مجلة «ذا كريدل»:جبهة صنعاء الداخليـة ليســت مكشوفة ولا للبيع ومن الصعب اختراقها

عادل بشر / لا ميديا -
في الوقت الذي تنشغل فيه الأنظار بالعمليات العسكرية اليمنية المساندة للشعب الفلسطيني ضد الكيان "الإسرائيلي" في البحر وإلى العمق الصهيوني، وردود الفعل "الإسرائيلية"، تدور حرب موازية أقل صخبا وأكثر خفاء، حرب معلوماتية يقودها جهاز الموساد "الإسرائيلي" ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) لتعويض "الفراغ الاستخباراتي" حول صنعاء.
مجلة "ذا كرادل" The Cradle الأمريكية، نشرت تحقيقاً كشف عن تفاصيل مثيرة لعمليات تجسس ممنهجة تستهدف المجتمع اليمني، باستخدام أدوات إلكترونية وأخرى بشرية، تهدف إلى اختراق النسيج الاجتماعي، وجمع المعلومات حول القيادات السياسية والعسكرية، وضرب الروح المعنوية للشعب اليمني المقاوم للعدوان والمساند لفلسطين.
التحقيق الذي عنونته المجلة بـ(اختراق صنعاء: الحرب الإلكترونية الأميركية الإسرائيلية على اليمن)، أفاد بأن "تل أبيب" و"واشنطن" شنتا حربا استخباراتية سرية على صنعاء، بهدف سد الفراغ الاستخباراتي الهائل بشأن "أنصار الله" والقوات المسلحة اليمنية، لكن مجتمعًا غارقًا في المقاومة، مقرونًا بعقيدة الصمت التي تتبناها صنعاء، أثبت أنه من الصعب اختراقه أكثر مما كان متوقعًا بحسب المجلة.
وأوضح التحقيق الأمريكي أنه "في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، انضمت القوات المسلحة اليمنية إلى المعركة دعماً لعملية طوفان الأقصى وضد حرب إسرائيل على غزة. واليوم، بعد قرابة عامين، ظهرت ساحة معركة جديدة بعيداً عن مياه البحر الأحمر أو سماء فلسطين المحتلة"، مشيراً إلى أن "هذه الحرب لا تتضمن طائرات مُسيّرة أو صواريخ باليستية. إنها غزو صامت ومستمر ورقميّ يهدف إلى زعزعة التماسك الداخلي لحكومة صنعاء من خلال التجسس والتلاعب النفسي وأساليب الاختراق الناعمة".

أدوات الحرب الجديدة
ووفقاً للمجلة الأمريكية فإن الموساد والـCIA يعتمدان في حربهما الإلكترونية والاستخباراتية ضد صنعاء على تكتيك "الاختراق الناعم" بدلًا من المواجهة المباشرة. وتتمثل هذه التكتيكات في حسابات وهمية على منصات فيسبوك وX وتلغرام، تتقمص شخصيات يمنية معروفة وتستدرج الصحفيين والناشطين، إضافة إلى رسائل عروض عمل وهمية تُرسل من أرقام دولية، وتعرض فرصًا مغرية في الإعلام أو المنظمات. وكذلك استخدام صور وأسماء حقيقية لأشخاص يمنيين في حسابات ومواقع التواصل الاجتماعي وذلك لخلق الثقة، ثم طرح أسئلة حول مواقع حساسة وبنية تحتية ومراكز صنع القرار، وعند التحقق من تلك الحسابات يتبيّن أنها جديدة ولا تحتوي أي نشاط حقيقي.
وفي قضية سرية راجعتها The Cradle، طُلب من صحفيين جمع معلومات مفصلة عن ميدان السبعين في صنعاء، بما في ذلك نقاط التفتيش، واستخدامات المباني، وبنية الاتصالات.
وأوضحت "ذا كرادل" أنها جمعت شهادات من صحفيين وناشطين في مختلف أنحاء اليمن، مؤكدة أن هذه الأساليب هي جزء من حملة متسارعة التوسع للتسلل والتجنيد الإلكتروني "الإسرائيلي" والأمريكي. 
ولفتت إلى أن هذه الجهود الاستخباراتية السرية تصاعدت بسرعة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عندما انضمت اليمن إلى المعركة في دعم عسكري مباشر لغزة، مما دفع "تل أبيب" وواشنطن إلى التركيز على صنعاء كهدف استخباراتي ذي أولوية.

