ثائر بحجم أمة هزم الزنزانة ولم يساوم على القضية الفلسطينية.. أيقونة النضال الأممي جورج عبدالله حراً بعد 41 عاماً من الأسر
- تم النشر بواسطة عادل عبده بشر / لا ميديا

عادل عبده بشر / لا ميديا -
بعد أكثر من أربعة عقود أمضاها في زنزانة ضيقة لا تتجاوز مساحتها 11 متراً مربّعاً، تزينت جدرانها براية حمراء تحمل وجه المناضل «تشي غيفارا» وعبارات مكتوب عليها «اقترب اللقاء يا فلسطين»، عاد المناضل الأممي الثوري جورج إبراهيم عبدالله، أمس، إلى لبنان، عقب انتزاعه حريته من بين قضبان السجون الفرنسية، ليبدأ فصلاً جديداً من حياته، متمسكا بالقضية التي كانت وستظل بوصلة نضاله، ومثقلاً بلقب «أقدم سجين سياسي في أوروبا»، ورمزاً للمقاومة ضد الهيمنة الغربية.
خرج جورج إبراهيم عبدالله من السجن، كما دخله مرفوع الرأس، في عينيه يقين لا يصدأ، وفي قلبه شعلة لا تنطفئ، لم يبدل تبنيه لخيار المقاومة، ولم تتبدل لهجته. رجل في الـ74 من عمره، جسده أنهكه الاعتقال، لكن ملامحه مازالت تحمل عنفوان القضية.
41 عاما لم يساوم، أو يخضع للترغيب والترهيب، أو يقبل بصفقة تفتح له أبواب الدنيا كلها، بقي وفياً لتاريخه النضالي، لم يغره الإفراج المشروط، ولم ترغمه السنون على مراجعة قناعاته، وهو ما جعل منه «أيقونة نضالية» بحق.
عاد جورج عبدالله من ظلام الزنزانة في أقصى الأرض، ليقول لنا إن «المقاومة باقية ما بقي الاحتلال، وطالما هناك مقاومة، هناك عودة إلى الوطن»، وليؤكد أنه «لا حرية دون مقاومة، ولا مقاومة دون وفاء، ولا وفاء دون ثمن».
قالها مراراً «لن أخرج من السجن في فرنسا إلا إلى بيروت» وهو يدرك أن بيروت ستنتظره، بمقاومتها الباسلة، وشعبها الوفي، وهو ما حدث الساعة الثانية والنصف ظهر أمس الجمعة، عندما هبطت طائرة «أير فرانس» التي تقله، في مطار رفيق الحريري الدولي، ليجد حشوداً كبيرة في استقباله، جُلّهم ممن يشبههم ويشبهونه، المناضلون المقاومون، ملح الأرض ونجوم السماء.
جاء الإفراج عن المناضل الكبير جورج عبدالله، بعد أن أصدر القضاء الفرنسي قراراً بالإفراج عنه وترحيله إلى لبنان. ولم يكن هذا القرار، الصادر في 17 تموز/ يوليو الجاري، مجرد تطور قانوني أو إجراء إداري، بل لحظة تاريخية مشحونة بالرمزية، تُتوّج مسيرة نضالية فريدة لرجل تحول من سجين سياسي إلى أحد أبرز رموز المقاومة ضد الهيمنة الغربية والصهيونية، ليس في لبنان فقط، بل في وجدان حركات التحرر العالمية.
إنها عودة الجسد إلى الوطن، ولكنها أيضاً عودة الذاكرة إلى واجهة النضال، حيث لاتزال فلسطين رايةً معلّقة في قلب القضية.
وكانت السلطات الفرنسية قد حكمت عليه عام 1987 بالسجن المؤبد، بعد اتهامه بالضلوع في اغتيال الملحق العسكري الأمريكي تشارلز راي والدبلوماسي «الإسرائيلي» ياكوف بارسيمانتوف في باريس عام 1982، إضافة لمحاولة اغتيال القنصل الأمريكي العام روبرت هوم في ستراسبورغ عام 1984.
وكان مؤهلا للإفراج المشروط منذ 25 عاما، لكن 12 طلبا لإطلاق سراحه رُفضت كلها، بضغوط أمريكية و»إسرائيلية» على السلطات الفرنسية.
استقبال شعبي وموقف ثابت
منذ ساعات الصباح الأولى، تجمع العشرات من اللبنانيين أمام قاعة الوصول في مطار بيروت، رافعين العلم الفلسطيني ورايات للمقاومة، وعبارات عن المناضل جورج عبدالله، وخارج المطار امتدت طوابير من المستقبلين، تختلط أصواتهم بأناشيد النضال، وزغاريد النساء وصيحات الشباب، في مشهد أعاد للحركة النضالية ألقها.
