مجاهد الصريمي / لا ميديا -

الشعر ربيع روح أعشبت في ظله القلوب، ونزيل فكر خاض مجرات الضلالة فاتحاً ما انغلق من أبواب الهداية، لأنه نزعة اللا مكان التي تمكن الإنسان من نفسه فيسبر أغوارها متوجاً وجهتها بمدلولاتها الجوهرية القاضية على كل نزوع نحو انفلات الآدمية وسيرها في محدثات العدم وخلودها إلى بساط التوحش.

والشعراء هم الناحرون للظلمات بإشعاعات أقلامهم النازلة بأيديهم منازل القمر في الآفاق. وفي رحلتنا هذه عزيزي القارئ، نستضيف الشاعر منير أحمد سعد الجرفي، وهو من محافظة ذمار، مديرية وصاب، يبلغ من العمر 30 عاماً، من مواليد 1989، حاز شهادة البكالوريوس من كلية التربية التابعة لجامعة صنعاء، قسم اللغة العربية بتقدير جيد جداً، وهو شاعر يريك من خلال تنقله في بحور الخليل تألقاً قل أن تجده متاحاً لمن هم بمثل سنه، حيث نجد من خلال أبياته بصمة متميزة تدل على صائغ ماهر يصنع من قصائده قلائد يُلبسها جيد اللغة الفصحاء.
ولعل أبرز السمات المميزة لشعر شاعرنا هي القدرة الفائقة على موضعة قدم اللحظة الراهنة في سياقات تاريخية أسست لوجودها كي لا يعتريها التذبذب ويصيبها الضياع. وهذا ينم عن موهبة فذة تستمد حقائق التاريخ الماضي لمعرفة حقيقة حاضرها. كما يعبر عن هذه الميزة هذا النص الذي يصور لنا الشاعر وقد اتخذ عصى الوعي ليُزجي التاريخ صوب الوجهة التي لا بد أن يسلكها كي يصير تاريخاً تزينه ملامح التجربة البشرية الحية بما تحتويه من مقومات حضارية تشابكت لبنائها الأيدي، والتحدت لحمايتها الصفوف. فقد استاء شاعرنا لما رمق التاريخ وهو يصبح لعقاً على ألسنة المتحلقين حول فتات موائد المتخمين بالتبعية والحاملين لأجندة المستعمر كبنية بنوا على إثرها وجودهم ومنطلق قدموا عبره معنى تجندهم له. وكي لا يساق التاريخ كجارية إلى قصور الحكام يطوف على عقولهم الصدئة طواف كؤوس المدامة بينهم وبين جلسائهم وندمائهم، كان لزاماً على الشاعر وهو يعيش أعلى درجات تجليات العشق وأوفى مطفئات نيران الشوق أنه العناق وأي عناق. العناق الجديد بعد طول غياب ولمن؟ لصنعاء، وجه التاريخ ووجهته وموجهته.. وهاكم أبيات من القصيدة:
إنْ كَانَ أدْرَكَ مَا فِي صَدْرِهِ وَوَعَى
يوماً سيُخْبِرُكَ التاريخُ ما صَنَعَا
يَتِيمَةً خَاْلَ فيْها الدَّهْرُ مُبْتَهِجَاً
لمْ يظْعَنِ الدَّهْرُ حَتَّى سِرَّهُ وَضَعَا
مِن رَدْهَةِ النُّورِ جَاءتْ فوقَ أَجْنِحَةٍ
مِن المَلائِكِ، يا لِلْكَوْنِ مَا وُدِعَا!
