فؤاد علي عبد العزيز الزريقي
إعداد/ طاهر علوان الزريقي 

الفن تعبير مكثف عن شكل راقٍ من أشكال العلائق بين الذات المدركة والموضوع المدرك، كما أنه اختزال لقدرة الإنسان المتطورة واللامحدودة على امتلاك الواقع واستيعابه جمالياً لتغييره ضمن السياق الحتمي لتطور المجتمع.
وقد كان الفن عبر التاريخ يعبر بفعالية جمالية عما هو أساسي وجوهري ومتطور في الواقع بعيداً عما هو هامشي وسطحي، ولذا كان له قدراته الهائلة على التغلغل إلى جوهر الحياة الاجتماعية والتعبير عن قوانينها في أطار جمالي يتلاءم مع روح العصر والمستوى المادي والروحي للمجتمعات الإنسانية.
ولا شك أن سيادة أو بروز أي نوع من الأنواع الفنية والأدبية في أي مجتمع وفي أية فترة تاريخية، يخضع للشروط المادية ودرجة الرقي والتطور وحاجات المجتمع ومتطلباته الروحية التي تعكس تطور طاقته الروحية المتذوقة، وذلك لأن لكل نظام اجتماعي كما يقول أحد كبار فلاسفة الفن "نوعه الأدبي أو أنواعه الأدبية التي تحقق مثله الجمالي الأعلى، وتعكس علاقة الإنسان فيه بعالمه الطبيعي والاجتماعي".
ولهذا نلاحظ أن بداية الحركة الجنينية للمسرح في الشطر الشمالي من الوطن مرتبطة بقيام ثورة 26 سبتمبر، إذ أدى التغيير الاجتماعي بعد الثورة وظهور قوى اجتماعية جديدة، ونشوء أنماط جديدة من العلاقات في إطار العلاقات الاجتماعية السائدة، وكسر جدار العزلة الذي فرضه النظام الإمامي، والانفتاح النسبي والتماس مع الموروث الحضاري الثقافي، ولاسيما معطياته المعاصرة، عبر قنوات متعددة ومتنوعة، إلى إيجاد الشروط المادية لظهور أشكال فنية جديدة تلبي وتعبر عن الحاجات الجمالية والروحية والفكرية للوضع التاريخي والاجتماعي الذي أعقب قيام ثورة 26 سبتمبر.
ويعتبر المسرح أبرز هذه الأشكال الفنية وأهمها، لأن المسرح على حد تعبير الكاتب المسرحي شيلر في كتابه "المسرح كمؤسسة أخلاقية -1784م": "وسيلة لطرح الأفكار المتقدمة كسلاح للقتال ضد العيوب وأعداء الحقيقة والعدل. وسيلة لا تقل أهمية عن أية مؤسسة اجتماعية أخرى في المجتمع، فهي مدرسة الحكمة والمفتاح الصحيح للمداخل الخفية لجوهر الروح البشرية"، وكما يقول ليسنغ في كتابة الشهير "الأدب المسرحي في هامبورج (1767-1769م)"، عن أهمية المسرح: "إن المسرح الحقيقي يعلم حقيقة الخير والشر واللائق والمضحك، ويرينا جمال الأول في جميع مظاهره وآثاره، وعلى العكس يوضح بشاعة الثاني، فالمسرح مدرسة للأخلاق". وإذا كان ليسنغ وشيلر يركزان في تأكيدهما على أهمية المسرح انطلاقاً من دوره الأخلاقي، رغم تغير القيم الأخلاقية واكتسابها دلالات جديدة بتطور المجتمعات، إلا أن كل المدارس الفكرية تتفق على ضرورة وأهمية الفن المسرحي كأرقى أنواع الفنون وأكثرها تأثيراً في المجتمعات الإنسانية..
وقد بدأت بعد ثورة سبتمبر ظاهرة نشوء الفرق المسرحية المدرسية في المدارس وبعض الفرق الأهلية التي تعرض أحياناً بعض المسرحيات في عروض جماهيرية في الأعياد الدينية والوطنية، كما بدأ بعض الأدباء بالاتجاه إلى محاولة الكتابة المسرحية (محمد مثنى، محمد الزرقة)، وتخصص البعض منهم في الكتابة المسرحية (عبد الكافي سعيد، محمد الشرفي). طبعاً كانت توجد هناك بعض المحاولات المبكرة لكتابة النصوص المسرحية قبل الثورة.
كما كانت هناك بعض الفرق المسرحية، ولكن نستطيع أن نؤرخ لولادة المسرح في الشطر الشمالي من اليمن بإنشاء فرقة المسرح الوطني التابعة لوزارة الإعلام والثقافة، عام 1976، ووصول الخبير والمخرج المسرحي الأستاذ حسين الأسمر، وقد شكلت هذه الفرقة، التي كانت تحظى بالرعاية والاهتمام، المرتكز الرئيسي الذي تتمحور عليه الحركة المسرحية الوليدة في بلادنا.. ولكن رغم تقدم هذه الحركة المسرحية، إلا أنها لازالت تعاني بعض العوائق والصعوبات التي نوجزها في ما يلي.

