بشرى الغيلي / لا ميديا -
عالمهن مليء بالدهشة وأنت تحاورهن، ولا تشعر بأي اختلاف بينهن وبين المبصرات، بل إنهن غيرن نظرة المجتمع القاصرة تجاه الكفيفة بأنها إنسانة قادرة ولديها قدرات وإمكانات وهبها الله إياها، وحياتهن مليئة بالصعوبات والمعوقات التي واجهتهن في بيئاتهن المختلفة سواء الدراسية، أو الجامعية، وكيف ذللن تلك الصعوبات حتى ما بعد تخرجهن والبحث عن وظيفة تؤمن لهن العيش الكريم، لنرى كيف تجاوزن الإعاقة البصرية وتربعن على أعلى عروش المسؤولية بجدارة واقتدار وباتت بصماتهن مشرقة وبهية، وجمعية الأمان التي أخذت بأيديهن ومتابعتهن أولا بأول لتدمجهن مجتمعيا في مختلف تفاصيل الحياة اليومية.
«لا» زارت جمعية الأمان لرعاية الكفيفات والتقت هناك الأخت تيسير مطر، المسؤول الاجتماعي في الهيئة الإدارية، ومسؤول المناصرة في إدارة الإعلام التابعة للجمعية، التي وضعت النقاط على الكثير من الحروف، كما التقت بنماذج ممن كان لهن بصمات رائعة بعد تخرجهن من الجامعة وكيف صمدن أمام التحديات والصعوبات التي رافقت دراستهن الجامعية.. فإلى السياق.

معوقات بالجملة
البداية مع ليزا الكوري (بكالوريوس إعلام ـ تخصص علاقات عامة ـ موظفة في إدارة العلاقات بشركة بترومسيرة العامة).. تقول: «أبرز المعوقات التي واجهتني أثناء الدراسة الجامعية حتى حصلت على وظيفة تتمثل في صعوبة الحصول على وسائل تعليمية وملازم مسجلة بالصوت وضرورة متابعة المحاضرات أولا بأول. أيضا عدم التعاون من إدارات بعض الأقسام في الجامعة بتفهم وضع الكفيف، وبعض الدكاترة يقول للكفيف: أنت مثل المبصر طالما دخلت الجامعة ما عندك أي مشكلة، لكن بالمقابل هناك دكاترة يتعاملون مع الكفيف برحمة وشفقة لدرجة أنهم يجعلونه شخصاً اتكالياً، وليس على مستوى المكان المطروح فيه».
وتطالب الكوري الجامعة بأن تتعاون مع الكفيفين بأنهم قادرون إلى أن يصلوا لنفس الأماكن التي وصل لها الأشخاص المبصرون مع مراعاة إمكانيات خاصة.
وتضيف: «ومن المعوقات التي تعانيها الكفيفة عدم تعاون الأسرة، وحديثي بشكل عام، لأن أسرتي كانت داعمة لي بشكل كبير في مسيرتي التعليمية وفي حياتي بشكل عام، وهذا الذي جعلني أستمر وأنجح وأتقدم وأتميز».

تحديات ما بعد التخرج
وتستطرد الكوري: «من المعوقات التي تواجه الكفيفة بعد التخرج، هي أنها بحاجة إلى قدرات أو خبرات معينة قد لا تكون متوفرة لديها بعد التخرج مباشرة وهذا يؤخر حصولها على وظيفة، هذا جانب، الجانب الآخر عدم تقبل جهات أو بعض المنظمات توظيف الكفيفات أو الأشخاص ذوي الإعاقة وهذا يشكل للكفيفة تحدياً بعد التخرج: أين أروح؟ ماذا أعمل؟».
فتجيب على تساؤلها: «أعود لجمعية الأمان للكفيفات أعمل 15 أو 20 سنة لأثبت جدارتي وأبني نفسي في مجال تخصصي، وهذا أيضا يشكل تحديا للطالبة الكفيفة بعد التخرج».
وتوجه في ختام حديثها رسالة لمنظمات المجتمع المدني بالتعاون مع الأشخاص ذوي الإعاقة بتوظيفهم وإتاحة الفرص لهم بأن يكونوا أشخاصاً فاعلين، ليستمروا بعطائهم للوطن والمجتمع.

