دمشق/ خاص / لا ميديا -
ظريف هو وزير خارجية نظام الجولاني الحالي في سورية، المعروف بأسعد الشيباني، وهو آخر اسم له من جملة أسماء عُرف بها خلال مسيرته «الجهادية» والسياسية؛ منها «نسيم» و«أبو عائشة» و«أبو عمار الشامي» و«حسام الشافعي»، والأكثر شهرة «زيد العطار»، ليستقر أخيراً على اسم أسعد الشيباني، بعد وصول «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) إلى قصر الرئاسة في دمشق، وتعيينه وزيراً لخارجية حكومتها.
شخصية الشيباني فيها شيء من الظرافة والتميز، ومنها أنه ينتقل بسرعة بين أن يكون مبتسماً أو بملامح جدية، وفشله في الفصل بين مسيرته السابقة كمقاتل في مجموعة مسلحة ودوره الحالي كوزير للخارجية، ويحاول خلال لقاءاته وإطلالاته الإعلامية أن يبدو ظريفاً؛ لكنه تجاوز الأمر الطبيعي بكثير من السقطات التي يمكن أن تسجل من باب الطرائف والغرائب في العرف الدبلوماسي وفي تاريخ الدبلوماسية السورية.
أبرز هذه السقطات ما قاله في كلمته خلال مؤتمر بروكسل للدول المانحة، وأمام حشد من وزراء الخارجية الدول الأوروبية والعربية، إضافة إلى وزير الخارجية الأمريكية؛ إذ قال: «استغلّ النظام السابق ورقة الأقليات وأساء استخدامها، ونحن نرفض أن نفعل الشيء ذاته، فقد أدّت 54 عاماً من حُكم الأقلية إلى تهجير أكثر من 15 مليون سوري، وسقوط مليون شهيد، وقمع الغالبية والأقليات الأخرى، على حد سواء».
فعدا عن المبالغة الكبيرة في الأرقام والتوصيف، والتي تضرب مصداقية الكلام والمتكلم، فلا يجوز لوزير خارجية أن يتحدث عن شعب الدولة التي يمثلها بمنطق الأقليات والأكثرية؛ لأنه ينم عن منطق إقصائي وينتهك حقوق المواطنة والمساواة للكثير من مكونات الشعب السوري.
الشيباني لم يكتفِ بهذه السقطة خلال تلك الزيارة، فوقع بواحدة أكبر أثارت استغرباً وجدلاً واسعين في صفوف الحضور في بروكسل، وعند الشعب السوري، عندما قال: «إذا أنت حررتَ خطيفة من خاطفها، لا يمكن أن تسألكَ الخطيفة إلى أين سوف تأخذها»!!
هذه العبارة، بتركيبتها ودلالاتها الأخلاقية والاجتماعية والنفسية، لا يمكن أن تأتي إلا من خلفية مليشياوية، وتدخل في منطق الاستعباد، وتعيدنا إلى عصر العبيد.
السقطة الكبيرة الثالثة وقع بها خلال زيارته الأخيرة لموسكو، عندما قال بحضور وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرغي لافروف: «لا خطة أو نية لإبادة الدروز».
هذه الجملة، التي جعلت حركات وجه لافروف تعكس حجم الاستغراب والغضب، وفي السياق الذي وردت فيه، تعني أن «الابادة» سلاح موجود ضمن أدوات الحكومة الحالية؛ لكن لا نية لها لاستخدامها ضد الدروز. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: طالما أنه موجود، فمن يضمن ألا يتم استخدامه مستقبلاً، بحق الدروز أو غيرهم؟!
مشكلة الشيباني أنه يختار منابر عالمية، وفي لحظة تكون فيها وسائل الإعلام مسلطة على ما يقوله، حيث سقطته الأولى تمت في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل، خلال مؤتمر خاص حول سورية، والثانية في موسكو، حيث حظيت زيارته لها باهتمام عربي وعالمي كبيرين، بسبب حساسية العلاقات بين البلدين، ودور موسكو المؤثر والملتبس في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد.
