مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثاني من أسفار أيوب الجميلة، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات هذه الأسفار .
وإذا ما عدنا أدراجنا وارتحلنا مع الفنان أيوب وأسفاره الجميلة شمالاً، الى حيث الحب والبن واخضرار الروابي، سيكون لزاماً علينا أن نتوقف عند محطات أجمل شعراء القصيدة الغنائية الحديثة، الذين تغنى الفنان أيوب بقصائدهم على وقع ألحان أشهر وأقدم ألواننا الغنائية اليمنية، المعروف باللون الصنعاني وإيقاعاته الطروبة.
ومن أهم وأبرز من تغنى لهم أيوب من شعراء هذا اللون الغنائي في العصر الحديث، يأتي الشاعر الكبير مطهر الإرياني، شاعر قصيدة (الحب والبن) أو (قران تشرين ثاني) كما يسميها البعض، وهي من أشهر الغنائيات اليمنية الحديثة، وقد لحنها وغناها علي بن علي الآنسي وعدد من الفنانين، وهي نفس القصيدة التي لحنها أيضاً الصحفي عبد الصمد القليصي للفنان أيوب طارش، وحققت شهرة واسعة، والمعروفة عند العامة بـ(طاب الجنى يا حقول البُن) أو (طاب اللقاء والسمر)، وكامل كلماتها:
(طاب اللقاء والسمر على قران الثريّا
قران تشرين ثاني ألف مرحب وحيّا
يلّا بنا يا شباب الجوّ الأروع تهيّا
هيا نغني سوى للحب وأحلى الأماني
اليوم طاب السمر على طلوع القمر
طاب الجنى في الشجر وافتر ثغر الزمانِ
يا حارس البن بشرى موسم البن داني
ما للعصافير سكرى بين خضر الجنانِ
هل ذاقت الكاس الأول من رحيق المجاني
واسترسلت تطرب الأكوان بأحلى الأغاني
قال ابشروا بالخبر بشاير أول ثمر
ظهر بلون الخفر على خدود الغواني
طاب الجنى يا حقول البن يا أحلى المغاني
يا سندس أخضر مطرّز بالعقيق اليماني
يا سحر ما له حدود في الكون قاصي وداني
ما أحلى العقود القواني في الغصون الدواني
بن اليمن يا درر يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر ولا ابتلي بالهوانِ
يلّا بنا يا شباب الريف من كل بندر
نحيي ليالي الهنا والحب والخير الأوفر
بألوان من فن هذا الشعب من عهد حمير
بالة ومهيد ومغنى دان وا ليل داني
يا رب ما أحلى السهر في ريفنا والحضر
ما أحلى الصبايا زُمر تردد أحلى الأغاني
وأنا المعنى بحب أهيف حميد الخصالِ
عذب اللما ساحر العينين فتّان حالي
طلبت أنا القرب منّه قالوا القرب غالي
قلت اعملوا لي أجل مضروب لا خير ثاني
قالوا قران القمر على الثريا سحر
في يوم خامس عشر من شهر تشرين ثاني
ميعادنا وا حبيبي كان لا خير قادم
كم قلت ليت الزمن يا خل كله مواسم
واليوم عيد الجنى بانت له أول علايم
بشاير أول ثمر في لون ياقوت قاني
كنت أرسم أحلى الصور لموعد أسمى وطر
يوم القران الأغر يوم انتصار الأماني
صبرت صبر الحجر في مدرب السيل وأعظم
محّد تعذب عذابي أو سهر أو تألّم
قضيت أنا العام في شوق المحب المتيم
أعد الأيام والساعات وأحسب ثواني
بانلتقي وا حبيب القلب لا وادي أفيح
نجني ونحلم بساعات التلاقي ونمرح
والطير تسجع وتتغنى لنا حين تصدح
ومن رفاق العمل يا خلِّ نسمع تهاني
مبروك على من صبر للموعد المنتظر
الخير نجمه ظهر ونال كل الأماني)
(ولد الشاعر مطهر الإرياني عام 1933، في القفر محافظة إب، وتلقى تعليمه على يد فقهاء قريته وأخيه الأكبر فضل بن علي الإرياني. وفي 1953 انتقل إلى عدن، ومن ثم إلى القاهرة والتحق بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، عام 1955، وتخرج منها في 1959. وله دراسات في الأدب والتاريخ والنقوش اليمنية القديمة، ومن أهم أعماله (المعجم اليمني في اللغة والتراث) حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية، دمشق: دار الفكر، 1996.
وفي تاريخ اليمن: شرح وتعليق على نقوش لم تنشر: 34 نقشاً من مجموعة القاضي علي عبد الله الكهالي.
وحقق كتاب (شمس العلوم) لنشوان بن سعيد الحميري (بالاشتراك مع حسين العمري ويوسف محمد عبد الله)، وكتاب (صفة بلاد اليمن عبر العصور) (بالاشتراك مع حسين العمري). نقوش مسندية وتعليقات، 1990.
توفي في 9 فبراير عام 2016 بالعاصمة المصرية القاهرة).
