خـاص دمشق  - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
يمثل "مكتب عنبر" نموذجاً مثالياً للبيت الدمشقي، بمساقطه ومادته ولونه، كما عبَّرَ طرازه المعماري عن انفتاح دمشق على المؤثرات الفنية الخارجية، فيجد المتأمل عند زيارته لـ"مكتب عنبر" تأثير فن العمارة الغربي على الزخارف والنقوش والألوان والتفاصيل الدقيقة، المستوحاة من فني الباروك والروكوكو، اللذين كانا منتشرين في أوروبا في تلك الفترة، والمتصفين بالزينة المفرطة، والمزج بين ما عُرف عن الفن الأوروبي، والرقش العربي، المتعدد الأنواع والأشكال، ضمن قالب لم يتجاهل خصوصية دمشق المعمارية والاجتماعية، الغنية بالزخارف ذات الألوان الهادئة التي تشيع في النفس الراحة والبهجة.
يقع "مكتب عنبر" في حي الأمين، شرقي المسجد الأموي، الذي يصل باب الجابية بالباب الشرقي، في شارع يمتهن الحرف والصناعات اليدوية الشامية العريقة. ويتصل هذا الشارع بالشارع المستقيم، أو شارع مدحت باشا.
شغل مساحة مشابهة لمساحة قصر العظم. ويقال إن أصل ملكية البيت لعائلة القوتلي، وامتلكه فيما بعد تاجر يهودي اسمه يوسف عنبر أفندي، كان يعمل محاسبا لديها، لقاء مبالغ له على هذه العائلة.
يتألف من عدة بيوت كانت بالأصل مستقلة عن بعضها، اشتراها "عنبر" ثم ضمها في بيت واحد في النصف الثاني من القرن الـ19 (1872)، وأنفق على إنشائه آنذاك مبلغ 43 ألف ليرة ذهبية، كما يشير لذلك المؤرخ نعمان قساطلي في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء”.

البناء العمراني للبيت‏‏‏‏
"قصر عنبر" عبارة عن بناء مستطيل الشكل مساحته 5000 متر مربع، بعد أن ألحقت به دور مجاورة له.
يتألف البناء من أربعة أقسام، كل قسم يتألف من باحة (أرض ديار) تتوسطها بركة ماء، وتحيط بكل بركة أشجار مثمرة وحمضيات وورود وأزهار ولياسمين الدمشقي، وهناك أربعون غرفة وقاعة موزعة على طابقين.‏‏‏‏
من الباب الرئيسي تطل علينا فسحة صغيرة حولها أربع غرف، ثم باحة سماوية، وهي أوسع باحات المكتب. أما الباحة الثانية ففيها إيوان عال وواسع. ومن البهو يطل على الباحة خمسة أعمدة رشيقة من المرمر الأبيض، زينت الجدران كلها بزخارف، وحليت النوافذ بالحديد المزين بزخارف براقة، ذات رسوم وألوان. وفي الباحة الثالثة إيوانان من الشرق والغرب. وجدران الغرف في هذه الباحة مزينة بزخارف مرمرية نافرة ومحفورة برسوم جداريه كثيرة وسقوفها مزينة مع ما يتفق مع روح البناء العامة من جهة، ومع الطراز السائد في كل غرفة من ناحية أخرى.‏‏‏‏ أما القسم الرابع، والذي كان يعتقد أنه قسم الخدم، فتتوسط باحته الصغرى بركة ماء، وتحيط به غرف صغيرة، وفيه الباب الشرقي للخروج إلى الزقاق المجاور.‏‏‏‏

أقسام البيت
يقسم القصر من الناحية الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام، هي:
ـ جناح السلاملك: وهو الجزء الغربي من الدار وكان مخصصاً للضيوف.
ـ جناح الحرملك: مخصص لقاطني الدار، وينفرد بتصميم يؤمن الراحة وسهولة التجوال.
ـ جناح الخدملك: ويقع شرق جناح الحرملك، ويضم فسحة صغيرة ذات بحرة صغيرة، وإيوان صغير في الجانب الجنوبي منه مع حمام، بالإضافة إلى غرف كانت تستعمل كمطبخ.