 يجردوننا من الأحاسيس والمشاعر
أشواق الأشول (أخصائية اجتماعية بمعهد الشهيد فضل الحلالي)، تقول: «من أبرز الصعوبات والمعوقات أنه لا يوجد منهج مقروء بطريقة الخط البارز (برايل)، فتولت جمعية الأمان طباعة هذا المنهج وتوفيره لكل كفيفة. الصعوبة الأخرى جهل المجتمع للتعامل مع الكفيفة، فالمجتمع بشكل عام عندما يواجه المعاق أيا كانت إعاقته (أصم أو أبكم)، يتم التعامل معه كأنه إنسان لا يملك أحاسيس أو مشاعر ولا يفهم.. كذلك صعوبات التعليم الجامعي في المناهج لأننا نعتمد على المناهج المسموعة وكل دكتور يغير المادة وتكون تكلفتها كبيرة في حال قمنا بطباعتها».
وتتحدث الأشول عن تجربتها في التعامل مع المنهج بالقول: «كنت أطلب من زميلاتي أن يقرأن لي المحاضرات، وكنت أجد صعوبة في ذلك. أيضا ضعف التعاون بين الطالب الكفيف والدكتور أو عدم فهم احتياج الكفيف».
وتضيف بغصة: «من الصعوبات عدم وجود كاتب خاص يكتب الأجوبة في قاعة الامتحان للكفيف سواء كانت النصفية أو النهائية، تخيلوا المبصر يدخل القاعة ويستلم ورقة الامتحان ويحل الأسئلة ويغادر القاعة، بينما الطالبة الكفيفة تنتظر ما يقارب الساعة أو أكثر حتى تأتي من تكتب الأجوبة».

اتهام بالتخابر!
وتسرد أشواق موقفا محزنا واجهته في قاعة المحاضرات، حيث تقول: «في إحدى المرات طلبت من الدكتور أن أسجل محاضرته لعدم وجود من يسجلها، فقال لي: أنتِ تشتغلين استخبارات؟!، فاندهشت أن يكلمني دكتور أكاديمي بهذا المنطق. ومن يومها لم أسجل أياً من محاضراته وبحثت عن حلول أخرى».
ومن الصعوبات التي تواجهها الكفيفة حين تخرج مع عائلتها أو صديقاتها فإن بعض الناس ينظرون لها كمتسولة للأسف الشديد أو أنها إنسانة خالية من المشاعر والأحاسيس والقدرات، ويتم التقليل من شأنها، بحسب أشواق.
المواصلات وبعد مكان الدراسة عن المنزل، هي مشكلة إضافية للكفيفة، تجبرها على البحث عن مكان شاغر في السكن الجامعي، لكن المسؤولين عن السكن الجامعي يرفضون استقبال الكفيفات إلا بصعوبة رغم أن الجمعية هي من توفر لها كل شيء.
وتضيف الأشول: «ومن الصعوبات تقييد الطالبة الكفيفة بأقسام محددة فقط، وإذا أرادت أن تدخل غيرها يتم رفضها، حتى عندما تتقدم لعمل ينظر إليها أنها بلا قدرات ولا إمكانات، ولا يتم إتاحة الفرصة لها».

نظرة دونية يجب تغييرها
رسالة الشوكاني (كلية الإعلام ـ جامعة صنعاء) تقول: «فقدت بصري وعمري سنتان بسبب المرض، وكنت في عائلة بسيطة على قدر حالها في قرية نائية، كان هناك أستاذ كفيف يمر من أمام بيتنا، وكلما مر كنت أسأله: يا أستاذ عبدالله كم الساعة؟ فقد كان لديه ساعة باللمس؛ بطريقة «برايل»، وكنا كأطفال نلعب بها من باب الفضول، وعرف حينها أنني مهتمة بكل شيء فنصح أهلي بأن يدرسوني في صنعاء، فعارض الكثيرون وقالوا: كيف تسافر هذه العمياء وتدرس؟!».
وتضيف الشوكاني: «تغلبت على كل المعوقات، وسافرت مع والدي إلى صنعاء للدراسة والتحقت بسكن جمعية الأمان لرعاية الكفيفات، وعندما جاءت عائلتي إلى العاصمة انتقلت للسكن معها».
وعن أبرز ما واجهته من صعوبات، تقول: «أضاعوا ملفي في الجامعة لأني (عمياء) ولا يجدر بي أن أدرس، وبجهد جهيد وبعد أن هددتهم برفع شكوى لوزارة التعليم العالي وجدت بعض الوثائق وتمكنت من استلام بطاقتي الجامعية والتقدم للاختبارات».
وتحكي الشوكاني عن واحد من أصعب المواقف التي تعرضت لها أثناء دراستها الجامعية، تقول: «كان أحد الدكاترة يعاملني بدونية، ولا يعيرني أي اهتمام إذا رفعت يدي للمشاركة أثناء المحاضرة، فاتفقت مع زملائي على إعداد بحث مشترك، على أن أكون خلفهم أثناء تقديم العرض، فقدمت مع إحدى زميلاتي شرحاً عن الكفيف ودوره في المجتمع، وحين اكتشف أني الفتاة التي كان لا يهتم لأمرها تغيرت نظرته تجاهي.
وتختم: «في البداية لم تقبلني أي وسيلة إعلامية وخاصة الإذاعات، وبعد واسطة قبلتني إحداها، لكنهم كانوا يهضمونني في حقوقي ويطلبون الدعم لبرنامجي دون علمي، ومع ذلك صمدت عامين لكي أكتسب خبرة عملية، بعدها توقفت وبدأ اليأس يدب في نفسي، لكن الله عوضني خيرا، فقد حصلت على عمل في أحد البنوك، والحمد لله أحظى بمعاملة جيدة من قبل جميع زملائي الذين وثقوا بي وبقدراتي بعكس من يستغلون المعاق ويطلبون الدعم باسمه دون علمه».

