قرارات فوقية ومصانع عاجزة وقطاع خاص مرتاب
توطين السلع والبضائع المستوردة.. جدل بين إنعاش الاقتصاد وتكريس الاحتكار 

حوار/عادل عبده بشر / لا ميديا -
أثار القرار المشترك رقم (1) لوزارتي المالية والاقتصاد والصناعة والاستثمار في صنعاء، بشأن توطين عدد من السلع والبضائع المستوردة، جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والتجارية. وقوبل بردود فعل متباينة بين رفض الغرفة التجارية الصناعية في أمانة العاصمة للقرار الذي اعتبرته «غير مدروس ويشكل ضرراً على الاقتصاد الوطني»، وبين مؤيدين يرونه خطوة استراتيجية ضرورية في مواجهة تحديات الاقتصاد الوطني، من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
في ظل هذا الجدل، تُخصص «لا» ملفاً متكاملاً تتناول فيه مع مختصين وخبراء معضلة التوطين وواقع الاستثمار في البلاد، الأولويات، التحديات، والحلول العملية التي يمكن أن تدفع بالاقتصاد الوطني نحو التعافي والتنمية.
الملف الذي سيُنشر على حلقات متتالية تزامناً مع الذكرى الأولى لتشكيل «حكومة التغيير والبناء» في آب/ أغسطس 2024م، نستفتحه بالخبير والمستشار الاقتصادي الدكتور أحمد الكبسي، الذي كشف جانباً من أسرار فشل الاستثمار المحلي وطرق إنعاشه.

أولويات الاستثمار
ما هي أولويات الاستثمار في اليمن اليوم؟
أولوية الاستثمار سواء في بلادنا أو أي بلد آخر، تُحدد بناءً على الأهمية والاحتياج، مع مراعاة الظروف التي يعيشها الوطن.
من أولويات الاستثمار الأساسية وكضرورة ملحة في بلادنا هو قطاع الطاقة الكهربائية، الذي يمثل العمود الفقري لأي نشاط اقتصادي، فضلاً عن الأهمية القصوى للكهرباء لدى جميع فئات المجتمع، لا سيما في المناطق شديدة الحرارة، واحتياج توفير الخدمة بأسعار رمزية.
وزارة الكهرباء لديها خطة للاستثمار في هذا القطاع، ووضعت مشاريع متعددة، على سبيل المثال مشروع باسم محطة عمران للطاقة الشمسية بقدرة 3.9 ميجاوات، ومحطة الجوف بقدرة 6 ميجاوات وذمار 10 ميجاوات وهكذا، لكنها للأسف، تفتقر إلى التخطيط الدقيق والدراسات الفنية اللازمة لضمان نجاحها واستدامتها. وهذا يعود جزئياً إلى ضعف دور الدولة في التمويل المباشر والمشاركة الفاعلة، حيث قامت بدعوة المستثمرين لإنشاء هذه المحطات والاستثمار فيها، واكتفت بتوفير الأرض فقط.
بينما يفترض أن تكون الدولة شريكاً رئيسياً في التمويل بنسبة لا تقل عن 60٪، لتشجيع المستثمرين وإعادة بناء الثقة المفقودة بينهم وبين الحكومة.
وتستطيع الدولة أن تبدأ بإنشاء نموذج ناجح لمحطة كهربائية بالطاقة الشمسية، بحيث تكون محطة متكاملة بما في ذلك عدادات الكهرباء دفع مسبق لمحاربة الفاقد، وإدخال القطاع الخاص كمساهمين بنسب معينة، وبعد نجاح هذه التجربة، يتم تعميمها.
علاوة على ذلك، هناك فرصة للاستفادة من العلاقات الدولية، مثل التعاون مع الصين في مجال الطاقة الشمسية، من خلال إقامة مجمعات صناعية تساهمية مشتركة لتجميع وتصنيع الألواح الشمسية محلياً، وبطاقة إنتاجية بحسب الاحتياج السنوي، ويتم توجيه دعوة للموردين والمتاجرين بهذه الألواح الكهربائية والمنظومات الشمسية للدخول كمساهمين مع ضمان أن يكونوا هم وكلاء لهذا المصنع، بنفس النسب التي كانوا يستوردونها من الخارج، وبهذا تكون قد كسبت ثقة المجتمع من خلال منحه خدمة كهرباء دائمة ورخيصة، وكسبت ثقة التجار ورؤوس الأموال، فضلاً عن توفير فرص عمل وتنشيط القطاع الصناعي وتعزيز الاقتصاد.

