غازي المفلحي/ لا ميديا 

إذا أردت أن تعود روحك الإنسانية والوطنية نقية كيوم 
ولدتك أمك، فعليك بالحج نحو كعبة الحرية ومهد الوحي الثوري الحقيقي (صعدة)، 
فعندما تدخلها وترى ما فعلت بها وبأهلها حروب الظلم منذ 2004 وحتى اللحظة، من دمار، تعتقد 
أنها الأرض الأكثر حسرة وقنوطاً، لكنها تفاجئك عند ملامستك وجه الحياة فيها العامر والكريم، المشرق 
والمتهلل بالنصر العزيز الذي سقته بذرة بدمائها لسنين طويلة، حتى استوى على سوقه فاستغلظ واشتد وأغاظ الوصاة وزعزع عروشهم وجرفها من اليمن ومضى نحو خليج الهوان الموعود بالزوال. في صعدة تحفك القلوب 
الطيبة النادرة والنفوس الصلبة الصابرة التي طوعت الزمن وأركعت الظالمين، ترى فيها 
مدينة الثورة الفاضلة ملهمة المظلومين، والتي لا يمكن للطغاة تجاهلها.

تتحدى المستحيل
تقع صعدة شمال اليمن وشمال غرب العاصمة صنعاء، وتبعد عنها حوالي 242 كيلومتراً، ومساحتها 11.375 كم مربعاً، وعدد سكانها 838,000 حسب إحصائيات عام 2011، وعدد مديرياتها 15 مديرية هي: باقم، قطابر، منبه، غمر، رازح، شداء، الظاهر، حيدان، ساقين، مجز، سحار، الصفراء، ضحيان، كتاف والبقع، والحشوة، إضافة إلى مدينة صعدة، والزراعة هي النشاط الرئيسي في المحافظة.
قبل أن تصل إلى صعدة تظن كغيرك أنها مدينة من الأنقاض الخاوية على عروشها المسكونة بالصمت وهدوء الخراب بفعل العدوان وغاراته اليومية عليها بالمئات على مدى أكثر من 3 سنوات، لكن عندما تدخلها صحيح أنك تجدها فعلاً مدمرة جراء آلاف الغارات، لكنها مفعمة بالحركة والحياة عن آخرها، وتتفوق على كثير من المحافظات في الحركة العامة والتجارية التي تدب فيها من جوار ووسط وفوق وتحت رُكام الحرب التي أرادت لصعدة الموت، وأبى الله لها إلا الحياة والعلو، ومد أهلها بأسباب وأسرار صبره ونصره وثباته، فهي حقاً المدينة التي تحدت المستحيل، خاصة أن تحالف المهزومين أعلنها بكل معاني الحقد منطقة عسكرية، في 8 مايو 2015.
لا تسير إزاء عدة مبانٍ في الشوارع العامة والصغيرة في صعدة المدينة إلا وتجد بيتاً أو مبنى أو مؤسسة حكومية أو خاصة منسوفة بعد أن دكتها الغارات وجعلتها قطعاً إسمنتية وحجارة متراكمة غير مفهومة المعالم، وتجد مباني رابضةً فوق طوابقها السفلى، ليصيبك الذهول من قوة الحقد الذي حُمّلت به صواريخ ممالك الروث والرمال، فأحنى وأمال المباني المدعمة بصلابة وقساوة الإسمنت والحديد، وتكاد تجد أطلال مبنى مقصوف بين كل 5 مبانٍ أو منازل في كل شارع.
