير مسبوقة في مدينة مستهدفة على مدار الساعة.
إنه أمر مذهل بالفعل لا يمكن أن يجده أحد إلا في صعدة.
أمام هذا الكبرياء العظيم والصمود الأسطوري، صحيفة (لا) تأخذ القارئ في جولة استطلاعية داخل أسوار المحافظة، وتنقل له ملامح الصمود الأسطوري الممتزج بالإيمان والأرض والمطر.
فارسة عربية
على صرح ثقافي واجتماعي وروحي يمتد منذ أكثر من 5000 سنة، تسور محافظة صعدة بجبالها ورجالها أرض اليمن السعيد بشموخ واقتدار، تقاوم الغزاة والطغاة، وترفع اسم اليمن فوق كل جبار عنيد.
وهي كفارسة عربية حملت على عاتقها الدفاع عن الأرض والعرض والحرية والكرامة عندما سقط شرف الرجال، فسجلت عبر تاريخ طويل من النضال أروع البطولات في سبيل الانتصار للأرض والإنسان، وقدمت أجلَّ التضحيات العظيمة من دمائها وروحها دون كلل.
تعرضت المحافظة لأبشع الجرائم الإنسانية من قبل العدوان الأمريكي السعودي الحاقد الذي لم يدع موضع قدم في جسدها الطاهر إلا ونثر حقده الدفين فيه، وأمام أقذر مؤامرة كونية شهدتها البلاد يقف أبناء صعدة شامخين كشموخ جبالها الرواسي، يصدون الصواريخ والقنابل العنقودية، ويسرقون لحظات الحياة رغماً عن أنوف المستكبرين.
ألف قصة وحكاية
وسط قصف هستيري عنيف قضينا ليلتنا الأولى في صعدة الأبية، كان مثيراً بالنسبة لنا أن نسمع عشرات الغارات الجوية دفعة واحدة، إلا أن ذلك لم يكن مثيراً بالنسبة لأهالي صعدة، فذلك أمر يومي يتكرر منذ أكثر من عامين.
هنا الصغار والكبار معاً يداعبون قطرات المطر بشغف، فالمطر بالنسبة لهم جسر الحياة الذي يربط الأرض والسماء.
كل شيء في صعدة يحمل ألف قصة وحكاية، وخلف كل ذرة رمل تاريخ، كل ما فيها شاهد على عصره، إنما تلك القسمات البريئة التي تلاحظها في وجوه الأطفال تشعر كأنهم في سباق مع الزمن، لم يتسنَّ لهم أن يمارسوا الطفولة كغيرهم، ولعل ذلك ليس سيئاً، إنهم يعرفون هذا العالم جيداً، فهم يواجهون قوى الرجعية والاستعمار منذ وقت مبكر، فلا أحد كأطفال صعدة يخشى مستقبل الأمة ويقاتل لأجلها.
الحياة العامة
بمجرد أن تنفست روحي أول نسمة هواء في سماء صعدة، تخيلت كأنني أسبح على ضفاف جنة ليست موجودة في عالمنا هذا، وأرسو في جناين ربيع أخضر ليس له مثيل على وجه الأرض، ربيع اليمن صعدة أنت.. فأرى طيفها يملأ المكان بنور يضاهي نور الشمس ويعكس ألوان الطيف.
وددت حينها ألا أستفيق من هذا الواقع الجميل، وأن أقيم فيه إلى اA271;بد.
كل صباح أصحو على ترانيم زامل أسطوري مشحون بالحماس والهمة والقوة.. إنه صوت الشهيد لطف القحوم، الحنجرة الباليستية كما يطلق عليه الأهالي هناك.. إنه أحد الأبطال الذين أوجعوا العدو في خاصرته.
صعدة المدينة لا تزال تعيش حياة طبيعية للغاية، رغم كل الجراحات التي خلفها العدو في كل شارع وفي كل بيت، إلا أن ذلك لم يؤثر على الحياة العامة للأهالي، بل على العكس تماماً كلما زاد العدو تعجرفاً ازدادوا قوة وبأساً شديداً.
اليوم، وبعد أكثر من عامين على العدوان، تشهد مدينة صعدة حركة سكانية كبيرة، فعدد النازحين الذين وصلوا إلى 200 ألف في الشهر الأول من العدوان، عادوا جميعاً، إضافة إلى أن هناك 800 سائح يومي يزورون المدينة من مختلف مديريات المحافظة، حسب ما صرح به لصحيفة (لا) محافظ صعدة محمد جابر الرازحي.
ولادة الأبطال
الجميع في صعدة صغاراً وكباراً يحمل سلاحه على كتفه، لكن المفارقة أن نسبة الجريمة في صعدة تكاد تنعدم، الكل يسهر من أجل الآخر، إنهم يجسدون أنبل القيم الإنسانية والأخلاقية في زمن كادت تندثر فيه هذه القيم.
عندما أمعن النظر جيداً في هذه التفاصيل الصغيرة، أدرك تماماً حماقة الأعداء ونهايتهم الوشيكة، إنما ذلك ليس بالأمر الغريب، فمن غير نساء صعدة تستقبل أبناءها الشهداء بالزغاريد والرصاص.