الاستثمار العقاري
هل الاستثمار العقاري يمثل فرصة جيدة للنهوض الاقتصادي؟ ولماذا يعاني حالياً من الركود؟
الاستثمار العقاري من أهم القطاعات التي يمكن أن تساهم في تنشيط الاقتصاد وخلق فرص عمل واسعة في جميع المجالات المتعلقة بالبناء والتشييد والصناعات المرافقة مثل الأسمنت والحديد والسيراميك والأخشاب والطلاء وغيرها. لكن واقع الاستثمار العقاري في اليمن يعاني من عدة مشكلات أساسية.
أولها أن شروط الاستثمار العقاري في القوانين الحالية غير واقعية، حيث يُشترط على المستثمر إنشاء مشاريع ضخمة جداً (مثل 20 ألف وحدة سكنية) للحصول على تسهيلات حكومية لا تتجاوز توفير قطعة أرض للمشروع، وهذا عبء كبير لا يطيقه معظم المستثمرين خصوصاً وأن قطعة أرض التي ستمنحهم إياها الحكومة لا توجد فيها بنية تحتية من شبكات صرف صحي، مياه، كهرباء، وخدمات طرق وغيرها، الأمر الذي يُضعف جاذبية المشاريع، والدليل أنه منذ صدور قانون الاستثمار، لم نسمع عن أي مشروع من هذا القبيل.
الحل هو البدء بمشاريع صغيرة أو متوسطة الحجم مثل أبراج سكنية عمودية تحتوي على وحدات سكنية متعددة، مع توفير الخدمات الأساسية، وإشراك البنوك التي أصبحت حالياً شبه خاملة، في هذه المشاريع كمساهمين في المشروع بجزء من رأس المال وأيضاً ستقوم البنوك بالتسويق وبيع الشقق السكنية، وبهذا ستخرج من حالة الركود التي تعانيها وتستفيد من تنشيط أموال المودعين، وستخلق لدى التجار وأصحاب الأموال المخزونة في بدرومات وخزائن منازلهم، الثقة في البنوك لاستثمار أموالهم، ، وكل ذلك ينعكس إجمالا على حركة الاقتصاد في البلاد.
مع الأسف الشديد الاستثمار العقاري حالياً في ركود كبير، لأسباب كثيرة يعلمها أصحاب الاختصاص، وزاد من هذا الركود قيام السعودية بفتح المجال للمغتربين في الاستثمار العقاري بالمملكة، الأمر الذي دفع الكثير من المغتربين إلى بيع استثماراتهم العقارية  التي كانوا قد أنشأوها سابقاً في صنعاء ومدن يمنية أخرى والانتقال للاستثمار في السعودية، لأنهم وجدوا هناك الثقة والأمان وليونة التعامل، بعيداً عن البسط والتهبيش والعرقلة والابتزاز.

الاستثمار الزراعي
لماذا لا يتجه أصحاب رؤوس الأموال إلى الاستثمار الزراعي رغم أهميته الكبيرة؟
الزراعة تحتاج إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتقنيات الحديثة، مثل طاقة الكهرباء، الميكنة الحديثة، شبكات الري، حفر الآبار، والتدريب والتأهيل الفني للعمالة. الاستثمار الزراعي بمساحات كبيرة (آلاف الهكتارات) يتطلب رأسمالا تأسيسيا ضخما.
بالرغم من التصريحات الحكومية عن زراعة مساحات واسعة، إلا أن النتائج العملية على الأرض لا تعكس هذه الأرقام. هناك تصريحات من مسؤولين في وزارة الزراعة تتحدث عن زراعة مائة ألف هكتار في تهامة و50 ألف هكتار في الجوف، وهذه أرقام مبالغ فيها وغير صحيحة.
ما هو الحل حتى يتجه أصحاب رؤوس الأموال إلى الاستثمار الزراعي؟
الحل الأمثل هو أن تبادر الدولة في تأسيس وحدات نموذجية متكاملة تشمل جميع الخدمات والتقنيات الحديثة، تعمل كنواة للاستثمار الزراعي في المنطقة، وتجذب المستثمرين لتوسيع مشاريعهم حول هذه الوحدات.
مثلاً: إنشاء وحدة بمساحة ألف هكتار تحتوي على محطة توليد طاقة شمسية، وأحواض مائية مرتبطة بمجاري السيول، وآبار وشبكات ري حديثة، وآلات زراعية حديثة وكبيرة خاصة، بالحرث والبذر والحصاد لتقليل الكلفة وتحسين الإنتاجية، يلي ذلك توفير البذور المحسنة والمهجنة والسليمة، وشراء المنتج، وتوفير المهندسين الزراعين والمختصين للاستشارة والإشراف على مراحل المنتج والدورة الزراعية وغيرها، وهذا يشمل أيضاً تصنيع الأعلاف، الأسمدة العضوية، وقسما خاصا بالتدريب والتأهيل للخريجين من كليات الزراعة.
إذا بادرت الحكومة بإنشاء وحدة نموذجية بهذا الشكل، ويسّرتها للمَزارع المجاورة، ببيعهم المياه والطاقة الكهربائية وتأجير معدات الحراثة والبذارة والحصاد وغيرها، سيأتي أصحاب رؤوس الأموال للتنافس والاستثمار في الأراضي المحيطة بها، دون الخوف من رأس المال التشغيلي الكبير في حال قاموا هم بشراء المعدات الزراعية الكبيرة والطاقة الكهربائية وحفر الآبار وتهيئة الأرض والطرق وغيرها. بعد نجاح هذه التجربة، يتم تكرارها في مناطق أخرى.