صَنْعَاءُ كَانَتْ سَمَاءُ اللهِ قِبلتَهَا
فردَوْسُها مِن جِنَانَ الخُلْدِ قَد نُزِعَا
طَافَ الزَّمانُ عَلى أَرْكَانِ كَعْبَتِهَا
وَكَانَ أوَّلَ مَنْ أَبْوابَهَا قَرَعَا
ثَرى مَدِينةِ سَاْمٍ فَجْرَ مَولِدِهَا
لَمْ يَأْت مِن فَوقِه الطُّوفَانُ مُنْدَفِعَا
هُنا الحَمَامَةُ والزَّيتُونُ لو غَرِقَتْ
تَحتَ السَّفِينةِ صَنْعَانَا لَمَا جُمِعا
كَفْكِفْ عَن الشَّوْقِ دَمْعَاً حِينَ تدخُلُهَا
واذْكُرْ لَدى الوصلِ مَن لَبَّى لَهَا وَسَعَى
 إلى أن يقول:
صَنْعَاءُ يَا أُمَّنا الثَّكْلَى وفِي دَمِنَا
تَجرِي الحَياةُ، غَدَتْ أرواحُنا قِطَعَا
كَانتْ لَكِ الجُمْعَةُ الغَرَّاءُ مِن رَجَبٍ
فَتْحاً ولكن سَئِمْنَا بَعدَها الجُمَعَا
مَضَى زمانُكِ يَا أُمِّي أقولُ لَهَا
العُمْرُ يَمْضِي ومنكِ الجَفْنُ مَا هَجَعَا
يَا حُزْنَ مَريَمَ فِي عَينَيكِ أَلْمَحُهُ
وَتَحْتَسينَ عَلى عِلَّاتِكِ الوَجَعَا
تُطِلُّ بَسْمةُ مَكْلُومٍ عَلى فَمِهَا
تقُولُ: لا تَحسِبَنَّ القَلبَ مُقْتَنِعَا
يوماً سأخبِزُ للأَيتَامِ فَرْحتَهُمْ
يوماً سيمنحُنا الفلَّاحُ مَا زَرَعَا
اليَأْسُ مِلَّةُ مَن لَاْنَتْ عَزَائِمُهُم
لا ينْحَنِي عَزْمُ جَلْدٍ رأسَهُ رَفَعَا
أُمِّي تُرَقِّعُ أحَلامَاً لِتَرْتُقَها
مَنْ يَرْفَأِ الحُلُمَ البَلُّورَ إنْ وَقَعَا؟!
طَبِيْبَةٌ كيفَ لا تَأْسِي لَنَا أَلَمَاً؟!
تُكَفكِفُ الدَّمْعَ للمَحْزونِ إنْ دَمَعَا
لهَا ثَبَاتُ الحَوارِيينَ إِذْ فُتِنُوا
وتَسْتَقِي الصَّبْرَ مِن أيُّوبِها جُرَعَا
بِتْنا نُصبِّر يا صَنْعَاءُ أنفسَنا
قُدَّ الضِّياءُ ونورُ الفجْرِ ما طَلَعَا
إنْ يُطْفِئِ الجرْحُ في أرواحِنا أَمَلاً
عَزَاؤنا في سُهَيلٍ لاحَ أو لَمَعَـا

والسمة الثانية لشعر شاعرنا هي: التوغل في اليأس وارتداء الحزن وتسيد التشاؤم على بنات فكره، فلا يزال القارئ معه حتى يصل به كجثة على حافة العدم، وما يلبث أن ينفخ بصور الإرادة حتى تنشب نيران تحدٍّ يسفر من خلالها نور روح تطيح بقبر ذلك العدم، مستفتحا مهد حياة يتصل بما انقطع من عرى النفس ويجود بثنائيات ضدية مثلت معادلة حياتية تعد قانوناً تقوم عليه طبيعة مصير هذا الموجود. ودعونا نر شاعرنا يستحضر وجوده بعدمه ويستنبت فرحه بحزنه ويقتاد أمله بألمه، كل ذلك يبديه هذا النص الذي عنونه بـ(قافية الغياب):
 من أخمصِ الآهِ حتى قمة الألمِ
