دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
بعد انقضاء حوالى خمسة أشهر على التغيير العاصف الذي حصل في دمشق، والذي نتج عنه سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وسيطرة «هيئة تحرير الشام» وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) على الحكم، وكانت له ارتداداته وتداعياته الزلزالية على توازنات القوى والقوة الإقليمية والدولية، أصبحت صورة الوضع في سورية تتضح شيئاً فشيئاً، ما يجعل تظهير الصورة السورية يساعد في قراءة تفاصيل الصورة في كل المنطقة.
كانت الأوضاع خلال الفترة الماضية، منذ التغيير وحتى تشكيل الحكومة الحالية أواخر آذار/ مارس الماضي، تحتاج من السلطات الجديدة إلى قراءة أفضل للهوية الوطنية لسورية وتأثيراتها الإقليمية والدولية، وفي إدراك الخصوصية السورية، التي تتميز بالتعددية الدينية والعرقية والسياسية والاجتماعية.
هذا التشويش في الرؤية أنتج حكومة اللون الواحد، التي سيطرت عليها «هيئة تحرير الشام» والفصائل المسلحة المتحالفة معها، ومؤتمراً فاشلاً للحوار الوطني، وإعلاناً دستورياً لقي رفضاً داخلياً وخارجياً، وتجنيس عدد من قادة المجموعات المسلحة الموضوعين على قوائم «الإرهاب» الأممية وتسليمهم مناصب عليا في الجيش السوري، وعمليات إقصاء، وفصل أعداد كبيرة من موظفي الدولة؛ لكن أخطرها كان المجازر المروعة التي حصلت في الساحل السوري وريفي حمص وحماه، والتي كان لها صدى إقليمي ودولي كبيراً، وأثرت بشكل سلبي وكبير على صورة السلطات السورية وأوجدت توترات كبيرة وخطيرة في المجتمع السوري.
كان واضحاً أن هذا المسار سيوصل الجميع، وفي مقدمتهم سلطة الشرع، إلى طريق مسدود، وسيؤدي إلى تداعيات كارثية ستطال الجميع، ولن تتوقف على الوضع داخل سورية، والإجهاز على ما تبقى منها، وإنما ستكون له ارتدادات إقليمية ودولية كبيرة، وهو ما أدى إلى تكون قناعة مؤكدة لدى السلطات في دمشق بأن منطق الدولة مختلف كثيراً عن منطق «الثورة»، وأن إدارة سورية غير إدارة إمارة إدلب.
هذه النتيجة بدأت تظهر نوعاً في ازدواجية السلطة بين منطق الدولة، الذي يحاول الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني ومعه الوزراء التكنوقراط في الحكومة الحالية تكريسه، ومنطق «الثورة»، وحكم اللون الواحد، الذي لا يزال يسيطر على العديد من أعضاء الحكومة، ومعهم قادة الفصائل المسلحة الذين يرون أن تكريس منطق الدولة سيحرمهم من مكاسبهم والنفوذ الذي يتمتعون به.
يبدو أن هذا الصراع يسير -وإن ببطء- نحو تكريس منطق الدولة، وهو ما أنتج أول حكومة يمكن أن نطلق عليها تعددية، وإن كانت لا تزال تحت هيمنة «هيئة تحرير الشام» والفصائل المتحالفة معها.
كما انعكست على أرض الواقع بميل الأمور إلى الهدوء، وخاصة في خفوت حدة الخطاب الطائفي وعمليات القتل والتنكيل والخطف والسطو على الأملاك الخاصة، رغم أن هذه العمليات لم تتوقف، لكنها أصبحت في حدود العمليات التي يمكن أن توصف بأنها فردية، ما أوجد نوعاً من التفاؤل في المجتمع بإمكانية تجاوز الوضع الخطير الذي تمر به سورية.
أيضاً كان واضحاً حجم الضغوط الإقليمية والدولية على السلطات السورية لتنفيذ عدد من المطالب، في مقدمتها إخراج المسلحين الأجانب، وتنفيذ وإقرار دستور جديد يحظى بموافقة الشعب السوري وينتج عنه سلطات تتمتع بالشرعية الداخلية والخارجية، كشرط لإضفاء نوع من الشرعية على قيادة الشرع، ورفع العقوبات أو على الأقل تخفيفها.