اطلع الشاعر مطهر الإرياني على التراث الشعبي اليمني، وأُعجب بالشعر الحميني، وكتب العديد من القصائد الغنائية والأناشيد الثورية منذ وقت مبكر من حياته، وصدر له ديوان شعر عامي بعنوان (فوق الجبل) عام 1991، بالإضافة الى الكثير من الأعمال الأدبية والغنائية الأخرى مثل (المجد والألم) قصيدة طويلة، وأوبريت (مغناة وادي سبأ) وأغنية أو ملحمة (البالة) الشهيرة.
أما أغنية (خطر غصن القنا) التي كتب كلماتها هذا الشاعر الكبير، ولحنها وغناها أيضاً الفنان الكبير الراحل علي بن الآنسي؛ ثم تغنى بها بعده بنفس اللحن عدد من الفنانين؛ ومنهم الفنان أيوب، فتعد من أهم أغاني اللون الغنائي الصنعاني الحديثة، وتقول كلماتها: 
(خطر غصن القنا
وارد على الماء نزل وادي بنا 
ومرِّ جنبي 
وبأجفانه رنا
نحوي وصوب سهامه واعتنى 
وصاب قلبي 
أنا يا بوي أنا 
لمه تقسى لمه 
وتهجر ابصر حبيبك ما أرحمه 
هايم بحبك 
ترفق وارحمه 
لا تعدمه بالجفا شا تعدمه 
والذنب ذنبك 
أنا يا بوي أنا 
أمان يا نازل الوادي أمان 
أخذ قلبي وراح 
وشق صدري بالأعيان الصحاح 
يا طول همي 
ويا طول النواح 
من حب من حل هجري واستباح 
قتلي وظلمي 
أنا يا بوي أنا)
ومن أجمل من تغنى لهم الفنان أيوب طارش في هذا اللون الغنائي الجميل، يأتي أيضاً المناضل والثائر الوطني الشاعر الكبير (علي بن علي بن محمد بن حسن صبرة، المولود في منطقة (ماوية) بمحافظة تعز، سنة 1938م، وتخرج في دار العلوم في جبلة، عمل رئيساً لمصلحة الإذاعة ووكيلاً لوزارة الإعلام ثم نائباً لوزير الإعلام، ثم عمل في السلك الدبلوماسي حتى وفاته في منزله بصنعاء في أبريل 2009م.
شارك في عدد من الفعاليات والمؤتمرات المحلية والعربية، وتم تكريمه بعدد من الأوسمة والجوائز والشهادات التقديرية لمواقفه الوطنية والنضالية، ولكتاباته الأدبية والتاريخية.
من دواوينه الشعرية: (القلم والمدفع ـ 1947)، و(اليمن الثائر ـ 1967)، والعديد من الأناشيد الثورية والقصائد الغنائية باللهجة الصنعانية التي تغنى بها كبار الفنانين اليمنيين، وفي مقدمتهم الفنان الراحل علي بن علي الآنسي الذي شكل معه ثنائياً رائعاً، وكذلك الفنان أيوب طارش الذي تغنى بعدد من قصائده الغنائية العاطفية) التي سنتناولها لاحقاً في طي هذا الأسفار، بالإضافة الى الأناشيد الثورية، ولعل نشيد (انثري السحب فوقنا يا سماء) يعد من أروع وأشهر الأناشيد الوطنية لهذا الشاعر الثائر، وقد لحنه وتغنى به الفنان أيوب طارش منذ وقت مبكر من أسفاره الفنية، وتقول كلمات هذا النشيد الجميل:
(انثري الشهب حولنا يا سماءُ
واسكبي الضوء والندى يا ذكاءُ
عاد أيلول كالصباح جديداً
سُحقت في طريقه الظلماءُ
يبعث الروح في الوجود ويسري
في دمانا كما يدب الشفاءُ
ينشر الحب والسلام ويبني
نِعم بانٍ لنا ونعم البناءُ
عاد أيلول غرة في جبين الدهر
تزهو به السنين الوُضَاءُ
عثرت خلفه المطامع صرعى
وتجارت أمامه الأشلاءُ
نِعم ما أنجبت لنا (بنت كرب)
توأمان: أيلولنا واللواءُ
وأطل التاريخ من شرفة الدنيا
ابتهاجاً بنا، ودوى دعاءُ
رددي أجيالنا ردديها
أي مجد بلغت يا خضراءُ
فيه أيلول والنشيد صلاة
وزكاة المجاهدين الدماءُ
قسماً لن ينال منك دخيلٌ
أو يبيع المكاسب العملاءُ
للبلاد البقاء وللثورة المجد
وللشعب واللواء الولاءُ
يا بلادي يا كبرياء جراحٍ
رضعت من نزيفها الكبرياءُ
قد نسجنا نجيعهن لواء
ركعت عند ظله العلياءُ
من يراه يظنه مهجة الكون
ولكن خفاقة حراءُ
أيها الخافق الذي تتفيا
ظله الصافنات والهيجاءُ
يستريح المناضلون وتستن
المواضي ويحصر الشهداءُ
وهو يتلو على 
النجوم بياناً:
قسماً لن ينال منك دخيلٌ
أو يبيع المكاسب العملاءُ)
لكن ماذا عن أغنية (ظالم شغل بالي) التي تنتمي في لحنها الى هذا اللون الغنائي اليمني الجميل  (الصنعاني)؟ 
يتذكر الفنان أيوب طارش ضاحكاً: عندما سجلت هذه الأغنية في إحدى السهرات لتلفزيون عدن، قام المذيع الذي قدم الأغنية بتشديد حرف (الغين) في كلمة (شغل)، فتغير معنى عنوان الأغنية  فأصبح معنى آخر (وكأن هناك ظالماً قام بتشغيل شيء بالٍ!).