ما إن تأخذ جولة واسعة في مدينة صعدة الممتدة الأطراف، تجدها مزدحمة السكان ومتواصلة الحركة في جميع أوقات اليوم حتى بعد منتصف الليل، فهي حقاً مدينة لا تموت، فضلاً عن أنها مدينة لا تنام، ثم تعرف أن هذه المدينة الكبيرة في كل شيء هي مجرد عاصمة محافظة صعدة، وأن محافظة صعدة فيها أكثر من 15 مدينة ومئات القرى الصغيرة التي تعج بالناس والمساكن والمزارع والمحلات والأسواق، بعدها تفكر بانفعال بالعقول المجرمة لبني سعود والحاقدة على اليمن بشكل عام وصعدة بشكل خاص، فكيف يعلنها حلفهم المارق منطقة عسكرية وهي محافظة بهذا الحجم والكثافة السكانية والعمرانية والتجارية والزراعية! ولا يعني ذلك حقيقة غير نية تحالف الشياطين إبادة وتشريد أبناء محافظة يمنية كبرى كانت شوكة في حلق استكباره هو ومن ورائه أمريكا. 
وإذا قربت عدسة النظر من المشهد العام في صعدة إلى المشهد التفصيلي الخاص باتجاه أسواقها ومحلاتها واهتمامات الشارع وحركة المواطنين اليومية ونمط عيشهم، تراها مدينة تمتلئ بكل ما يدعو للحياة ويرفض الحرب، فمظاهر الحياة في صعدة كأية مدينة أخرى من المطاعم إلى الفنادق الأنيقة إلى معارض السيارات إلى محلات بيع ألعاب الفيديو، ولا شيء يميز صعدة غير سقف الكرامة الذي يلامس السماء، فصعدة تعيش في هذا العصر وبكل مظاهر جماله وحيويته، ولكن بكرامة وحرية دون أن تكون مغلولة لألف وصي، وصورة الدمار والخوف التي يريد تحالف العدوان سجن صعدة في شبحها، تتمزق بكل تلك الحركة والحياة، لأن صعدة لا تسجن ولا تخاف ولا تموت.

الرحلة إلى ضحيان
مدن صعدة ومديرياتها كثيرة، ولم نحظ أو يسعفنا الوقت إلا لزيارة مدينة ضحيان، تزامناً مع جريمة العصر الشهيرة التي استشهد فيها 51 مدنياً، بينهم 40 طفلاً، وجرح 79، بينهم 56 طفلاً، في الغارة التي استهدفت حافلة أطفال ضحيان وهي في سوق المدينة، وكانت تقل الأطفال في رحلة صيفية، في 9 أغسطس الماضي.
قطعنا أكثر من 20 كيلومتراً ونحن متجهون نحو ضحيان، في طريق تملأ جوانبه عشرات البيوت، والمزارع على الطراز العصري الحديث الصديق للبيئة والتي تستخدم الطاقة البديلة (الطاقة الشمسية) في تشغيل مضخات ري المزارع، مزارع الرمان والمانجو والعنب والخيار وغيرها، والطريق لا تخلو في أية دقيقة من حركة السيارات والشاحنات القادمة والذاهبة.
وصلنا إلى مدينة ضحيان، وهي مدينة كبيرة يتوسطها الشارع العام، حيث يوجد السوق قلب المدينة النابض بالحركة التجارية، وهناك شاهدنا مكان وآثار وبقايا الجريمة التي لن تمحى أبداً من تاريخ اليمن، وسيكون الثأر لها مشهوداً، وهذا على عاتق أجيال اليوم والغد، ثم التقينا بأسر وذوي عدد من الشهداء الأطفال، ووجدناهم غاية في الصلابة والثبات وعزة الروح والكرم والصبر والتسليم لقضاء الله، تستلهم معاني حياة الكفاح والنبل من قلوبهم الطيبة وهاماتهم الباسقة وصبرهم الذي أعجز صبر الأولين والآخرين، وكان منهم الوالد (محمد أحسن العجري) وابنه (حسن محمد العجري)، وهما من أسرة الشهيد الطفل (حسين محمد العجري) ذي الـ10 سنوات، وتبادلنا معهما أحاديث عن الحادثة.