محاطا بعدد من أفراد عائلته والناشطين في الحملة التي طالبت بإطلاق سراحه، قال المناضل جورج عبدالله الذي وضع وشاحا بألوان الكوفية الفلسطينية لصحافيين في قاعة الشرف في المطار إن «المقاومة من أجل فلسطين يجب أن تستمر وتتصاعد، وتكون بمستوى الهياكل العظمية لأطفال غزة».
وعبّر عن موقفه الثابت في دعم المقاومة والقضية الفلسطينية، وهو موقف أصرّ عليه طوال أعوام أسره الـ41، مشدّداً على أنّه «طالما هناك مقاومة، هناك عودة إلى الوطن».
وانتقد كيف أن «ملايين العرب يتفرجون» بينما «أطفال فلسطين يموتون جوعا»، مضيفا «هذا معيب للتاريخ وبحق الجماهير العربية أكثر من الأنظمة التي نعرفها».
ودعا جورج عبدالله الشعوب العربية وخاصة من جهة جمهورية مصر إلى التحرك لوقف حرب الإبادة في غزة، قائلاً إنّ «عليهم العمل على وقف الإبادة والمجاعة في القطاع المحاصر لأنهم قادرون على ذلك».
وأضاف «على بعد أمتار من أزهر مصر، على بعد أمتار من كعبة محمد بن عبدالله، على بعد أمتار من 80 مليونا من أتباع محمد بن عبدالله في مصر، يموت أطفال فلسطين من الجوع».
وشدد جورج عبدالله، على «وجوب أن يلتفّ الجميع حول المقاومة اليوم، أكثر من أي وقت مضى»، مؤكّداً أنّها «مُسمَّرة في هذه الأرض، ولا يمكن اقتلاعها، وهي ليست ضعيفةً، بل قوية بشهدائها القادة الذين صنعوا شلال الدم المقاوم».
ولدى استذكاره الشهداء الذين قدّمتهم المقاومة في لبنان وفلسطين وغيرها من دول محور المقاومة، وصفهم المناضل جورج عبدالله بأنّهم «القاعدة الأساسية لأي فكرة تحرّر»، مضيفاً: «ننحني أمام شهداء المقاومة». ووجه التحية لأبناء الضاحية الجنوبية، وللشهيد القائد حسن نصر الله.
وأكد أن «صمود الأسرى في سجونهم يعتمد على صمود رفاقهم في الخارج».
وتحدّث جورج عبدالله عن فلسطين المحتلة، التي حمل قضيتها على مدى عقود، مؤكّداً أنّ «المقاومة فيها يجب أن تتصاعد»، متابعاً بأنّه «يجب الاستمرار في مواجهة العدو حتى التحرير، وإسرائيل تعيش آخر فصولها».
ومن بيروت، توجه جورج عبدالله إلى مسقط رأسه في بلدة القبيات شمال لبنان، حيث نظم له استقبال شعبي كبير.
نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جميل مزهر، أكد أن نيل المناضل الأممي جورج عبدالله حريته بعد أكثر من أربعة عقود قضاها في السجون الفرنسية، يُمثّل انتصاراً لإرادة الصمود والثبات الثوري، ويجسد في الوقت ذاته انتصاراً لقضية فلسطين التي حمل رايتها هذا القائد التقدمي الكبير بكل فخرٍ واقتدار.
وقال مزهر في تصريح لـ(لا) إن المناضل الكبير عبدالله «كان ومازال رمزاً للصمود الثوري والكرامة الوطنية، ومثالاً حيّاً على أن المبادئ لا تُسجَن، وأن الإرادة لا تُكسَر، وأن النضال من أجل فلسطين والحق الإنساني لا يشيخ».. مشيراً إلى أن جورج عبدالله «على مدار أكثر من أربعين عاماً، لم تتزحزح قناعاته ولا مواقفه المبدئية الثورية من أجل فلسطين، وكرامة الشعوب العربية، وأحرار العالم».
وأوضح أن «استمرار اعتقال الرفيق عبدالله رغم صدور قرار قضائي بالإفراج عنه قبل سنوات عديدة، شكّل وصمة عارٍ على جبين الإمبرياليتين الفرنسية والأمريكية، وتواطؤاً سافراً مع الكيان الصهيوني»، معتبراً أن «اعتقال عبدالله طيلة هذه السنوات، رسالة واضحة للعالم بضرورة التصدي لقوى الاستعمار والاستكبار العالمي، وفضح الجرائم الصهيونية والإمبريالية، ورفض التبعية والخنوع».