وفي النظرة الإقليمية والدولية للحل في سورية، يبدو واضحاً اليوم أن الفترة الماضية كانت تشهد صراعاً خلف الكواليس بين عدة سيناريوهات كانت معدة لسورية، بحسب مصالح القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، تتراوح بين التقسيم والحكم الذاتي والفيدرالية وبقاء سورية موحدة بشروط محددة.
مع انجلاء الصورة والتطورات المتسارعة، أصبح من شبه المؤكد سقوط سيناريو التقسيم، الذي كانت تقف وراءه حكومة العدو الصهيوني، أولاً بسبب خطورة هذا السيناريو على معظم دول المنطقة، التي ستصبح مهددة بالمصير السوري نفسه، وبسبب عدم وجود شريك سوري داخلي يسعى إلى التقسيم.
كما ضعف سيناريو الحكم الذاتي والفيدرالية، والذي طرح قبل سقوط نظام بشار الأسد في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية، وامتد بعد السقوط ليشمل جنوب سورية والساحل السوري، وتأكد تراجع هذا السيناريو مع سقوط إمارة أحمد العودة في درعا، في الجنوب، بقرار إقليمي ودولــي، وبشكـــل مفاجـــئ، وميــل الوضــع في السويداء إلــى التهدئة، والحديث الأمريكي عن الانسحاب من سورية، والذي يعني سقوط مشروع الحكم الذاتي في المناطق التي تديرها قوات «قسد» في المنطقة الشمالية الشرقية، والتي تشكل أكثر من ربع مساحة سورية، والذي أصبح يفتقد إلى وجود شريك إقليمي أو دولي قوي وفاعل يساعد في تحقيق هذا المشروع، وهو ما سيؤدي إلى تغليب منطق الحوار بين «قسد» والسلطات في دمشق، للتوصل إلى حل يرضي الطرفين، خاصة بعد الاتفاق الذي حصل بين الجانبين في آذار/ مارس الماضي؛ لكنه لم ينفذ حتى الآن على أرض الواقع، بسبب تعقيدات الأزمة السورية.
المسار الذي أخذته الأوضاع في سورية منذ التغيير وحتى اليوم جعل الصورة كما يلي:
- تغليب منطق الدولة والمواطنة على منطق الثورة.
- ميل الوضع الأمني إلى الهدوء، وتخفيف حدة التوترات والخطاب الطائفي الذي طغى على الصورة خلال الفترة الماضية.
- تعزيز فكرة العودة إلى قانون الإدارة المحلية، كبديل عن مشاريع التقسيم والحكم الذاتي والفدرلة، الذي يعطي المحافظات السورية والمجتمعات المحلية سلطة أكبر لإدارة شؤونها وتنميتها، وهو المشروع الذي كان مطروحاً منذ وقت طويل كحل بديل عن مشروع الحكم الذاتي في شمال شرق سورية، وتقاعس نظام بشار الأسد عن تطبيقه، بسبب سيطرة الفساد وسوء الإدارة على النظام، وكان أحد أسباب انهياره، وقبل بروز أماكن أخرى يمكن أن تطالب بالحكم الذاتي بعد التغيير الذي حصل في سورية، مثل السويداء والساحل السوري.
هذه النتيجة تؤكد أنه لايزال أمام حكومة الشرع بعض هامش الوقت لتعزيز منطق الدولة والانتقال بسورية إلى الدولة المدنية والمواطنة، مع ما يتطلبه ذلك من إجراءات حقيقة على الأرض تستجيب للمطالب الداخلية والخارجية للحل، وهو ما يساهم في رفع العقوبات وبدء مرحلة الإعمار، أو التقاعس عن تنفيذ ما هو مطلوب على الأرض، والدخول في مسارات ومتاهات ستكون حكومة الشرع أول الخاسرين فيها.