أصبح "قصر عنبر" ملكاً للحكومة العثمانية قبل أن يكتمل بناؤه، سداداً لدين لها على صاحبه، وتم تحويله إلى مكتب سلطاني عام1887، وهو اصطلاح أطلقه العثمانيون على المدارس الابتدائية والسلطانية في سورية، حيث جرى افتتاحه عام 1886، ولذلك يعد "مكتب عنبر" أقدم مدرسة (ثانوية وإعدادية) ‏‏‏‏في سورية، ويدل على ذلك وجود لوحة خارجية حفر عليها: "مكتب إعدادية ملكية" ويعلوها الطغراء (الطرة) السلطانية للتفريق بين المدارس الملكية والمدارس العسكرية، الأولى خاصة بالمدنيين، والثانية تؤهل طلابها للالتحاق بمدارس الجيش العسكرية. ويشير الأستاذ مطيع المرابط إلى أنه لم يطلق على هذا المعهد رسمياً اسم "مكتب عنبر"، وإنما غلبت هذه التسمية العرفية الشعبية على الأسماء الرسمية التركية لصيغتها العربية السهلة، أو لأنها قد تكون سبقت التسمية الرسمية.

"مكتب عنبر" في العهود المختلفة
في العهد التركي، يقول المرحوم فخري البارودي في مذكراته ما خلاصته: "كان مكتب عنبر المدرسة الإعدادية الوحيدة في دمشق يومذاك، يتراوح عدد طلابها بين الـ500 والـ600 طالب، وكان الطلاب النهاريون يتعلمون مجاناً، والداخليون يدفعون أجرة مقابل النوم والطعام”. درس فيه القرآن الكريم، والعلوم الدينية، واللغة العربية، وترجمات من اللغة التركية واللغة الفارسية، وعلم الثروة (الاقتصاد) وعلم الفلك والجغرافية العامة، وجغرافية الولايات العثمانية، وتاريخ الدولة العثمانية، والحساب والجبر، والزراعة، والرسم، والخط، والكيمياء والفيزياء والميكانيك، وأصول مسك الدفتر، وطبقات الأرض، والنباتات والحيوانات، وغيرها”. وروى الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه "مكتب عنبر" ما خلاصته أن مدير المكتب عام 1912 شتم أحد الطلاب العرب بقوله: سيس آراب، أي عربي قذر، فأثارت هذه العبارة النخوة في رؤوس الطلاب، وقامت على إثرها فئة منهم بوضع خطة محكمة توزعوا فيما بينهم أدوارها، غايتها عزل المدير، وعلى الأثر حضر الوالي عارف المارديني إلى المدرسة، وكان عربياً، ولما تأكد له صحة حادث الشتيمة، عزل المدير وتم طرده بازدراء، فذهب إلى وزارة الداخلية في اسطنبول متهماً الوالي بتشجيع الطلبة على العصيان، والتي تعد أول انتفاضة ضد الأتراك، وبهذا يكون "مكتب عنبر" قد لعب دوراً في إثارة الروح العربية، وفي النضال ضد الأتراك الذين حاولوا طمس الهوية العربية، باتجاههم نحو سياسة التتريك.
ورداً على تلك السياسة، قام تلاميذ "مكتب عنبر" بتمثيل مسرحية طارق بن زياد، التي ألهبت ما يجيش في الصدور من شعور وطني، وعلى إثرها تصدى الطلاب لمدير المكتب التركي مصطفى ثابت. وبعد الحرب العالمية الأولى تولى الضابط المتقاعد شريف رمو الإدارة، ليكون أول عربي يشغل المنصب، ثم تلاه مصطفى تمر، فجودت الهاشمي، فمحمد علي الجزائري، فعبد الحميد الحراكي، فشكري الشربجي، فجودت الهاشمي مرة أخرى.
