د. محمد النهاري / لا ميديا -
سأخصص هذا اللقاء لباقات من أكمام الشعر العامي الذي قد يتجاوز ‏أحياناً حدائق ذات أكمام من الشعر الفصيح الذي هو أخ «لزم» ‏للعامي، لصاحبه الأستاذ الشاعر الأسطورة عبدالله عبدالوهاب ‏‏»الفضول».‏
ومن الذكر كأول ملاحظة في هذه الباقات أو الأكمام أن تقرر وأنت ‏تنظر في هذه الباقات أو الأكمام أنك عندما تقرأ «الفضول» فصيحاً ‏أنه يجلب عليك بخيله ورجله، في لبوس كهنة الشعر القديم، ‏مستحضراً -بخاصة- أرواح كبار كالمتنبي والمعري وأبو فراس، ‏كما لو كان شعره آلات موسيقية نحاسية تشبه النشيد الوطني الذي ‏تقوم له إجلالاً مفعماً بالاعتزاز، بلغة تنقلك إلى تاريخ الأمجاد. أما ‏عندما يهديك «الفضول» باقة عامية فإنه يتلو عليك آيات من السحر ‏الذي ينيمك مغناطيسياً ليرحل بك إلى عالم فردوسي بهيج‎!‎
من خصائص شعر «الفضول»: «تعمية» الفصحى وتفصيح العامي، ‏لتخرج لغة لذة للسامعين، يستروحها الشجي ويستعذبها الغوي ‏المبين‎.‎
إن فن النقد الأدبي هو فن تمييز الأساليب - بحسب مندور. وعند ‏الإجراء أضيف عبارة عن تعريف آخر، وهو أن للمبدع أن يقول، ‏وللناقد أن يسأل ماذا قال. وإذا كنا قد فهمنا أن مسألة التجربة ‏الشعرية هي العنصر المهيمن في النص الأدبي، فإن التجربة ‏الشعرية لدى «الفضول» واضحة كالضحى في شعره العامي كما في ‏شعره الفصيح، نجد «الفضول» محايداً يتملّق المتلقّي، وفي شعره ‏العامي نجده ينحاز للكل، فيسحرهم ويفتنهم، فيكاد المتلقي يستخف ‏جسده ليطير، ففي الشعر العامي يمنحك إحساساً بأنك جزء من ‏تجربته، بل من عاطفته أو لازمة من موسيقى لحنه العذب الجذّاب:‏
لك أيامي وشوقي وحنيني
لك آهات فؤادي وشجوني
أنت روحي، أنت ما لملمته
من منى العمر وأحلام سنيني
في أحاسيسي وفي نبض دمي
لا أرى بعدك إلّا عدمي...‏
هذا العاشق المحب المفتون قد وضع ذاته تتعبّد في محراب الحب ‏الذي من صنف حلول الذات في الآخر، في حميمة سافرة‎.‎
آه يا عيوني أنت إلهامي وأنغامي تغنيني هواك
آه يا جنوني أنت أحلامي وقد ندّيت عمري من نداك
وأنت من ريحنت أيامي وقد أسقيت أزهاري شذاك...‏
والحبيب شغله الشاغل، ففي كل منعطف من حياته لا يكاد هذا ‏الحبيب يفارقه لحظة، بل تبعث هذه الذكريات في نفسه مشاعر ‏صادقة تحرّك مواجيد الشجن الحزين‎:‎
أذكرك والليالي غامضات النجوم
والسما مستضيفة ساريات الغيوم
ألم ترعك هذه الصورة وتأخذك إلى عالم سماوات من الفرح البهي ‏وترسلك إرسالاً إلى زمن الفتنة الساحرة؟!‏
من يقف من النقاد عند بنية الصورة عند «الفضول» سيلحظ أنه لا ‏يقرأ حروفاً مسطورة برسم ومداد؛ ولكن هذه الصورة تتخطى ‏الشكل المرسوم والحبر المكتوب، تتثنى كما يتثنى الربيع مزهواً ‏بأوراده، وكما تتثنى الفتاة الشرود في مسرح عرض الأزياء‎!‎
طاب البلس وا عذارى طاب هيا صبحونا بلس
والفرسك اخضر حالي
فراسكك وا صبر لا ما تسبب ضرس
ونلاحظ أن موضوعات شعر العامية عند «الفضول» تشكل فهرساً ‏لموضوعات شتى، وكل موضوع عنوان مستوفى، موضوع ‏اجتماعي، طقس عرس‎:‎