مركز خدمة المكفوفين في الجامعة
تشير دنيا مصطفى العبسي (أمين عام المركز الثقافي للمكفوفين بجامعة صنعاء)، إلى أن المركز تأسس عام 2008م بالشراكة بين جمعية الأمان لرعاية الكفيفات وجامعة صنعاء، والجمعية هي الممول والداعم الرسمي للمركز، ويعد أحد مشاريعها لإعانة الطالب الجامعي وتسهيل كل الخدمات له.
وعما يقدمه المركز من خدمات للكفيفات تقول العبسي: «أبرز ما يقدمه توفير الوسائل التعليمية للمكفوفين، منها اللابتوب وغيره من الوسائل، أيضاً توفير المقررات الدراسية، سواء كانت مسموعة أو مقروءة بطريقة «برايل»، وإقامة الدورات التدريبية في شتى المجالات، ودورات تخصصية ومتابعة المستحقات الأساسية للطالب في مختلف المجالات، وتسهيل المعاملات والكثير من الخدمات».
وتؤكد أن أبرز ما يواجه الطالب المعاق في المحيط الجامعي النظرة القاصرة التي إما ينتج عنها اهتمام مبالغ فيه، أو إهمال مفرط.
وتحلم العبسي الحاصلة على ماجستير علوم سياسية من جامعة صنعاء، بأن تكون أول وزيرة للتعليم العالي من ذوي الاحتياجات الخاصة، ليس ذلك فقط، بل إنها أعدت بالفعل خطة لسير عمل الوزارة ستقوم بتنفيذها في حال تحقق حلمها، حسب قولها.   

نماذج مجتمعية رائعة
تتحدث تيسير مطر عن بدايات تأسيس الجمعية الأمان لرعاية الكفيفات وسكن الكفيفات وتقول: «يعود الفضل إلى الأستاذة الراحلة فاطمة العاقل التي أنشأت معهد الشهيد فضل الحلالي للكفيفات، الذي يتولى مسؤولية الكفيفات من الروضة إلى الصف الخامس، ويقدم لهن الخدمات التعليمية من كتب مطبوعة بالخط البارز، ولدينا وحدة طباعة خاصة نطبع فيها منهج وزارة التربية والتعليم للكفيفات، وبعد الصف الخامس يتم دمج الطالبات في أقرب مدرسة قريبة من منازلهن».
وتضيف: «لكن، لأن هناك كفيفات موجودات في قرى بعيدة عن الجانب التعليمي، ولكي تأخذ الفتاة حقها في التعليم، تم عام 1997 إنشاء السكن الخاص بالكفيفات والذي كان يضم 60 طالبة من مختلف محافظات الجمهورية والمناطق الريفية البعيدة، وقد بدأ بعدد بسيط ثم أخذ العدد يتزايد فانتقلنا إلى مبنى آخر، كل ذلك مر بمراحل صعبة وكبيرة».
وتكشف عن أن هناك مدارس كثيرة ترفض استقبال الطالبة الكفيفة، «لأنهم متخوفون أن الطالبة الكفيفة ليس بإمكانها أن تتعلم، وأنها إنسانة تختلف عن الآخرين وتحتاج مجهوداً مضاعفاً من المدرسة، وهم يخشون من هذه الأعباء، لذلك يرفضون استقبالهن، فنقوم نحن بإشعارهم بالتسهيلات وأننا سنؤمن لهن وسائل خاصة بها تجعلها تواكب البقية في التعليم، فيبدأ تخوفهم بالتلاشي حين يجدون الطالبات يتفوقن على زميلاتهن ويثبتن وجودهن فيطلبون منا إحضار المزيد من هؤلاء الطالبات الكفيفات، والحمد لله سطرن أروع النماذج في المجتمع».