وعن هذه الأغنية يقول أيوب إنها من أهم القصائد الغنائية الأولى التي تغنى بها في بداية أسفاره الفنية، وسجلها في تلفزيون عدن في إحدى السهرات التلفزيونية، بعد أن كان قد سمعها لأول مرة من الفنانة نعائم شريان، كما تحدث وذكر لنا ذلك في طي هذه الأسفار سابقاً. 
ومن المفارقات الجميلة، بل والعجيبة، أن كاتب كلمات هذه الأغنية الجميلة المنتمية في لحنها الى لون تراثنا الغنائي المسمى (الصنعاني)؛ هو الشاعر والصحفي الرائع علي عبدالله جعفر أمان)، المولود في مدينة عدن 1937/4/26م، كما جاء في سيرة حياته، والذي يعد من أرق شعراء القصيدة الغنائية، وأحد الرواد الأوائل في كتابة ما سمي الأغنية العدنية، وصاحب أول مجلة فنية تصدر في عدن والجزيرة العربية (مجلة أنغام ـ 1958م).
وأول من تغنى بهذه القصيدة هو الفنان أحمد السنيدار بعد أن اطلع عليها في ديوان الشاعر (أغان عدنية) الصادر عام 1955، وأعجب بهذه القصيدة الغنائية الجميلة غير (المكتمل بيتها الأخير)، فغناها.  
وقصة هذه القصيدة وعدم (هذا الاكتمال)، كما جاء على لسان مؤلفها، أنه كتبها عندما كان طالباً في الكلية الفنية بمدينة المعلا وقتذاك، والتي عرفت في ما بعد بالمعهد الفني.
ويروي تفاصيل ذلك بقوله: (في ذات صباح كان أستاذي يومها- وصديقي في ما بعد - الأستاذ محمد خليل اليناعي واقفاً في الفصل أمام السبورة يشرح لنا تجربة في مادة الكيمياء التي لم أكن أطيقها، وقد اعتدت أن يكون مقعدي أحد آخر المقاعد في الفصل، وهذا الوضع كان يوفر لي الفرص الكافية والمناسبة لأمارس هوايتي المفضلة في كتابة الشعر، والشعر الغنائي خاصة، والذي كنت أتصوره (شخبطة) أو فوران المراهقة، حيث كنت غارقاً حتى أذني في تأثيرات الرومانسية، مما كان ينسيني أو أتناسى أحياناً أنني في قاعة الدرس.. وهذا ما حصل معي مرة في حصة الكيمياء مع أستاذي وصديقي اليناعي. فحينما كنت غارقاً ومسترسلاً في كتابة هذه القصيدة، لم أدر إلا بالأستاذ اليناعي الذي كان يقف خلف مقعدي ليخطف الورقة (الأغنية) من بين يدي، ويتجه بها مسرعاً نحو السبورة، منفعلاً، ليتحدث إلى طلبة الفصل عن جهده وتعبه وشرحه الطويل للدرس الذي جاوز نصف الساعة، و(صاحبكم) كأنه في عالم آخر يكتب الأغاني. حينها انطلقت ضحكة مدوية متميزة لزميلي هاشم عبدالله سيف - يرحمه الله- تبعتها ضحكات أخرى متتاليات من بقية زملاء الفصل، الذين طالبوا مجتمعين الأستاذ محمد خليل اليناعي بأن يقرأ على مسامعهم القصيدة، ولم أكن قد أكملت فيها البيت الأخير.. وبدأ الأستاذ اليناعي يقرأ: ظالم شغل بالي.. إلى آخر ما كتبت فيها، وكانت الحصة قد شارفت على نهايتها. فإذا به يطلب مني أن آتي إلى جانبه، ومخاطباً إياي بأنه يمنع عني الجلوس في آخر الفصل، وأن أمتنع عن الكتابة فيه، فالبيت هو المكان الأنسب لذلك.. 
وانقضت السنون فإذا بنا صديقان.. وكم استعدنا نتذكر معاً ذلك الموقف الطريف.
لولادة هذه القصيدة الغنائية الجميلة التي تقول كلماتها كما كتبت في حينها دون أن يجري عليها أي تغيير:  
(ظالم شغل بالي بعد الجفا والبين
من بايشوف حالي فين أشتكي به فين
داري أنا ما بك والذنب مش ذنبي
وإن آلموك أهلك بسليك من قلبي
أنساك كيف أنساك وأنسى معك حبي 
زرعت لي أشواك شاهد عليك ربي
أيام عشناها والقلب متوجع 
راحت وما أحلاها من فين بترجع)