رشوا عطور الكاذية
على العروس الغالية
وعوَّذوها بالنبي
وادعوا لها بالعافية
صفوا الصفوف
دقوا الدفوف
شلوا الزفوف العالية
زفوا وحفوا للجميل
أحلى ورود الرَّابية
وإذا كان هذا المشهد بداية من مساحة كبيرة، فإن الكاميرا تنتقل إلى ‏التقاط مشهد آخر، هو وصف لمّاح لجمال العروس‎:‎
يكفي عريسك يا عروس
هذي العيون الساجية
تسوى وتستاهل إذا
عد الألوف الوافية
ويصور الشاعر عادة شعبية، وهي تعويذة الحسد وطرد الشياطين‎:‎
مرحباً بك وا زين الشباب
طاب عيشك بالمسرات طاب
عليك من الحساد ألفين حجاب
معلقة فوق كل طاقة وباب
‎ ‎والنص السابق بما فيه من تصوير ثقافة عامة، فإن هذه الثقافة تأخذ ‏منحى مباشراً وهو تصوير الجمال بالحركة‎:‎
دقّ القاع دقه
لا تمشي دلا
دق القاع دقه
ما دامك حلا
واعمل لحسنك حرز خوف العيون
واحرز معك عقلي فحسنك جنون
تمشي كأن الأرض ملكك لا سواك
وكبرياء الحسن تمشي معاك
ملحن الخطو كأن في خطاك
ترنيم مغنى من أغاني صباك
ومن تصالح مع الظروف وتقابل مع نفسيتين بالوقت نفسه يمتاز ‏شعر الفضول فصيحاً وعامياً يعزم أن يرميك من شفا جرف هار، ‏وإذا به يتلقفك لتهبط بسلام، ولننظر هذين النصين‎:‎
طال الفراق وانا إليك مشتاق
صابر وصبري يا حبيب قد ضاق
أضمأ وتُسقيني الحياة أشواق
واضحك نفاق والقلب ملؤه احراق
أين الحنان خليتني مُضيع
أشتي أمان من تحت دارك اجزع
شاعاتبك عتاب قلب موجع
وارش طريقك بالدموع وارجع
ورغم ما صنعه حبيبه فيه إلّا أنه يغادر هذا الوجع فيعود إلى حبيبه ‏من جديد‎:‎
ظنيتني شانساك خاب ظنّك
أمسي وأحلامي يعاتبنك
واصبح وأشواقي يعانقنك
واسمع دموعي يسألين عنك
وإذا به يبلغ الذروة مع حبيبه اتحاد وحلول مطلق:‏
أصبحت أنا كلك وأنت كلّي
فأين تولي أنت وأين أولي
ما اشتيش وطن ولا أهيل يقع لي
حبك وطن قلبي وأنت أهلي
‎ ‎هي هذه الموسيقى الموقّعة، وهذه هي النسب الإيقاعية المتساوية، ‏ويولدها هذا اللون الرائع من البديع، وهذا النغم المنحدر من المقابلة ‏المعنوية تتولد من ثقافة مكتسبة أصيلة‎!‎
أنت إذن أمام سيناريو نقل المشاهد المكونة من أجزاء الصورة، ‏فتبث فيها حياة فاعلة مدهشة.‏
ونضيف ملاحظة تقع ضمن الخصائص الفنية في شعر «الفضول»، ‏عاميه وفصيحه، وهي الحوار أو تعدد ذوات الشاعر، فيخلق ذواتاً ‏أخرى بغية أن يبعث في النص واقعية حية وغالباً طافحة بالحزن ‏الغامق‎:‎
قلبي يسائلني عليك أين انت؟
أين الحب؟ هل عادك حبيب؟‎!‎
واسمع لنبضي في دمي أنّات
تسألني لماذا لا أجيب؟
وانا وأشجاني وأطياف الندم
أشرب ندى عيني وأقتات الألم
وامشي بلا دنيا وأحيا في عدم
تبكي معي أعماق روحي كلما أبكي عليك
وتردني الأشواق من عندك وترجع بي إليك
ما عاش بي حسي ولا نفسي أوت إلّا لديك
وتقوم معظم نصوص عامية «الفضول» على المقابلة‎.‎