تحول المكتب السلطاني إلى مدرسة ثانوية في العهد الفيصلي 1918-1920، ليعد من أقدم المنشآت التعليمية في سورية (مدرسة التجهيز ودار المعلمين)، وفي طليعة ما عُرِب من المؤسسات، وذلك بفضل أساتذة عرب ساهموا في نشر العلم والثقافة باللغة العربية، وشاركوا في إذكاء روح القومية العربية، وبعث التراث العربي في الصفوف. وفي عهد الانتداب أثار وجود الفرنسيين بعد ميسلون حفيظة طلاب "مكتب عنبر"، فلم يهادنوا السلطة الفرنسية، ولم يدخروا فرصة إلا انتهزوها لمقاومتها.
افتتح قسم للمرحلة الابتدائية في عام 1930، لتشمل الدراسة فيه جميع المراحل. وفي عام 1935 تم انتقاء مجموعة مختارة من المعلمين، حاملي شهادة البكالوريا الثانية، لتأهيلهم كمعلمين اختصاصيين، وذلك بتدريسهم أصول التربية والتعليم وعلم النفس التطبيقي وغيرهما من العلوم النظرية والعملية، فأحدثت وزارة المعارف "صف المعلمين العالي" وجعلت مقره في مبنى "مكتب عنبر" وتم تعيين الدكتور خالد شاتيلا مديرا له.
في الأربعينيات، تحول المكتب إلى مدرسة للفنون النسوية. وأخلي عام 1974 ورمم وافتتح كقصر للثقافة العربية عام 1981، وأصبح منذ عام 1988 مقراً دائماً للجنة حماية مدينة دمشق القديمة.

دوره في التطور العلمي والاجتماعي والسياسي
يعد "مكتب عنبر" مركزاً علمياً ونضالياً، تخرج فيه خيرة رجالات السياسة والفكر في سورية وبلاد الشام، ومناضلي وأحرار الدول العربية المجاورة، الذين ساهموا في تغيير الفكر القومي في مجتمعاتهم، والذين لعبوا دوراً هاماً وإيجابياً في تاريخ النضال العربي ضد المستعمرين. ونذكر منهم على سبيل المثال:
ـ الرئيس شكري القوتلي (1819-1967):‏‏‏‏ تخرج في "مكتب عنبر"، وأتم دراسته في إسطنبول.‏‏‏‏
ـ حسني سبح (1900 - 1986):‏‏‏‏ ترأس الجامعة السورية. درس الطب وأسس مستشفى المواساة، وترأس مجمع اللغة العربية بدمشق 18 عاماً.‏‏‏‏
ـ وجيه السمان (1913 ـ 1992):‏‏‏‏ كان أديباً ومحبا للترجمة والعلوم. له عدد من الكتب العلمية، وأسهم في اكتشاف النفط واستثماره، وتبوأ منصب وزير للصناعة في فترة الوحدة مع مصر.‏‏‏‏
ـ جمال الفرا‏‏‏‏: أسندت إليه عدة سفارات ووزارات فأثبت كفاءته، وكتب في أكثر المجلات شهرة، وله عدد من الكتب، ضمنها ذكرياته وخواطره‏‏‏‏.
ـ رياض العابد: كان عضواً فعالا في الكتلة الوطنية، وانتخب رئيسا ونقيبا للمحامين.
ـ نسيب البكري (1884 ـ 1966‏‏‏‏): كافح الاستعمار التركي ثم الفرنسي، وشارك في الحكم الوطني في عدة وزارات.‏‏‏‏
ـ محمد عربي الأسود (1904 ـ 1999‏‏‏‏): عمل في جميع مراحل التعليم معلماً ومفتشاً ومديراً لتربية دمشق وبيروت والسويداء، وشارك في تأليف الكتب المدرسية.
