دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
أثارت تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر، الذي اشترط لسحب القوات التركية من سوريا، وضع دستور جديد لسوريا، وإجراء انتخابات حرة، التساؤلات حول الكثير من القضايا، التي تتجاوز العلاقات السورية التركية، لتطال قضايا إقليمية وعالمية، والتساؤل الأهم، هو حول دور تركيا أردوغان في المنطقة، بعد التغيرات الكبيرة، التي فرضتها عملية «طوفان الأقصى»، وتداعياتها في المنطقة
 والعالم.
فوضع تركيا لهذين الشرطين، هو رفع للسقف في المواقف التركية من الوضع في سورية، ويمكن أن يعتبر الرد التركي، على شرط دمشق بسحب أنقرة لقواتها من الأراضي السورية، كشرط لا يمكن التنازل عنه، لتطبيع العلاقات بين البلدين.
ومن الطبيعي، أن دمشق ترى في مواقف أنقرة، تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، وتؤكد دائماً أن موضوع الدستور شأن سوري داخلي، وهو حق حصري للشعب السوري، لا يحق لأحد التدخل فيه نهائياً.
من المؤكد، أن موقف تركيا الاستفزازي هذا، لا يتعلق فقط بالملف السوري، بقدر ما يتعلق بالتطورات المتسارعة في المنطقة، ومحاولة تركيا العودة إلى الأضواء، ولعب دور مركزي في أحداث المنطقة، بعد التراجع الكبير لهذا الدور، بعد الفشل الذي مني به تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان لتركيا الدور الأساسي فيه، وكان الرئيس رجب طيب أردوغان، يتولى فيه دور نائب المدير التنفيذي للمشروع.
إضافة إلى الانكسارات، التي حصلت للمواقف والسياسات التركية، بعد فشل أمريكا وحلف الناتو ومنه تركيا، في صد وإفشال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أما الفشل الأكبر، فكان بعد عملية «طوفان الأقصى»، والعدوان «الإسرائيلي» على الشعب الفلسطيني، وانفضاح دور تركيا، في دعم العدو الصهيوني، وتقديم المعونات الاقتصادية ومشتقات الطاقة، ومساعدته في الالتفاف على المساندة اليمنية للشعب الفلسطيني، عبر منع خطوط الإمداد له، عبر البحر الأحمر وتنامي دور إيران ومحور المقاومة، الذي يناصبه أردوغان العداء.
تراجع دور تركيا، والانتكاسات الكبيرة في مواقفها الخارجية والداخلية، وجدت تعبيرا عنها في استبعاد تركيا، من العديد من التحركات، وتحالفات المنطقة، منها مشاريع الطاقة في المنطقة (منتدى غاز شرق المتوسط) وحلف النقب، ووصولاً إلى مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي -الأوروبي إضافة إلى الخسارة التي مني بها، في الانتخابات البلدية الأخيرة.
هذه الانتكاسات المتلاحقة، في موقع وموقف تركيا، شكلت حافزاً لدى أردوغان، لمحاولة العودة للعب دور مركزي، في قضايا وملفات المنطقة، لكن هذا من غير الممكن، أن يتم بدون أن ينال تكليفاً أمريكياً و«إسرائيلياً».
من مراقبة المواقف والتحركات الأخيرة لأردوغان، وأركان حكومته، يمكن أن يستنتج بكل سهولة، أن أردوغان يسعى للعب هذا الدور، ولا يمكن النظر إلى مواقفه الأخيرة، من الملف السوري، إلا من هذه الزاوية، كما يمكن ملاحظتها، في العديد من المواقف أبرزها:
- محاولة الدخول إلى تطورات في فلسطين المحتلة، من خلال تقديم نفسه كأحد الضامنين، لأي اتفاق، قد يعقد بين المقاومة الفلسطينية، والكيان الصهيوني.
- محاولة ضم حماس تحت جناحه من جديد، عبر تقديم ملجأ لقادتها، وتحديدا إسماعيل هنية، وخالد مشعل، بعد معلومات عن نية قطرية، بوقف استضافتهما في الدوحة.
- الزيارة التي قام بها أردوغان لمصر السيسي، رغم المواقف المتشددة، التي كان يدعيها سابقا، ضد الرئيس السيسي، الذي قاد الانقلاب على الرئيس الإخواني محمد مرسي، حليف أردوغان، والتي لا يمكن النظر إليها، إلا أنها تمت بضوء أخضر أمريكي -«إسرائيلي»، للتشبيك بين النظامين التركي والمصري، المساندين للكيان الصهيوني.