الشاعر الفضول -من غير شك- قد عاش حركات نقدية فتية مثلت ‏خصومة تارة ومصالحات أخرى. ولعله تأثر كثيراً بحركات اتخذ ‏معظمها أفكاراً راديكالية وقومية، كالذي حدث من صراع حول ‏العامية والفصحى، وكأنها المعركة التي انتهت بقيام صلح بين ‏الاثنتين، على أن يكون الجمع بينهما في سياق التعبير الأدبي، فلا ‏فصحى متقعرة ولا عامية مبتذلة، وليكن بين ذلك سبيل‎.‎
ومما يلفت نظر الناقد في شعر «الفضول»، العامي بخاصة، أن ‏العبارة ليست منفصلة عن الكيان العاطفي، بل هي متحدة حد ‏الاندماج مع العاطفة اندماجاً كلياً، حتى لننظر أن الكلمة هي ‏العاطفة بعينها، وهو أمر تقرره فنون أخرى كالنحت والموسيقى ‏والفن التشكيلي، إذ تشعر أن العود أو الكمان يكاد يغني حين تشعر ‏‏-بصدق- أن النغمة الموسيقية إنما هي دفق نبض القلب وهاجس ‏الشعور‎!‎
هنّوا لقلبي عند قلبي ضيوف
وصفقوا حتى تدموا الكفوف
وباركوا حبي وقوموا وقوف
أحلام قلبينا وأشواقنا
صفوف من حولي تعانق صفوف
في هيبة الملك ملك الحُسن يمشي على
عمري وأيامي حيارى تشوف
يتفرجين كيف صنع الله كيف الهوى
يعطي النفوس المحبة من جماله صنوف
كعبة من الحسن قلبي كم إليها هفا
كم حجَّها كم عاش فيها يطوف
ألا ترى معي أن هذه الكلمات خلصت من الرسم والمداد لتصبح ‏موكباً من الفرح المنتشي الجذلان؟‎!‎
وتصبح الذات «الفضولية» أكثر من ذات، يفعل ذلك مستوجداً «لمة» ‏مواسية يستأنس بها من وحدته المخيفة‎:‎
قلبي يسائلني عليك أين انت؟
أين الحب؟ هل عادك حبيب؟!‏
واسمع لنبضي في دمي أنّات
تسألني لماذا لا أجيب
وانا وأشجاني وأطياف الندم
أشرب ندى عيني وأطياف الندم
اسأل حمام البان كم قد عاش يبكيني الهديل
ما لي مع الأحزان غير الدمع والليل الطويل
لا يقدر النسيان ينسيني ولا أرضى بديل
ما ادريش كيف قلبك رضي يروى وقلبي ما رضيش
اشرب واشرب من هوى غيرك ولكن ما ارتويش
ذوات متفرقة في جسوم عديدة، الذات الشاعرة والقلب السائل والدم ‏يئن والأشجان والأطياف... الخ.‏
وظمأ لا ترويه مياه السماء والأرض‎:‎
شق الظمأ قلبي وأشعل في عروقي الدما
والشوق لا يطفيه شنان ما
والحب لا يرويه ماء السما
كثير هو الكلام حول مفهوم الشعر، بحسب الأيديولوجيا، وبحسب ‏الذوق معاً؛ ولكن الأمر أولاً وأخيراً يعود للشاعر، وأعني الشاعر ‏البديع، فهو يستوعب كثيراً من هذه المفهومات ويعبر عنها، وإن ‏كانت المسألة نسبية بين شاعر وآخر، فهو يلج على أفكار تشغل بال ‏المجتمع، وآخر يعبر عن آمال وطموحات مركزية يطمع أن يصل ‏إليها الشاعر والمجتمع معاً، وهو يتناول أمنياته الخاصة يتخذ لها ‏رمزاً يعبر عنها، كالمرأة، فالمتنبي عندما يقول يصف لفيفاً من ‏الغانيات‎:‎
وَبَسَمنَ عَن بَرَدٍ خَشيتُ أُذيبَهُ
مِن حَرِّ أَنفاسي فَكُنتُ الذائِبا
ليس يعني بها -فيما أرى- الأسنان البيض الناصعات البياض، وإنما ‏يريد أن أمانيه الكبار لا تلبث أن تضيع قبل أن تتحقق بلحظات ‏فيعود بالخيبة والقنوط‎.‎
و«الفضول» وما أحسبه إلّا قد حفظ للمتنبي عن ظهر قلب وتأثر ‏بذائقته على المستوى النفسي والاجتماعي، يشعر بأن حلمه يكاد أن ‏يتحقق فيلتقي بحبيبته العروس التي جمعه بها القدر، ويطمع أن ‏يتحقق هذا الحلم بطائفة من النسوة، وهنا يصور الشاعر عادة ‏اجتماعية حين يلتف حول العروس طائفة من صديقاتها فيقطفن ‏الورود‎:‎