ـ بدوي الجبل (1905- 1988‏‏‏‏): عاشق دمشق المتيم، وهو أحد عباقرة الشعر في القرن العشرين، ووصف بمتنبي العصر.‏‏‏‏
ـ زكي المحاسني (1909- 1972‏‏‏‏): العالم والأديب والشاعر والناقد. أكمل دراسته الثانوية في "مكتب عنبر”. كان شاعراً مجيداً يرتجل الشعر ارتجالاً. ألف 71 كتاباً. وله كتب مخطوطة.‏‏‏‏
ـ سعيد الغزي (1893 - 1967‏‏‏‏): تلقى علومه الأولى في "مكتب عنبر"، ثم درس الحقوق في اسطنبول. أجاد اللغة التركية والفرنسية. تتلمذ على يديه كبار المحامين البارزين في دمشق، وكان عضواً في الجمعية التأسيسية التي وضعت أول دستور سوري عام 1928. تولى عدة وزارات، ثم رئيساً للوزراء عام 1954.‏‏‏‏
ـ نزيه الحكيم (1921 - 1993‏‏‏‏): عمل سفيراً. أصدر مجلة "الصباح" التي حققت نجاحاً كبيراً في العلم والمعرفة. شارك في إصدار جريدة "الرأي العام"، ثم أصدر جريدة "الوحدة العربية"، وله عدة مؤلفات وترجمات وكتب.‏
- جودت الهاشمي (1887 -1955) الذي عين عام 1918 أستاذاً للعلوم الرياضية في المكتب، ثم عين مديراً له، ثم أسندت إليه إدارة التجهيز الأولى. تولى مناصب عديدة، منها أميناً عاماً لوزارة المعارف. ألف كتباً عديدة في الرياضيات باللغة العربية، فكانت كتبه نواة لما جاء بعدها.‏‏‏‏
حسن كامل الصبّاح (1894-1935‏‏‏‏): اكتشف النقل بالصورة (التلفاز) وحاول تحويل الصحارى العربية إلى مدن عامرة. له 76 اختراعاً واكتشافاً. ولد في بلدة النبطية في لبنان، وتابع تحصيله العالي واكتشافاته في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم اغتياله فيها وهو في طريقه إلى المطار للعودة إلى بلده. عيّن أستاذاً للرياضيات في "مكتب عنبر"، ثم معاوناً لمدير المكتب، ثم غادر دمشق بعد الاحتلال الفرنسي لسورية 1920، واستشهد بمؤامرة لقتل النبوغ العربي.
ـ الدكتور فيصل الصباغ (1919-2005): من نوابغ خريجي "مكتب عنبر"، وواحد من أكبر المساهمين في نشر العلوم الطبية المتعلقة بالجراحة العصبية والطب النفسي في الوطن العربي والعالم. لقب بأبي الجراحة العصبية. مؤسس أول قسم للجراحة العصبية في سورية. له مواقف إنسانية جليلة في مجاله، وله أيضاً عدة مؤلفات طبية مازالت تُدَرس في كلية الطب في دمشق، بالإضافة إلى دراسات أخرى بلغات متعددة.
حمل العديد من أساتذة وخريجي "مكتب عنبر" لقب "شهيد"، إذ سقطوا أثناء مشاركاتهم في ثورات بلاد الشام ضد المستعمرين والمغتصبين.

خاتمة:
"مكتب عنبر" موقع شارك في صنع التاريخ من دمشق، فأصبح منارة أنارت سبل طالبي العلم والمعرفة. تخرج فيه ألوف الطلاب والأساتذة، ممن نبغوا في مجالات الحياة المختلفة، كالأدب والشعر واللغة العربية والعلوم.
ساهم في إنقاذ اللغة العربية من التتريك‏‏‏ والفرنسة، واستطاع بأساتذته وطلابه أن ينهض بالمجتمع الدمشقي، والسوري والعربي عموماً، في حقبة تاريخية كانت مثخنة بالتخلف والفساد، بالإضافة إلى كونه منبراً نضالياً سمعت رحابه أوائل صيحات الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، فكان خير دار للعلم، وأرقى منبر للنضال.

المصادر والمراجع:
ـ محمد كرد علي: "خطط الشام”.
ـ ظافر القاسمي: "مكتب عنبر”.
ـ مطيع المرابط: "النور والنار في "مكتب عنبر”.
ـ فخري البارودي: "مذكرات”.
ـ علي الطنطاوي: "ذكريات”.
ـ زكريا كبريت: "البيت الشامي”.
ـ دار الوثائق التاريخية ـ بدمشق.