إنها ولادة الأبطال، فكم من الدماء التي قدمتها صعدة في سبيل الوطن، إلا أن كل شيء هنا حي رغم كل التضحيات.
فالسنوات هنا لا تشيب، وقبل أن تأذن شمس كل يوم بالرحيل، تلد أرحام نساء صعدة بطلاً وبطلة يرسمون حلم اليمن السعيد بدمائهم الزكية، ويدافعون عن الوطن والعزة والكرامة.
أسلحة محرمة
لم يتورع العدو الأمريكي السعودي في استخدام الأسلحة المحرمة دولياً على محافظة صعدة منذ اليوم الأول للعدوان، حيث ألقت طائرات العدوان بين الحين والآخر قنابل عنقودية وانشطارية وأخرى تحوي مواد كيميائية سامة محرمة دولياً، من بينها غارات مكثفة على مزارع وأحياء سكنية في شتى مديريات صعدة، ألقت خلالها الطائرات مئات القنابل العنقودية، ولا تزال حتى اللحظة فرق نزع الألغام تقوم بمسح الأراضي ونزع مئات القنابل العنقودية.
تحولت عشرات الكيلومترات من الأراضي الزراعية وعشرات المناطق السكنية في مديرية سحار وسط صعدة إلى مناطق محظورة بسبب مئات القنابل العنقودية التي ألقتها طائرات العدوان الأمريكي السعودي على تلك المناطق في الشهر الأول من العدوان، كما استخدم الطيران هذه الأسلحة بشكل كبير، وخصوصاً في مديريات الصفراء، سحار، رازح، باقم، وكتاف، حيث استهدف الأحياء السكنية والقرى والمنشآت الحكومية، متسبباً في قتل آلاف الأبرياء.
استهداف التاريخ
لم يكن استهداف طيران العدوان الأمريكي السعودي لشواهدِ التاريخ اليمنية إلا جانباً من الحقد الممنهج على حضارة وتراث اليمن، ودليلاً قطعياً على الحقد الدفين الذي تكنه للشعب اليمني ممثلاً بهويته الحضارية والتاريخية.
ففي الـ10 من أبريل 2015م استهدف طيران العدوان مدينةَ صعدة التاريخية التي يعود تاريخُها إِلَـى عصور قديمة جداً، وتحوي في نطاقها تنوعاً حضارياً وثقافياً، يعود جزء منه إِلى ما قبل التاريخ. وقد تضررت المدينة بشكل شبه كلي قبل أن يشن طيران العدوان غاراته على جامع الإمام الهادي أقدم جامع في محافظة صعدة، والذي يعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 1200 عام.
تعاون المجتمع
بالرغم من كل الخراب والدمار الذي خلفه العدوان السعودي في محافظة صعدة، إلا أن أبناءها يجسدون أروع الأمثلة في التحدي والصمود، فعلاوة على كسرهم حاجز الحظر الذي فرضه الطيران السعودي جراء الغارات اليومية، يتعاون أهالي صعدة بجهد ذاتي لترميم وإعادة بناء معظم ما تم تدميره بواسطة طيران العدوان، وبث الحياة فيه من جديد.
فقد تم بإشراف السلطة المحلية المتمثلة بقيادة المحافظة، العمل على إعادة ترميم وإصلاح العديد من المزارع والطرقات والجسور والجوامع والأسواق، منها جسور على الطريق الرئيسي بين صعدة وعمران، بالإضافة إلى إعادة ترميم جامع الهادي والمدينة القديمة.
إن العمل على إصلاح الأضرار التي لحقت بمعالم المحافظة وبنيتها في هذا الظرف بالذات، يعد انتصاراً كبيراً تحققه المحافظة، خصوصاً وأن تكاليف الترميم على حساب المحافظة نفسها، دون أي دعم آخر، كما أكده محافظ صعدة الأخ محمد جابر الرازحي، في لقاء مع صحيفة (لا) نُشر الأسبوع الماضي.
مستشفى الموت السعودي
في اليوم الرابع للزيارة، أصبت بوعكة صحية جعلتني على وشك الدخول في غيبوبة مفاجئة، وهو ما استدعى قيام الزميل عبدالرقيب المجيدي بنقلي على الفور إلى أقرب مستشفى.
لسوء الحظ كان أقرب مستشفى من مقر إقامتنا هو مستشفى السلام السعودي، أو مستشفى الموت كما يصفه أهالي صعدة، وهناك رفض العاملون في قسم الطوارئ بالمستشفى استقبالي بحجة أنني لست جريح حرب، رغم أني كنت في حالة سيئة للغاية، وعندما حاولت أن أتحدث للدكتور بأنه لا وقت للتأخير، ويجب أن أدخل قسم الإسعافات الأولية، قام بدفعي بكلتا يديه، وقال اخرج من المستشفى.
لقد كان يوماً مؤسفاً للغاية، وأنا أرى عشرات المرضى من الأطفال والنساء يفترشون أرضية المستشفى دون أن يأبه لهم أحد، ويبدو المستشفى لأي زائر كمسلخة بشرية لا تختلف عن تلك التي تصنعها داعش في العراق وسوريا.