وا صبايا وا ملاح هيا اقطفين لي مشاقر
وارصفين الورود الحمر وسط المزاهر
واطرحين الكواذي البيض بين المباخر
وتشرق الصورة من ثنايا الروح، إذا يصبح العريس أميراً مطاعاً، ‏يأتمر الكون بأمره‎:‎
يا قمر يا نجوم يا شمس بالله غيبي
لفلفي ضوئك من الدنيا ويكفي حبيبي
ليت كل القلوب يا ناس كانت قلوبي
من الطريف أن يجد قارئ «الفضول» العلاقة بينه والمرأة علاقة ‏تتمتع بغير قليل من الحذر والتحفظ الاجتماعي الذي أساسه التعليم ‏الديني. نعم هو يصف المرأة، ولكن على هذا النحو الذي يراقب ولا ‏يستبطن، كأن المرأة حس عابر وذكرى ليس لها قرار‎!‎
بعبارة ثانية إن المرأة لم تظهر في شعر «الفضول» كما ظهرت في ‏الشعر العربي القديم الذي وقف بشكل ربما أكثر تفصيلاً في وصف ‏جمالها، ولا في الشعر الحديث الذي يقف عند نفسية المرأة وتعمّق ‏عواطفها، وإنما تسير كاميرا «الفضول» الشعرية عند المرأة على ‏عجل كأنها كاميرا محمولة على سرعة سيارة تسير وفق طريق ‏مستوٍ سالك‎:‎
حسنك لعب بالعقول
وانا مروح ضحية
عنك حديثي يطول
فاسمع حديثي شوية
وانا معك في ذهول
امشي على حسن نية
ما ادريش ماذا تقول
عيونك البابلية
واسمع رنين الحجول
مثل الأغاني الشجية
وحليتك عقد لول
وقامتك يافعية
وتحت نحرك حمول
فواكهه مستوية
تبقى لكل الفصول
ملان صدره طرية
هات الشهود والعدول
شاقول آخر وصية
شاموت ساكت خجول
وافوت من غير دية
فأين المرأة عواطفها وأشجانها وأحزانها، والمرأة اليمنية بخاصة؟ ‏فالكاميرا على عجلة التقطت صورة خارجية للمرأة، حجالها ذات ‏الرنين وقامتها اليافعية المستوية الموزونة وصدرها الناهد ‏الطري... أين هي المرأة؟‎!‎
والتضاد:‏
ما ادريش كيف قلبك رضي يروى وقلبي ما رضيش
أشرب وأشرب من هوى غيرك ولكن ما ارتويش
والضوء في عيني إذا غَيَّبت وجهك ما يضيش
خليتني ألقى وجوه الفجر أعشى ما استضيش
واحرقت أعشاشي وأرياشي ولا خليت ريش
فارجع إلى أحضان أيامي وخلّيني أعيش
ويقوم ما يشبه التقابل المعنوي عبر تعبير غاية في الطرافة يؤدي ‏معنى مكثفاً مفاده قسوة قلب هذا الحبيب الذي يمكن أن يعرف قيمة ‏حبيبه لو أنه استبدله بقلبه القاسي المخادع‎:‎
هات لي قلبي وخذ قلبي معك
يمكن اقدر أهجرك أو اخدعك
وانت جرِّبْ شوف من باينفعك
غير قلبي قلب مَن بايوسعك
ولعل من خصائص شعر «الفضول» في جناحيه العامي والفصيح ‏تداخل الأصوات كما تتداخل الذوات بصيغة موازنات ضدّية تقابلية‎:‎
جَنَّحت واجناحي حديد لا ريش
كوخي حديد غنيت ما سمعنيش
استطاع أن يوفر موسيقى مناسبة لكل موضوع بعينه، هذه ‏الموسيقى التي تعطي جرساً خاصاً لكل من اللفظة والعبارة، ‏متجاوزاً ما أشار إليه محمد مندور في «الشعر المهموس». وكان ‏‏»الفضول» وفر للمفردة حظها من الموسيقى، ليكون ناتج هذه ‏الموسيقى أوركسترا متناغمة متجانسة كل آلة فيها بما يناسب ‏أخواتها من الآلات‎.‎