ومن سوء حظ الشيباني أن سورية تميزت في تاريخها الحديث، وخاصة منذ بدء حكم الرئيس حافظ الأسد عام 1970، بسياسة خارجية ناجحة، وبوزراء خارجية كانت لهم بصماتهم في السياسة الإقليمية والدولية، وتحولت خلالها سورية إلى لاعب إقليمي مؤثر يتجاوز بكثير حجمها الجغرافي.
خير مثال على هذا التميز في الدبلوماسية السورية، علاقتها الفريدة مع الولايات المتحدة، إلى درجة أصبحت فيها سورية الدولة الوحيدة في العالم التي كانت علاقتها السياسة والدبلوماسية مع واشنطن راجحة لصالحها، حيث قام رئيسان أمريكيان بزيارة دمشق، وقطع ثلاثة رؤساء أمريكيين نصف الطريق بين واشنطن ودمشق للقاء الرئيس الأسد الأب، فيما لم يقم الأسد الأب أو الابن بزيارة واشنطن.
كما قامت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، بزيارة دمشق 26 مرة، فيما لم تزُر لندن وباريس سوى ست مرات، وهذا ما أدى إلى احتجاج بريطاني - فرنسي على ذلك.
كما لا يمكن أن ننسى وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، الذي تحدث عن اختراع سوري في الدبلوماسية، عندما استخدم معه الرئيس الأسد الأب الحاجة البيولوجية للضغط عليه، خلال المحادثات الماراثونية التي كانت تعقد في دمشق، خلال مفاوضات السلام السورية - «الإسرائيلية»، والتي سماها كيري «دبلوماسية المثانة»، عندما كان السوريون يتخمونه، عمداً، بالمشروبات السورية اللذيذة قبل بدء محادثاته مع الرئيس الأسد، والتي ستجعله بعد وقت قصير تحت ضغط الحاجة للتبول، وكانت تصل حد عدم الاحتمال، فتضطره لقطع المحادثات والذهاب لقضاء حاجته، وهذا من الأشياء الكبيرة في العرف الدبلوماسي، ليتنبه لها كيري فيما بعد؛ ولكن بعدما أرهقه الرئيس الأسد في عدة جلسات.
وأيضاً، لا يمكن أن ننسى زيارة وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، لدمشق، ولقائه الرئيس بشار الأسد بعد غزو العراق، حين جاء مهدداً بأن دمشق ساقطة عسكرياً، وأنها تحت مرمى الجيش الأمريكي الذي أصبح على حدودها في العراق، إذا لم تنفذ الشروط الأمريكية حول مواقفها وتحديداً حول المقاومة في فلسطين ولبنان؛ لكنه مع ذلك خرج بدون أن يأخذ ما يريد، في توقيت كانت فيه الولايات المتحدة في أوج قوتها، وفي حين كان الآخرون يسقطون بأقل مما كانت تتعرض له دمشق بكثير.
الشواهد الأخرى على التميز في تاريخ الدبلوماسية السورية أكثر من أن تعد وتحصى، ليأتي الشيباني ويطيح بها في مواقفه وسقطاته الغريبة التي أصبحت مثالاً للتندر السياسي والدبلوماسي.
الشيباني لا يزال وزيراً لخارجية حكومة دمشق، وتنتظره عدة زيارات ونشاطات دبلوماسية، أبرزها مشاركته المتوقعة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لوحده أو مع رئيس السلطة الانتقالية أحمد الشرع، في حال تم التوصل إلى تفاهمات حول التطبيع مع الكيان الصهيوني و»الاتفاق الإبراهيمي». ولا ندري ماذا ستكون سقطته الدبلوماسية التالية، مع الإشارة إلى وجود حركة سياسية ودبلوماسية إقليمية ودولية نشطة تبحث الوضع في دمشق، ولا أحد يدري على ماذا سترسو هذه الحركة، وما هو السيناريو المقبل!