- الزيارة التي قام بها للعراق، وتوقيعه على 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم، في مجالات أمنية وعسكرية واقتصادية وتجارية، ولكن الموضوع الأهم كان مشروع طريق التنمية، الذي يربط الخليج بتركيا عبر العراق، والأعين من هناك، تتجه إلى طهران ودمشق.
- الحديث عن نية تركيا، نشر منظومات S 400، التي اشترتها من روسيا، على الحدود مع العراق، قبيل عمليتها العسكرية، التي تنوي القيام بها، ضد حزب العمال الكردستاني، والتساؤلات عن مبررات هذه الخطوة، باعتبار أن حزب العامل الكردستاني، لا يمتلك طيرانا يستلزم نشر هذه المنظومة، وهذا ما أثار تأكيدات بأن الخطوة التركية، التي جاءت بعد العملية العسكرية الإيرانية، ضد الكيان الصهيوني، ترتبط باحتمالات المواجهة بين إيران و«إسرائيل»، وليس بحزب العمال الكردستاني.
بالتأكيد هذا الدور الجديد، يتطلب إعادة تلميع صورة تركيا وأردوغان، وهو ما ظهر واضحا، في محاولة أردوغان استعادة مشهد دافوس، عندما انسحب بشكل مسرحي، من نقاش مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيرز، وكانت هذه الصورة إحدى مقدمات «الربيع العربي»، ودور تركيا -أردوغان فيه، فكان قراره الاستعراضي بوقف التجارة مع «إسرائيل»، بعد أكثر من سبعة أشهر على عملية «طوفان الأقصى»، والمساعدات غير المحدودة، التي قدمتها حكومته للكيان «الإسرائيلي»، وادعائه بأنه سيرسل سفنا لكسر الحصار على غزة، على غرار سفينة مرمرة، التي أرسلها لفك الحصار عن قطاع غزة عام 2010.
كما قامت الحكومة التركية، بدعوة رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية لزيارتها.
ويلاحظ أن الإعلام التركي، الممسوك من قبل حكومة أردوغان، يواكب هذه التحركات، بزيادة وتيرة تغطيته للأحداث في غزّة، حتى باتت المادّة الرئيسية في الإعلام التركي، وفي تصريحات المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان.
كل هذه التطورات، من الطبيعي أن تنعكس سلباً على العلاقات السورية التركية، وعلى محاولات تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو ما وجد ترجمة له، في تصريح وزير الدفاع التركي، وعبر عنه بكل وضوح، وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، بتأكيده قبل حوالي شهرين، «استحالة التطبيع بين دمشق وأنقرة، بسبب الظروف الحالية».
ومع الموقف التركي المتشدد، من الملف السوري، ومع التطورات الجديدة والمتسارعة، في المنطقة والعالم، يبقى السؤال مشروعا، عن مدى نجاح المساعي التركية، في تنفيذ التكليف الأمريكي -«الإسرائيلي» الجديد، والعودة للعب دور رئيسي، في ملفات وقضايا المنطقة.
الجواب على هذا السؤال، لا يمكن فصله عن التطورات في قطاع غزة، وفي المنطقة عموماً، لكن ما يمكن تأكيده، أن الأوضاع اليوم، تختلف كثيراً عن العام 2011، مع انطلاق «الربيع العربي» الذي وضع تركيا وأردوغان، وسط الأضواء المبهرة، لكن هذه الأضواء اليوم، تبدو إما مطفأة، أو خافتة، أو أنها اتجهت باتجاهات أخرى، فمشاريع أخونة المنطقة، والعثمانية الجديدة، باتت في خبر كان، وتذبذبات أردوغان، أفقدت تركيا مصداقيتها، عند الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وأسياد أردوغان في واشنطن و«تل أبيب»، في أزمات وجودية صعبة وعميقة، وأنظمة التطبيع، شركاء أردوغان في دوره الجديد، في وضع لا يحسدون عليه، وفي الجانب الآخر، محور المقاومة يتقدم، ويفرض شروطه، واليمن غير توازنات القوى، في كل المنطقة، وروسيا تتقدم، وتحقق انتصارات في أوكرانيا، والصين تبدو في وضع مريح، وهي ترى أمريكا تغوص في مستنقعات غرب آسيا، وكل هذه التطورات، لا تسر نظام أردوغان، ولا تعمل لصالح دور تركيا، في المنطقة والعالم، وهو ما يجعل محاولات استعادة صورة العام 2011، ضرباً من المستحيل، ويجعل التساؤلات مشروعة، حتى عن قدرتها على اللعب في الهوامش مستقبلاً.