تجربة الاكتفاء الذاتي
ما الدروس المستفادة من تجربة تحقيق الاكتفاء الذاتي في محصول مثل الثوم؟
تجربة الثوم مثال واضح على فشل التخطيط الحكومي. الإعلان عن الاكتفاء الذاتي ومنع الاستيراد، مع عدم وجود بنية تحتية مناسبة لتخزين وتسويق المحصول، أدى إلى تلف كميات كبيرة من الثوم في المخازن، وخسائر فادحة للمزارعين الذين اضطروا لبيع محصولهم بأسعار منخفضة للتجار، مما أفقدهم الثقة بالحكومة وقراراتها.
الدروس المستفادة: التخطيط يجب أن يكون مبنياً على دراسات جدوى دقيقة تشمل البنية التحتية الصحيحة من مخازن مهيأة ومعامل للفرز والتغليف والطحن، يلي ذلك توفير ميزانية مالية تتناسب مع حجم وكمية المحصول الذي يغطي احتياج البلاد، لأن ما حدث هو أن الحكومة اكتفت بإنشاء مؤسسة أو شركة لشراء الثوم من المزارعين، وعندما قدم إليها المزارعون بمنتجاتهم لم تجد المال الذي تدفعه لهم فتكدست الكميات في هناجرها ثم اضطروا إلى بيعه للتجار بنصف القيمة.

قرار التوطين وردود الفعل عليه
برأيك ما سبب إصرار الغرفة التجارية في رفض قرار التوطين؟ وهل هذا تهرب من المسؤولية؟
رفض الغرفة التجارية للقرار يأتي من منطلق انعدام الثقة في قدرة الحكومة على تنفيذ القرار بشكل عادل وشفاف. القطاع الخاص مستعد لدعم التوطين إذا توفرت لديه ضمانات التخطيط السليم، عدم الاحتكار، وضمان المنافسة العادلة، والأهم من ذلك إذا وجد أن الحكومة شريكة في التوطين وليس مجرد طرف مسؤول يصدر قرارات متى ما أراد.
القرار الحالي عزز حماية بيوتات تجارية معينة تحتكر التصنيع المحلي لسلع معينة، وأخرى تحتكر استيراد منتجات وبضائع معينة، وذلك واضح من بعض السلع التي يرغب في توطينها لوجود منتج محلي بديل عنها، يحتكره بيت تجاري واحد دون منافسين، مما يمنح هذا البيت أو الشركة حصة سوقية حصرية ستتيح لها التلاعب بالسعر وبالجودة متى ما شاءت، أيضاً هناك منتجات وسلع موجود بديل لها في اليمن وتستطيع بسهولة الاستغناء عن المستورد، ولكن لم يتم إدراجها ضمن قائمة التوطين، أيضاً خدمة لذلك الوكيل المحلي الوحيد.
نقطة أخرى: أنت تقول للقطاع الخاص تعال أنشئ مصانع ومعامل ولم تقدم له شيئا، وفي ظروف البلاد غير المستقرة، بالتأكيد لن يستجيب لك أحد، لماذا؟ الجواب بسيط: ماذا عملت للمصانع التي قصفها ودمرها العدوان؟ لا شيء، اكتفيت بالقول «عظم الله أجركم»، إذن كيف تريد من القطاع الخاص أن يغامر بأمواله لإنشاء مصنع دون أن تكون أنت شريكاً في الخسارة وبالتأكيد في المكسب؟
الاستيراد في دولتنا أو في أي دولة أخرى، ظاهر الصحية، لأنه ينتج عنه منافسة وخلق منتج وطني ذي جودة عالية وبأسعار مناسبة.