الفراغ الاستخباراتي
وقالت المجلة الأمريكية "هزّت هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ اليمنية ممرات الملاحة الإسرائيلية، بل وصلت إلى عمق الأراضي المحتلة، مستهدفةً بنى تحتية عسكرية واقتصادية رئيسية، ووصلت حتى إلى مطار بن غوريون"، مضيفة أن "الجبهة اليمنية المقاومة غير المتوقعة، كشفت ما اعترفت به النخب الأمنية الإسرائيلية لاحقًا عن فجوة استخباراتية كبيرة".
ونقلت عن "إيال بينكو"، وهو مسؤول دفاعي "إسرائيلي" سابق وباحث كبير في مركز الأبحاث "الإسرائيلي" المسمى "بيغن-سادات للدراسات الاستراتيجية" القول إن "لدى إسرائيل خبرة طويلة مع هؤلاء الأعداء [إيران وحزب الله وحماس]. هناك معلومات استخباراتية، وهناك عنصر مهم وهو المناورة البرية، وفي اليمن لا نستطيع فعل ذلك. النطاق هنا مختلف".
وأشارت إلى أنه "حتى 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لم يكن الموساد ولا جهاز الاستخبارات العسكرية -أمان- يعطي اليمن الأولوية لأنشطة الاختراق وجمع المعلومات. ولكن بعد الهجمات المتواصلة من صنعاء، تغيّر الأمر، وبدأت النقاشات الداخلية الإسرائيلية تدعو إلى انفتاح استخباراتي تجاه اليمن لتقليل عنصر المفاجأة".
ودعا وزير الحرب "الإسرائيلي" السابق أفيغدور ليبرمان علنًا إلى إنشاء قنوات استخباراتية داخل اليمن، بما في ذلك دعم فصائل المرتزقة الموالين للسعودية والإمارات بالوكالة لتقويض قوات صنعاء. وبالمثل، أقر مستشار الأمن القومي الصهيوني السابق، يعقوب أميدرور، بأن أجهزة الأمن في "تل أبيب" أساءت فهم اليمن وحسابات أنصار الله الاستراتيجية بشكل جذري.
وأكدت "ذا كرادل" أن "هذا التحول جاء متأخرًا جدًا. فقد كانت صنعاء قد نجحت بالفعل في زعزعة عقيدة الردع الإسرائيلية، مما دفع إلى توسيع استخباراتي محموم".

استهداف عبر الإنترنت
وسط هذا الفراغ الاستخباراتي "الإسرائيلي" بشأن اليمن، بدأت "تل أبيب" بتعويض ذلك من خلال عمليات اختراق وتجنيد وتجسس معقدة.
وصرح مصدر أمني يمني لمجلة "ذا كرادل" أن "جهود التجنيد تبدأ بالبحث عن يهود يمنيين يجيدون اللهجة الصنعانية أو غيرها من اللهجات المحلية، بهدف استخدامهم كعملاء لجمع المعلومات الاستخبارية من داخل البلاد".
بالإضافة إلى ذلك، يُسلّط المصدر الضوء على طريقة أخرى متنامية تتمثل في "الإعلانات الجماعية عبر الإنترنت، حيث تظهر هذه الإعلانات أثناء تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما تَعِد بمكافآت مالية -تصل إلى مليون دولار- أو معلومات تُفضي إلى شخصيات من أنصار الله، أو بيانات مرتبطة بعمليات الدعم البحري".
بعض الإعلانات تأتي من صفحات مشبوهة تابعة للموساد، لكن بعضها الآخر يأتي من صفحات أمريكية رسمية مثل وزارة الخزانة أو السفارة الأمريكية، تحت عناوين مثل "حماية المصالح البحرية" أو "ضمان أمن الملاحة العالمية".
ويقول المصدر الأمني إن "الهدف هو جمع معلومات استخباراتية عن مناطق أو أهداف محددة مرتبطة بالجبهة البحرية النشطة، أي شيء مرتبط بالقوة العسكرية لصنعاء في ساحة البحر الأحمر".
وكشف أن "بعض الجواسيس الذين تم القبض عليهم تلقوا تدريبات استخباراتية متقدمة في دول أوروبية، وعادوا إلى اليمن تحت غطاء منظمات دولية أو وسائل إعلام أو وكالات تنموية، وهو ما منحهم قدرة على الحركة من الصعب تتبعها في الظروف العادية".
وبحسب ذات التصريح فقد "شملت مهامهم الرئيسية مراقبة مواقع عسكرية حساسة، وجمع بيانات دقيقة عن القوات البحرية، وتحليل معلومات تقنية وتشغيلية حول الصواريخ والطائرات المسيّرة. كما نفذوا عمليات تخريب واغتيال، وأرسلوا إحداثيات لتسهيل الضربات الجوية، مستخدمين أجهزة مشفرة وبرمجيات تجسس متقدمة وأنظمة اتصال عبر الأقمار الصناعية يصعب رصدها".
وتشكل هذه العمليات -وفقاً للمجلة- جزءاً من استراتيجية ممنهجة للتسلل إلى اليمن عبر منظمات تبدو ظاهرياً وكأنها تركز على التنمية والتعاون، لكنها في الواقع تعمل كأذرع تجسس وتخريب في القطاعات الاقتصادية والزراعية والتعليمية والأمنية. وتعمل هذه الشبكات تحت أغطية مختلفة -دبلوماسية، وإنسانية، واقتصادية، وأكاديمية- تخدم مصالح الاستخبارات الأمريكية و"الإسرائيلية".