مع أسرة طفل شهيد
لم يتبق للوالد (محمد أحسن العجري) من ابنه (حسين) غير صورة وذكريات غابرة وسروال ممزق نهشت الشظايا والنار معظمه كما فعلت بجسم حسين الذي كان يرتديه يوم قصفت الطائرة الحافلة التي كان على متنها، ليكون ذلك السروال شاهداً على وحشية الهجوم الذي استهدفه مع أصدقائه الأطفال.
يحكي الوالد محمد تفاصيل الحادثة وتلقيه لها وآخر لحظاته وكلماته مع ابنه، قبل ذهابه في رحلة لا عودة منها، بكل صبر وإيمان، بالرغم من حجم الألم والقهر البادي على عينيه وملامحه.
يشاركه الوجع ابنه الآخر (حسن) ذو الـ12 عاماً، والذي نجا بفعل تأخره عن موعد الحافلة، من الموت المحتم، وبنفس رباطة جأش والده وبتقاسيم وجه ملائكية يحكي عن أخيه الذي رحل، وحجم سعادته بالذهاب في تلك الرحلة، والذي كان آخر حديثه معه أنه سأله لماذا لا يأكل الحلوى التي معه، فرد عليه أنه سيتركها حتى يأكلها في الرحلة التي لم يعد منها أبداً. 
غازي المفلحي/ لا ميديا
استضافنا الوالد (محمد أحسن العجري) في منزله المتواضع بضحيان، وبعد أن حمد الله كثيراً روى لنا عن يوم الفاجعة، وقال: (هذا العدوان تجرد من كل دين وإنسانية، وأقدم على ضرب أطفال حفظة للقرآن، سنهم من الـ10 إلى الـ12، من أولادنا وأولاد كثير من كل مناطق صعدة، وعند وقوع القصف كنت ذاهباً إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، وكنت قد ودعت ولديَّ الاثنين، اللذين قالا إنهما ذاهبان في رحلة، واستعدا لها من اليوم السابق، وذهبا وقت الفجر).
وبإيمان وصبر يستمر الوالد محمد ويقول: (وبينما أنا في السوق أنتظر أن أجد سيارة توصلني إلى أحد المشاوير التي أريد قضاءها، سمعت صوت غارة شديداً قريباً جداً، فهرب جميع من في السوق صغاراً وكباراً وأصحاب المحلات والباعة، ولم يبق أحد في السوق، وعندها سألت أحد الأشخاص ماذا حصل؟ 
قال مجزرة مروعة! قلت أين وكيف؟ قال الطائرة ضربت حافلة طلاب، ولم يبق منهم أحد حياً! فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، أولادي معهم في الحافلة).
ويستطرد الوالد محمد: (ثم انطلقت 
إلى مكان القصف، ووجدت السوق والشارع والطريق والرصيف والمحلات كلها مليئة بالجثث، وحتى مرمية في أماكن بعيدة عن مكان الاستهداف، وطارت بعضها إلى أسطح المنازل، وبدأت البحث عن أولادي 
بين الجُثث، والجميع حولي مثلي من أهالي الأطفال يبكون ويصيحون ويبحثون في الجُثث ليتعرفوا على أطفالهم... الجميع يبكي ويقول: أولادي.. أطفالي.. جهالي، وفجأة ظهر لي ابني حسن وهو بخير، فقلت له أين أخوك أنت كنت معه فوق الحافلة؟ قال لا، أنا تأخرت عن الباص وجيت ألحقهم، وقبل أن أصل إلى عندهم ضربوهم، قلت الحمد لله أنت نجوت وأخوك ربما أصبح شهيداً مع بقية الطلاب. وبعدها أخذوا الجُثث إلى المستشفى، وتبعناهم وبحثنا في الجُثث في مستشفى الطلح بضحيان والمستشفى الجمهوري بصعدة، وأخبروني في المستشفى أن 
ابني حسين من الذين مزقتهم غارة طائرات العدو، وأصبحوا أشلاء، قلت خيرة الله، وتأكدت أنه قد أصبح شهيداً، وإنا لله وإنا إليه راجعون).