قائمة التوطين
ما أبرز ملاحظاتكم على قائمة السلع التي شملها قرار التوطين؟
نأخذ على سبيل المثال خام الكلنكر الخاص بصناعة الأسمنت، هذه المادة كانت المصانع المحلية الخاصة تستوردها من السعودية وتضيف لها مواد أخرى وتنتجها على أنها صناعة محلية، جاء قرار التوطين ليمنع استيراد هذه المادة على أساس أن المؤسسة العامة للأسمنت ستقوم بتوفيرها للمستوردين عبر مصنعي أسمنت عمران وباجل، ما يعني احتكار هذه المادة دون منافسين وبالتالي التحكم بسعرها. المضحك والمبكي في آن، أنك لم تعمل في خطتك بديلا لهذين المصنعين في حال تعرضا لأي أعطال فنية أو خارجة عن الإرادة قد تعرقل استمرار الإنتاج للكلنكر فترة من الزمن قد تطول بحيث تجد نفسك عاجزاً عن تغطية حاجة المصانع الخاصة من هذه المادة، وهو ما حدث فعلاً عندما قصف طيران العدوان الإسرائيلي أفران الحرق في مصنعي عمران وباجل فتوقفت عملية إنتاج الكلنكر.
سلع أخرى تضمنتها قائمة التوطين، (مثل الأغطية البلاستيكية والأمبولات للنفخ للصناعات الدوائية والمشروبات والعصائر والمياه ومستحضرات النظافة وغيرها).
إجمالي احتياج اليمن من الأمبولات والأغطية في اليوم الواحد 25 مليون أمبولة ومثلها أغطية بلاستيكية بألوانها المختلفة، و25 مليون ليبل، ونحو 20 مليون متر شرنك تغليف. 90٪ من هذه المنتجات نستوردها من السعودية و10٪ من عمان.
عندما تتخذ قرار توطينها، يجب في البداية أن تكون متأكدا بأن المصانع المحلية البديلة لديها القدرة على تغطية الاحتياج بنسبة 100٪، بذات الجودة والسعر، خصوصاً وأن هذه المصانع تحتاج رأسمالا تشغيليا في اليوم الواحد بأكثر من مليون دولار، لتغطية الطلب من هذه السلع.
لدينا 3 أو 4 مصانع، وهي لا تستطيع تغطية السوق لسببين، الأول أنها تحتاج إلى مواد خام تستوردها من نفس المصانع الخارجية بكميات مهولة. الثاني تحتاج إلى رأسمال تشغيلي كبير.