تفكيك شبكات التجسس 
تحقيق مجلة The Cradle الأمريكية، أكد نجاح صنعاء في تفكيك شبكات التجسس، وجاء في التحقيق "وفقًا للأجهزة الأمنية في صنعاء، بين عامي 2015 وآذار/مارس 2024، تم تفكيك أكثر من 1,782 خلية تجسس، وفي كانون الثاني/ يناير 2025، أعلنت السلطات القبض على شبكة تجسس تعمل لصالح الاستخبارات البريطانية MI6 والاستخبارات السعودية كانت تهدف إلى "إفساد دعم اليمن لغزة".
وأضاف "كما أُلقي القبض على خلية مشتركة بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد في صعدة، استهدفت منشآت ومراكز قيادة للطائرات المسيرة. وفي أيار/مايو 2024، نُفذت العملية الأبرز بتفكيك الوحدة 400، وهي شبكة تجسس أمريكية "إسرائيلية" تعمل على الساحل الغربي لليمن".

قانون الصمت
وقالت المجلة الأمريكية "يجد اليمن نفسه الآن في حرب من نوع مختلف، حرب تُشنّ عبر الهمسات والتطبيقات والمنظمات غير الحكومية وإعلانات الوظائف الوهمية. تحاول واشنطن وتل أبيب اختراق النسيج الاجتماعي والفضاء الإعلامي لبلدٍ كان، حتى وقت قريب، يُنظر إليه على أنه لاعب هامشي"، مضيفة "لكن التهديدات التقليدية تتسارع هي الأخرى. في 23 يوليو/ تموز، أفادت القناة 14 الإسرائيلية أن جيش الاحتلال يُعِدّ لما أسمته القناة هجومًا كبيرًا على اليمن، في انتظار الضوء الأخضر من القيادة السياسية الإسرائيلية. ووفقًا للتقرير، فإن المؤسسة الأمنية في تل أبيب تعمل على مدار الساعة على خطة هجومية كبيرة ضد حكومة صنعاء".
وأوضحت المجلة أنه وبالرغم من ذلك "لا يزال اليمن يُشكّل التوازنات الإقليمية، والمقاومة التي يُثيرها ليست عسكرية فحسب، بل ثقافية وإعلامية، ومتجذّرة في مجتمعٍ يصعب رسم خريطة دقيقة له أو اختراقه أو التنبؤ بسلوكه".
وردًا على هذه التهديدات المتعددة الطبقات، أطلقت وزارة الإعلام في صنعاء حملة توعية عامة بعنوان "مدري" -وهي عبارة عامية يمنية تعني "لا أعرف"- عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحثّ المواطنين على عدم الكشف عن معلومات حساسة على الإنترنت". وينشر حساب مُخصّص بانتظام مقاطع فيديو تُحذّر من التنصت على الهواتف والتصيد الاحتيالي ومخاطر خدمات الأقمار الصناعية.
وخلصت المجلة الأمريكية إلى القول "ما بدأ كمصطلح شائع، أصبح منذ ذلك الحين مبدأً سيبرانيًا وركيزةً أساسيةً لحملة سيادة يمنية. ففي بلد تُعتبر فيه الغموض سلاحًا والبقاء في الظل استراتيجيًا، لم تعد كلمة "مدري" مجرد رد فعل سلبي، إنها عملية مقاومة متعمدة تحمي النسيج الاجتماعي الداخلي من أطماع الخارج وتؤكد أن جبهة اليمن الداخلية ليست مكشوفة ولا معروضة للبيع".