ولفت مزهر إلى أن المناضل جورج عبدالله خلال فترة سجنه الممتدة لـ41 عاماً «لم يغب يوماً عن وجدان أحرار العالم»، وأنه «شكَّل نموذجاً ثورياً ملهِماً تستمد منه الأجيال مواقفها وسرديتها».
وقال إن «القائد الثوري الكبير الرفيق جورج عبدالله عاد إلى الوطن، لكنه كان دوماً في قلب كل معركة وكل ميدان. فهو ليس فقط حراً، بل هو حرية تمشي على قدمين». مضيفاً «في زمنٍ يتهالك فيه الكثيرون على المقاعد والمساومات، يخرج القائد جورج ليؤكد أن النقاء الثوري ممكن، وأن الالتزام بالقضية لا يسقط بالتقادم».
وأفاد بأن المناضل جورج اختار فلسطين بوصلة نضاله.. مشيراً إلى أنه «لم يكن سجيناً لبنانياً فحسب، بل أسيراً فلسطينياً بالمعنى السياسي الكامل. لم يُعتقل لأنه قاتل في لبنان فقط، بل لأنه قال منذ لحظة اختطافه: غزة تمشي في دمي، والمقاومة حقّ الشعوب الذي لا يسقط بالتقادم».
مِن زنزانة ضيقة إلى ساحة غير حرة
وأشار نائب الأمين العام للجبهة الشعبية جميل مزهر، إلى أن جورج عبدالله في نيله للحرية «خرج من زنزانة فرنسية ضيقة إلى ساحة أوسع»، لكن هذه الساحة -والكلام لجميل مزهر- ليست حرّة بعد، لأن غزة لاتزال تنزف تحت نير الإبادة والحصار، وتحت صمت العالم المخزي.
وقال مزهر «في زمنٍ تُقصف فيه غزة بالصواريخ، ويُدفن أطفالها تحت الركام، وتُقمع أصوات التضامن في العواصم الغربية، عاد جورج ليذكّر بأن النضال من أجل فلسطين ليس موسمياً، ولا انتقائياً، ولا تفاوضياً، بل جذريّ ومستمرّ حتى النهاية».
وفي السياق وجه جميل مزهر التحية «للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، وفي مقدمتهم الرفيق القائد أحمد سعدات الأمين العام للجبهة، الذي مازال يحمل شعلة النضال من قلب الزنازين».
وقال مخاطباً جورج عبدالله «إنك اليوم تنال حريتك، وغداً حتماً ستشرق شمس الحرية على هؤلاء الأبطال، الذين كنتَ دوماً تحمل رسالتهم وصوتهم من داخل سجنك في فرنسا».
واختتم نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تصريحه لـ(لا) بالتأكيد بأن الكلمات التي أطلقها المناضل الأممي جورج عبدالله لحظة وصوله مطار بيروت، بشأن حرب الإبادة والتجويع في غزة، ستدوّي في أنحاء المعمورة، وستهزّ الضمير الإنساني. لافتاً إلى أن جورج «خرج حراً ليُعيد للبوصلة اتجاهها، ويُذكِّر الجميع بأن فلسطين لا تَنسى ولا تُنسى، وستبقى رسالة جورج عبدالله نبراساً لكل من يحمل همّ فلسطين، وأمل الحرية، وكرامة الشعوب».
من هو جورج عبدالله؟
وُلِد جورج عبدالله بتاريخ 2/4/1951م، في قرية القبيات ببلدة عكار شمال لبنان لعائلة مسيحية مارونية، وانضم في سن مبكرة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، واختار طريق النضال والمقاومة.
بعد ذلك انضم عبدالله لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش، بعد إصابته في الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1978 (عملية الليطاني). ومع أفراد من عائلته ورفاقه، أسس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وبين عامي 1981 و1982، اندفعوا يجوبون دول العالم في محاولات منهم لملاحقة الصهاينة رداً على الخسائر الفادحة التي لحقت بشعبنا العربي في فلسطين ولبنان، ونفذوا هجمات في أوروبا، أسفرت بعضها عن سقوط قتلى في فرنسا، في إطار دعم القضية الفلسطينية والكفاح ضد الاحتلال.
موت المعلم وولادة المقاتل
بدأ جورج حياته المهنية معلما في مدرسة بمنطقة أكروم بعكار، وارتبط مبكراً بالفدائيين الفلسطينيين، مستنكرا الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وأصبح جزءا من الجناح العسكري للجبهة الشعبية، لتصبح الأراضي اللبنانية كلها ساحة قتاله.