الحلول العملية للتوطين
ما هي الحلول الناجعة لتوطين المنتجات؟
الحلول تتمثل في تبني استراتيجيات تشاركية بين الدولة والقطاع الخاص والمستثمرين عبر إنشاء شركات تساهمية لإنتاج السلع المحلية المطلوبة، تشارك الدولة بنسبة 60٪ من رأس المال، فيما يساهم المستثمرون والتجار بنسبة 40٪، ما يضمن توزيع الأرباح والمخاطر، ويعزز الثقة. لا أن تأتي في يوم وليلة وتصدر قرارا تقول في مضمونة للتجار والمستوردين «مع السلامة.. الله معكم»، هذا رأسمال وطني، وأنت بذلك تدفعه للهجرة باستثماراته إلى الخارج.
يا أخي التخطيط يتم بهذه الطريقة، عندما تريد أن توطن منتج معين، أو إنشاء مشروع استثماري وطني كبير، عليك أن تفكر قبل كل ذلك بمصالح الجميع، مصلحة الوطن ومصلحة التجار ورؤوس الأموال ومصلحة المجتمع، وليس التفكير من طرف واحد.
يا سيدي الفاضل الدولة تستطيع توطين ما تريد من السلع والمنتجات الموجودة بدائل محلية لها، دون الحاجة إلى إحداث ضجة بقرارات متسرعة وربما غير مدروسة. هذا الأمر سيتحقق إذا تمت الإجابة على سؤال هام «لماذا التجار والمستوردون لا يتجهون لشراء المنتج المحلي بدلاً من الخارجي، طالما والمحلي متوفر؟».
السر يكمن في مصلحة التاجر والمستورد نفسه، ففي حال ضمنوا المصلحة في المكسب والامتيازات وليونة الإجراءات وجودة المنتج، فسيتركون التعامل مع الخارج من تلقاء أنفسهم. لكن المنتج المحلي غالباً ما يكون أغلى من المستورد وجودته منخفضة.
والسبب الرئيسي لارتفاع سعر التصنيع المحلي هو ارتفاع تكلفة الكهرباء، حيث إن الطاقة تمثل جزءاً كبيراً من تكلفة الإنتاج. وفي بلادنا التعرفة الكهربائية تعتبر الأغلى ربما على مستوى العالم. وطبيعي هذا ينعكس على سعر السلعة التي تنتجها، ولذلك من الضروري التركيز على توفير طاقة مستدامة ورخيصة

كيف نخرج من الأزمة الاقتصادية؟
ما المطلوب للخروج من الأزمة الاقتصادية؟ ومن يجب أن يتحمل المسؤولية؟
البلاد بحاجة إلى قيادة اقتصادية شجاعة تتخذ قرارات مدروسة، وتبادر بطرح المشاريع الاستثمارية الهامة بحسب الطلب والاحتياج، تكون الحكومة المساهم الأكبر في تلك المشاريع، وهو ما سيعزز بناء الثقة مع المستثمرين، وهذا يتطلب شفافية والتزاماً حقيقياً بالتنمية.
كذلك يجب كسب ثقة المجتمع، فإذا نجحت الحكومة في كسب ثقة المجتمع، فستجد أصحاب الأموال يأتون إليها للاستثمار. المواطن أو التاجر أو الرعوي أو الموظف براتب كبير، أو كل شخص يدخر بعض الأموال، هو في الأساس يرغب باستثمار هذه الأموال، ولكنه فقد الثقة بحكومته وبالبنوك، والدليل أن نحو 130 ألف مواطن ذهبوا للمساهمة بأموالهم في شركات تديرها ثلاث نساء، اتضح لاحقاً أنها شركات وهمية وغسيل أموال. أكثر من 211 مليار ريال دفعوها لهذه الشركات دون أي ضمانة سوى أنهم شعروا بأن هذه الشركات ستدر عليهم مكاسب وفوائد شهرية أو ربع سنوية، بدلاً من بقاء أموالهم مجمدة في بيوتهم. ومن بين أبرز الأسباب في ذلك أن الحكومة لم توجد نماذج استثمارية تساهمية مضمونة وناجحة.
الخلاصة في هذا كله: لن تنجح التنمية الصناعية والاستثمارية في البلاد دون أن تنظر الحكومة إلى القطاع الخاص كشريك حقيقي، تتحمل معه المسؤولية والمخاطر. المشاركة الحكومية الفاعلة والمباشرة في المشاريع الكبرى، وتوفير بيئة استثمارية آمنة، وبناء الثقة بين جميع الأطراف، هي الخطوات الأساسية التي لا بد منها لبناء اقتصاد وطني قوي ومزدهر.
إن نجاح مشاريع التوطين واستقطاب الاستثمارات يتطلب شجاعة القيادة السياسية وحكمة صناع القرار للابتعاد عن القرارات المتسرعة، والالتزام بخطط مدروسة تراعي مصالح الجميع. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج وطننا إلى رؤية واضحة وقرارات مسؤولة تضمن حماية الاقتصاد الوطني وتحسين مستوى معيشة المواطن. هذه الخطوات ليست رفاهية، بل ضرورة حتمية لضمان استقرار اقتصاد الوطن وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وخلق فرص عمل جديدة، فالمستقبل الاقتصادي لليمن مرهون بمدى قدرتنا على التعاون والابتكار في مواجهة التحديات. وغياب هذه الرؤية المتكاملة قد يؤدي إلى استمرار التدهور الاقتصادي وهجرة رؤوس الأموال، وهو ما لا يمكن أن يتحمله الوطن.