أُنشئ مستشفى السلام السعودي سنة 1982م، وتشير المعلومات إلى أنه تم بناؤه فوق حوض نفطي كبير لغرض إخفائه، ويذكر أن المستشفى لا يتبع وزارة الصحة اليمنية، وإنما تديره السعودية بشكل مباشر.
ببذاءة وطريقة قذرة يتم التعامل مع المرضى في مستشفى السلام السعودي، وعلاوة على ما شاهدته بعيني يحكي لي أحد الأهالي أن العاملين في المستشفى السعودي يقومون بضرب النساء الحوامل لإجهاضهن، بالإضافة للتعامل مع بقية المرضى بطريقة بشعة، مشيراً إلى أن معظم العاملين فيه لهم علاقة بتنظيم القاعدة، وأبرزهم مدير المستشفى السابق.
يحاول العدو السعودي أن يفرض حالة الإذلال على أبناء صعدة من أية زاوية، ولأنه خسر كل معارك الجو والبر، يسعى لفرض هيمنته عبر المستشفى الذي لا صلة له بالإنسانية، ومن نجا من غارات الحقد السعودية لحقته الأخيرة عبر مسوخها البشرية المرابطين في مستشفى السلام.
غياب الدور الإنساني
المنظمات الدولية الإنسانية غائبة تماماً عما يجري في محافظة صعدة، ولم تسجل أي دور إنساني في شتى المجالات، وفقاً لأهدافها ومبادئها، بما في ذلك مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر بصعدة، باستثناء حضور شكلي لمنظمة أطباء بلا حدود قبل أن يتم قصف مقرها من قبل طيران العدوان السعودي.
مصدر في مكتب الصحة العامة والسكان في صعدة قال إن الغارات المكثفة لطيران العدوان على صعدة خلفت أعداداً هائلة من الضحايا، وضاعفت من تفاقم الوضع الصحي في المحافظة، نتيجة لارتفاع أعداد الضحايا في ظل عدم توفر الأدوية وانحسار العلاجات بسبب الحصار. مضيفاً أن الكثير من المراكز الصحية والمستشفيات الريفية في المديريات تعرضت للقصف وغارات طائرات العدوان، والتي كان آخرها قصف المركز الطبي في العطفين بمديرية كتاف، الأمر الذي ضاعف العبء على المستشفى الجمهوري الذي يعد المستشفى الوحيد في صعدة الذي يعاني، هو أيضاً، من نقص في الأدوية والكوادر المتخصصة.
عزيمة المزارعين
يبدو مساء صعدة أشبه بحفل كرنفالي شديد الحسن والبهاء، تشعر معه بالألفة والحب.
واصلنا السير في أزقة المدينة وحاراتها ومزارعها تحت تأثير الدهشة من جمالها الأخاذ، اتجهنا شمالاً صوب مزارع الرمان والتفاح، حيث تبدو أشعة الشمس أشبه بعرض كرنفالي مذهل وهي تعكس ألوان أزهار الرمان.
لا تزال خيرات محافظة صعدة تهدي أرجاء البلاد أطيب ثمارِها، فرغم الحقد الدفين الذي أفرغه العدو عبر طائراته وأسلحته المحرمة، إلا أن النشاط الزراعي لأبناء محافظة صعدة لا يزال حاضراً بقوة، ولم تقتل القنابل العنقودية التي ألقاها العدو إرادة وعزيمة المزارعين على غرار ما أحدثته نسبياً بحيوية وخصوبة التربة.
الحديث ليس عن الطماطم التي تملأ الأسواق وحسب، وإنما عطاء مزارع صعدة وأوديتها الفسيحة يشمل الحبوب بأَنْـوَاعها والفواكه والخضار والتفاح والبرتقال والحبحب (البطيخ) والبُن الحيداني والخيار والرمان الذي ينتشر في قاع صعدة ويتميز بجودته وسكّريته، ويسمى الخازمي، وهو نوع لا يوجد في الجزيرة العربية بكاملها.
فصعدةُ التي كانت أولى سلال الـيمن الغذائية، لا تزال رغم كُلّ ما حدث لها من تدمير ممنهج واستهداف وحشي، تشكل رقماً صعباً في الأَسْوَاق الـيَـمَـنية.
إلى لقاء جديد
ما إن شددنا رحالنا للرحيل كانت صعدة قد استفاقت مبكراً لتوديعنا، بينما كانت أرواحنا تأبى الرحيل، وودت لو نبقى هنا إلى الأبد.
كان مشهداً حزيناً لحظة وداع صعدة التي علمتنا كيف نكون أقوياء، والأهم من ذلك كيف نكون رحماء بيننا.
أكتب هذه المادة وأنا لا أريد أن أستفيق من هذا الواقع الجميل حتى أعيد ترميم جسر محمود درويش في ديوانه الأخير (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي)، وأنادي عليها بشكل غير منتظم.. ستبقى صعدة الأبية قبلة النضال والحب والسلام، ستبقى ندية عبر الزمان، فلا تشيب.
المصدر حلمي الكمالي/ لا