لم يبقَ متسعٌ للحُلْمِ في وطني
سوى أراجيحِ ذكرى تقتفي أملاً
يا ليتها لمْ تعدْ يوماً لتخبرَني
العيشُ مضيعةٌ للعمرِ يا ولدي
هنا كأنَّك لن تحيا ولمْ تكنِ
فها هُنا الوطنُ المصلوبُ في جسدي
وبقعةٌ من بقايا الضوءِ تحرُسُني 
يا ليتها انطفأتْ كي أستريحَ غداً
أو أنَّها اشتعلتْ ناراً فتحرقَني
قالوا: هو اليمنُ الميمونُ يا ولدي
لا تخدعِ الناسَ أن الرغْدَ في اليمنِ
أما السمة الثالثة التي يزدان بها شعر شاعرنا ويمتاز بها عن شعر سواه فهي المغايرة للمألوف والسعي وراء كل ما صعبت طرقه ووعرت مسالكه، واشتدت أهواله. حتى على مستوى العشق، فإن شاعرنا لا يعلق قلبه بحبال أنثى زاخرة بالجمال تبعث على الهدوء وتستجلب السكنى والطمأنينة تمثل في ثبات كل ذلك منها ما تمثله الوردة من حيث دوام حالها على مكان وشكل واحد بل يحب ويعشق أنثى شاعرة، حاله معها حال قارب صغير كلما توغل في حبها استبدت به أمواجها وكاد أن يهلك لولا مدار نضج ثوري جنح إليه وصومعة عشق سرمدي يلازمها. وهنا يقص علينا قصته مع معشوقته الشاعرة كما يبديها هذا النص:
إنْ شئتَ أن تحيا بروحٍ ثائرَةْ
فاغزُ الهوى أغوارَه ومخاطرَه
دعْ ما سواها واحتفلْ في قيدِهَا
وَلَرُبَّ مأْسورٍ محبٍّ آسرَه
لو أنَّ في يدِها الهلاكَ لقُلْتُ لي:
حيناً يموتُ المرءُ يعشقُ واترَه
فلْينتقِيني الليلُ سجدةَ عابدٍ
وأنا على محرابِ أنثى شاعرَةْ
أنا في هواها, المدُّ أغرقَ مركبي
وتجارتِي في الريحِ -أعرفُ- خاسرَةْ
تلوينةُ التفاحِ محضُ غوايةٍ
وعدالةُ الزيتونِ جداً جائرَةْ
هي مكرُ هذا الليلِ في نزواتِهِ
وسماءُ شهوتِها السحابُ العابرَةْ
لو يبتدي قلمي الوصولَ لحبِّها
تتلو على سِفْرِ الودادِ أواخرَهْ
أوَ كلَّما ألجمتُ حرفَ مودتي 
جاءتْ بكل حروفِها لتناوِرَهْ
وإذا تهادى الموجُ تركبُ بحرَهُ
لو يستحيلُ الشِّعرُ تصبحُ ناثرَةْ
بلْ حينما لملمتُ قلبيَ عاثِرَا
تأتي لتبعثَ شوقَهُ وتُناثرَهْ
إن قلَّ فيه النبضُ تُحيِي صَبْوَهُ
تروي له قصصَ الهوى مُتواترَةْ
أوَ كلَّما تنوي الرحيلَ قوافلي
جاءتْ تفضُّ الهجرَ أرحمُ زائرَةْ
وكأنها عبرت مجراتِ 
الضَّلالِ هدايةً 
حتى تقصَّ أظافرَهْ
لكنَّها لم تُبْدِ كُنْهَ ودادِها
لو يبتديها الوجدُ تكسرُ خاطرَهْ
إنْ يبكِها تشرينُ تعلِنْ صحوَهُ
وتخافُ من غيمِ الشتاء محاذِرَةْ
مجنونةٌ حدَّ الوقارِ لعوبةٌ
وحصيفةُ الأفكارِ أنثى ثائرَةْ