يختم الوالد محمد كلامه: (هذا ما حصل، ونسأل الله أن يتقبل هؤلاء الشهداء الأطفال، ويجعل دماءهم سبب زوال بني سعود. والجريمة تقف خلفها 
أمريكا وإسرائيل والسعودية والإمارات وكل من تحالف معهم، وكلهم مشاركون في هذه الجرائم في ضحيان وفي كل اليمن، فجرائمهم أصابت الجميع حتى البدو في الشعاب والنازحين في المخيمات، ولكن الله سوف ينتقم منهم، وهو أحكم الحاكمين، فهم قد تجاوزوا حتى جرم فرعون، فما تركوا شيئاً إلا وقتلوه).
بدوره، يروي الطفل (حسن محمد العجري) أخو الشهيد، ويقول: (خرجت مع حسين نصلي الفجر، وعدنا وشربنا قهوة، وشاهدته لم يأكل (البسكت) الذي أعطيناه له، فقلت له لماذا لا تأكله، قال سوف أتركه للرحلة! حتى إنه لم يأكل من فطوره غير بضع لقيمات، فقد كان متحمساً للرحلة كثيراً).
يستمر الولد حسن ويقول: (وبعدها مشينا إلى عند الحافلة، وهو صعد وأنا قلت انتظروني أنادي الأستاذ، وعندما عدت كانوا قد رحلوا، وبعد مدة من رحيلهم وأنا أنتظر قرب السوق، سمعت ضربة قوية كأنها عندي، فرحت أسأل ماذا حدث، وقال لي صديقي حسين: ضربوا الحافلة، وكنت أظن أنه يمزح، ثم سألت غيره فقالوا في السوق، وكل واحد يقول كلاماً، ثم سألت صديقي زكريا وقلت له: هل الضربة صدق في الحافلة؟! قال اسكت. فعرفت أن الأمر صدق وليس مزحة، فجريت إلى مكان الضربة، ووجدت أن الطائرة ضربت الحافلة، وجثث وأشلاء الطلاب في كل مكان، وعندما عرفت أن حسين قد استشهد فقدت شعوري بنفسي وكأنهم رموني من عمارة [هكذا وصف الطفل حسن شعوره]).. وانتهى كلامه بابتسامة وقال: (لكن نحمد الله شهيد في الجنة، وأقول لحسين وأصدقائه هنيئاً لهم الشهادة، وحظهم ذهبوا الجنة وكلهم أطفال، وليشاهد أطفال العالم الجرائم الأكبر في العالم بحق الأطفال في اليمن، ونطالب بمحاكمة بني سعود وأمريكا ومن تحالف معهم).
كان الوالد محمد العجري وابنه نموذجاً عن أبناء صعدة الأبطال، كما هي ضحيان نموذج عن بقية مدن صعدة وقراها الصابرة الشامخة، وجولة سريعة وكتابة قصيرة كهذه لا تكفي لإيفاء صعدة وأهلها حقهم، ونقل صورة متكاملة عن المدينة التي وزعت نفسها كالشمس على كل اليمن، في معركة انتزاع الكرامة والحرية لكل اليمن وأبنائه، وصبرت على الحقد سنوات طويلة أشدها سنوات العدوان هذه، وقدمت خيرة أبنائها شهداء في كل الجبهات، مضحين لأجل اليمن وشعبه، لمن حبهم أو كرههم، لمن صدقهم أو كذبهم، بكل جود وسخاء، دون انتظار شكر من أحد أو إكليل ورد تقديراً على دورها وقيادتها ثورة حقيقية غيرت وجه اليمن والمنطقة، وأضاءت لكل مظلوم في العالم طريق الحرية والخلاص من تسلط وطغيان قوى الإمبريالية الأمريكية والصهيونية.