دمج الكفيفة
يصل عدد المتخرجات الكفيفات من جامعة صنعاء نحو 100 طالبة في كل التخصصات، وعن دمج الطالبة الكفيفة بعد إنهاء الثانوية في الجامعة وإجراءات التنسيق لها، تقول مطر: «بعد حصول الطالبة على شهادة الثانوية العامة، يقوم المركز الثقافي للمكفوفين بالجامعة بمهمة دمج الكفيفات في مختلف كليات جامعة صنعاء، ومتابعتهن وتقديم التسهيلات لهن، وأيضا للمكفوفين الشبان، حتى إذا كان هناك طلاب يميلون للالتحاق بالجامعات الخاصة فيتم متابعتهم حسب ميولهم ورغباتهم». وتستدرك بأن هذا الدمج يتم في الجانب الأدبي فقط ويتم الإعفاء في الجانب العلمي من الصف السادس حتى الأول الثانوي كالرسوم والخرائط والمسائل التعليمية بشكل عام، ثم بعد ذلك يلتحقون من ثاني ثانوي بالجانب الأدبي.

تخصصات أدبية
وعن نوعية التخصصات الجامعية التي تلتحق بها الكفيفات في الجامعة إن كانت نفس التخصصات التي يتم تدريسها أو تختلف عن باقي التخصصات؟ تقول: «تلتحق الطالبات الكفيفات في الجامعة بالأقسام الأدبية، وهذا الابتعاد عن الجانب الإحصائي والعلمي ليس لعجز الكفيف عن معرفتها، وإنما لعدم توفر وسائل تعينه على تعلمها».

عدم توفر الدعم
وتؤكد مطر أن أبرز الصعوبات التي تواجهها الجمعية تتمثل في عدم توفر الدعم والتمويل للنشاط المتوسع للجمعية، وتقول: «نقوم بتأمين الكفيفة في الجانب التعليمي، لكننا غير قادرين على تأمين الجانب الصحي، فمثلا: أنا إذا لم أستخدم قطرة العين كل 12 ساعة أعاني من صداع مستمر فيؤثر ذلك على ممارسة حياتي بشكل طبيعي، والجمعية تحاول قدر الإمكان أن تؤمن دعماً صحياً، لكن المشكلة أن هناك شحة في الأدوية أو أنها نادرة وأسعارها غالية ولا توجد بسهولة».

مغلق منذ 6 أعوام
أما السكن الذي كان يجمع 60 طالبة كفيفة من مختلف محافظات اليمن، فإنه مغلق منذ بداية العدوان على بلادنا، أي منذ 6 أعوام، تقول مطر: «قبل إغلاقه كان مأوى لهن، وبيتهن الثاني الذي يأخذ بأيديهن إلى طموحاتهن، أغلق وتوقفت خدماته بعد قصف العدوان للأماكن القريبة منه، وحتى الآن لم نستطع إعادته للعمل».
وعما كان يقدمه السكن من خدمات تقول: «كان السكن يقدم كل سبل الإعاشة للكفيفة وتهيئة الجو لراحتها وأخذ حقها في التعليم، الجانب الغذائي، والصحي، ووسيلة مواصلات تنقلها من السكن إلى المدرسة».

يتميزن بالمنافسة العالية
الدكتور محمد ناصر حُميد، أستاذ مساعد ـ رئيس قسم اللغةِ العربية بكلية الآداب جامعة صنعاء، يشيد في بداية حديثه بقدرات الطالبات الكفيفات الملتحقات بالقسم وما يتميزن به من منافسات عالية يشهد بها جميع أساتذتهن.
ويشير حميد إلى أن الكفيفات اللائي يلتحقن بقسم اللغة العربية قليلات جدا ولم أسمع واحدة منهن تشكو من أية صعوبات، سوى صعوبة الحصول على المقررات المسجلة، ومع ذلك فإنهن يستطعن تجاوز هذه المشكلة بدعم زميلاتهن ومن طالبات القسم، وهؤلاء لا يترددن بدعمهن، يضاف إلى ذلك جهود جمعية الأمان لرعاية الكفيفات في تذليل الكثير من الصعوبات.
بعد كل ما تم سرده أعلاه نختم ببيتٍ واحدٍ لإيليا أبو ماضي قال فيه الكثير:
ليس الكفيف الذي أمسى بلا بصرٍ
إني أرى من ذوي الإبصارِ عميانا