العوامل المعيقة للتطور المسرحي:
(1) عدم وجود دور عرض مسرحية: ففرقة المسرح الوطني تقدم عروضها على خشبة مسرح وزارة الإعلام وغيرها من قاعات العرض المسرحي، لكن خشبة وقاعة مسرح وزارة الإعلام والثقافة أو غيرها لا تتوفر فيها الإمكانيات التقنية أو المواصفات الفنية كقاعة وخشبة عرض. ويعرف المختصون والمهتمون بالمسرح الدور الهام الذي تلعبه دور العرض المسرحية (القاعة + الخشبة)، والتي تتوفر فيها المواصفات والشروط التقنية والفنية، في إنجاح العمل المسرحي، فالمسرح أساساً يحافظ على حركة الجسم في المكان، وبالتالي يجب أن يكون مصمماً بحيث تبرز ملامح الظواهر الإيقاعية لحركة الجسم بشكل واضح، لأنه من أجل نجاح العرض المسرحي ينبغي- كما يقول المخرج العالمي فسيغولد مايرخولد –أن "تنتشر الحركات الإيقاعية وتموجات الحركة الجسمانية الإيقاعية في المكان الذي يساعد على استيعاب خطوط الحركة والإشارات وأوضاع الجسم".
كما يعمق من صعوبة العروض المسرحية عدم توفر مخازن للديكورات، واستديو لرسم خطوط السلايدات والماكتات، إضافة إلى أن قاعات العرض تفتقر حتى للكواليس وعمق الخشبة مما يقيد حركة الميزانسين وإمكانيات توظيف البروجكتورات لضرورة المؤثرات الضوئية. 
(2) عدم وجود معهد للتمثيل المسرحي: يعتبر الممثل ركناً مهماً من أركان العمل المسرحي، ويتوقف عليه نجاح أو فشل العرض المسرحي، وليس من السهل إيجاد الممثل الذي يستوعب في ذاته المخرج والمؤلف، والمتمكن ليس من أداء الشخصيات وعواطفها، بل التمثيل تحت تأثير العواطف وفي إطار الشخصية على مستوى خلق الفعل الداخلي ومستوى خلق الفعل الخارجي، فالمعهد التمثيلي هو الذي يستطيع تطوير قدرة الأداء التمثيلي للممثلين الموهوبين بمساعدتهم على تمثيل واستيعاب واستبطان وتقمص الشخوص الدرامية بمستوياتها الشعورية المتعددة، والمعايشة الداخلية للنماذج الدرامية بعيداً عن النمطية والتكرار والتقولب. وإذا أدركنا البؤس الثقافي لغالبية الممثلين في الفرقة، تأكد لنا أهمية المعهد في خلق المناخ الثقافي الذي يساعد الممثلين على التعرف والتواصل مع الثقافة عامة والثقافة المسرحية على وجه الخصوص..
(3) خضوع العروض المسرحية للمناسبات والتوظيف الإعلامي:
لا توجد في حياتنا الثقافية والفنية مواسم للعروض المسرحية، أي عروض جماهيرية ضمن جدول زمني، إذ تعرض المسرحيات في المناسبات الوطنية فقط، ولاسيما عيد ثورة سبتمبر، مما يحد من الحضور المسرحي في الحركة الثقافية والفنية، كما يشكل هذا الاحتفاء المناسباتي الذي يوظف الثقافة إعلامياً، عائقاً أمام خلق جمهور مسرحي عريض في حياتنا الثقافية.. ورغم نقص الإمكانيات (والأخذ بعين الاعتبار)، فإن تقديم المسرحيات في العروض الجماهيرية ليس بالمشروع الزهيد النفقات، إلا أن اعتبار المسرح نوعاً من الولائم الاحتفالية يتعارض مع مهامه وضرورته الثقافية.
فأدوات الإعلام ووسائله ليس بالضرورة هي أدوات ووسائل التثقيف، فالثقافة التي تثري وجدان الشعب وتشبع حاجاته الجمالية والروحية، وتستشرف آفاق المستقبل وتأنس رؤيا الإنسان، تختلف عن الإعلام الذي لا يتعدى دوره صياغة الرأي العام حول مشروع أو خط آني.. وليس هذا تقليلاً من دور وأهمية الإعلام، ولكنه تأكيد على دور الثقافة والفن..
(4) ضعف الإمكانيات الفنية والبشرية للمسرح كشكل فني بالغ التعقيد والتركيب متطلباته وشروطه المتعددة. وإخراج أية مسرحية يتطلب- بالإضافة إلى النص المسرحي الصالح للإخراج - عدة عناصر فنية متنوعة (المخرج، المؤلف، الموسيقي، مهندس الإضاءة، مهندس الديكور، صانع الاكسسوار، خبير الماكياج)، كما يحتاج إلى ورشة فنية للديكور، وأجهزة وآلات المؤثرات الصوتية والضوئية..