وخدم عبدالله في الجنوب، والبقاع، والجبل، وبيروت لكن بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال «الإسرائيلي» قبيل اجتياح بيروت عام 1982، انفصل عبدالله عن الجبهة، رافضا التهدئة مع العدو، واتخذ مسارا خاصا به، متأثرا بوديع حداد، وخصوصا بمقولته الشهيرة «وراء العدو في كل مكان»، وانقطعت أخباره إلى حين سماع خبر اعتقاله في فرنسا.
الاعتقال والمحاكمة
اعتُقل جورج عبدالله عام 1984 في مدينة ليون الفرنسية بتهم أولية تتعلق بتزوير جوازات سفر وحيازة أسلحة. غير أن مسار محاكمته اتخذ منحى أكثر قسوة وتعقيداً، حين اتُهم لاحقًا بالتواطؤ في اغتيال الدبلوماسيين الأمريكي «تشارلز راي» والصهيوني «ياكوف بار سيمانتوف» عام 1982، وحُكم عليه بالسجن المؤبد عام 1987، رغم غياب أدلة دامغة تربطه مباشرة بالعمليات. وتنقّل عبدالله خلال العقود الماضية بين مراكز احتجاز عدة في سان مور ومولان في وسط البلاد، وكليرفو في شرقها، قبل أن يودع الزنزانة الرقم 221 التي وضعت عندها لافتة بخط اليد كتب فيها «عبدالله».
وفي الـ23 من آذار عام 1985، ردّت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» على اعتقاله عبر اختطاف الديبلوماسي الفرنسي سيدني جيل بيرول، وآنذاك، وافقت فرنسا على تبادل المعتقلَين عبر الجزائر، غير أنها لم تفِ بوعدها بإطلاق سراح عبدالله.
منذ ذلك التاريخ، أصبح جورج عبدالله رمزًا حياً للصراع بين قوى التحرر الوطني والإمبريالية الغربية، وسجيناً سياسياً بامتياز، رفض التوبة أو التراجع عن قناعاته، وهو ما أجج الضغوط الأمريكية والصهيونية على السلطات الفرنسية لمنع إطلاق سراحه طوال عقود.
ورغم أن القانون الفرنسي أتاح له شروط الإفراج منذ 1999، إلا أن كل طلبات محاميه قوبلت بالرفض بذريعة تهديد «النظام العام».
وخلال جلسات محاكمته المتكررة تمسك جورج عبدالله بنفي التهم الموجهة له، قائلاً إنه «مجرد مقاتل عربي».
زنزانة 221.. مسكن الفكرة والرمز
داخل زنزانة لا تتجاوز 11 متراً في سجن لانميزان جنوب غرب فرنسا، حيث يقبع أصحاب الأحكام الطويلة، قضى جورج عبدالله سنواته الأخيرة محاطًا بصور رفاق النضال ورسائل تضامن من أنحاء العالم، إلى جانب تقويم رقمي يدوّن فيه تواريخ استشهاد الرفاق، ومواعيد الزيارات القليلة. كانت تلك الزنزانة أكثر من جدران، كانت مساحة للمقاومة الفكرية والنفسية، مسكونة بروح تشي غيفارا وصدى فلسطين، وواحة عزاء في رحيل الرفاق.
حين زارته النائبة الفرنسية أندريه تورينا مؤخراً، استقبلها بعينين مازالتا تقدحان شرراً، رغم الشيب الذي غزا شعره الكث الأسود. لم تكن الأربعون سنة مجرد زمن ساكن، بل مدرسة نضال مقاوم، أكد فيها عبدالله أن «السجن هو سجن، لكن النضال يمنحك حياة داخل الزنازين».
غزة لن ترفع راية الاستسلام
«لن تحمل غزة أبدا راية الاستسلام... ولن تتمكن الصهيونية أو أي قوة إجرامية أخرى من كسر إرادة المقاومة فيها»، بهذه الكلمات عبر المعتقل جورج عبدالله في رسالته التضامنية مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب إبادة في غزة والضفة الغربية.
البيان أُلقي خلال مظاهرة نظمت في مرسيليا الفرنسية بتاريخ 25 فبراير/ شباط 2024، حيث عبّر المحتجون عن دعمهم لصمود الفلسطينيين في وجه الاحتلال.
وأشار عبدالله في رسالته إلى أنه «لا ينبغي أن ننسى أبدا أن جذور النضال الفلسطيني انبثقت من أعماق مخيمات اللاجئين في غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان.. هذه المقاومة تحمل وعد التحرر وتصون إرث الفدائيين».
المصدر عادل عبده بشر / لا ميديا