نشوان دماج / لا ميديا -
«كرش أمين العاصمة أكبر عائق أمام انسيابية حركة السير»، يعلق أحد المارة وهو ينظر كيف قامت أمانة العاصمة بمختلف مكاتبها برفع البسطات وعربات البيع المتنقلة من شارع هايل، بحجة معالجة أسباب الزحام وتسهيل حركة السير وانسيابها بشكل طبيعي، فضلا عن مسألة الحفاظ على المظهر الحضاري للمدينة/ العاصمة.
فهذه الجهات «المسؤولة» حريصة جدا على مسألة المظهر الجمالي، إلى درجة أنها تترك القمامة متكدسة لأسابيع في مواضعها وغير مواضعها، وتجعل من أسواق القات المنتشرة كالذباب والاختناق الذي تسببه في ساعات الظهيرة، ومن أكياس الخيش المتطايرة منها أسرابا هائلة في الفضاء، علامة على الرقي ومنح المدينة مظهرها الحضاري اللائق، فضلا عن المطبات والحفر المتحوصلة في الشوارع، وفضلا عن طفح مياه الصرف الصحي المنبعثة من غرف التفتيش والروائح المصاحبة التي تصل إلى كل أنف، بما فيها أنف أمين العاصمة نفسه. هذا كله لا يمكن له أن يؤثر على المظهر الجمالي. وحدها البسطات هي التي تفعل ذلك، وهي التي، بكثرتها وعشوائيتها، تشوه المظهر الجمالي للعاصمة، وبالتالي عليها أن تزاح، حتى لو كان ذلك معناه أن أرزاقا قُطعت وأسراً نُكبت.

فرض «مظهر حضاري» بالقوة
في ساعة الذروة، وتحديدا الرابعة عصرا، يتمدد شارع هايل مستسلما لأبواق السيارات وحدها وهي تعصف به آخذة راحتها بعد أن استفردت بالمكان وأصبح خالصا لها من دون أنواع الضجيج الأخرى. انتصرت أمانة العاصمة واستطاعت فرقها القتالية أن تفرض واقعا جديدا للشارع بعد أن أزاحت كافة البسطات والعربيات وألجأتها إلى شوارع فرعية منهية بذلك حقبة من الزحام والضوضاء ومانحة الشارع كما تزعم جمالا ومظهرا حضاريا لائقا.
(م. ل) صاحب معرض ملابس وسط شارع هايل، تحدث لصحيفة (لا) قائلا: قد تستغرب من جوابي بأن رفع البسطات لم يكن في صالحنا على الإطلاق مثلما قد يعتقد البعض، فالعكس تماما هو الذي حدث، حيث خف العمل ورقد السوق بشكل كبير جدا، وبإمكانك أن تسأل كل أصحاب المحلات، بل إنك ترى بعينك كم هي الحركة خفيفة في هذا الوقت الذي كان بمثابة ساعة ذروة.

معالجة الاختناق بالزحام بـ»خنق الأرزاق»
وحول انطباعه مما حدث لأصحاب البسطات، أجاب (م. ل): لم تكن المسألة بحاجة إلى ملثمين مدججين وأطقم بونانات راجفة وجرافات ومعدات. فهؤلاء ليسوا أكثر من باعة وأصحاب بسطات تكدسوا على هذا الشارع أو ذاك لأن ظروف الحرب والعدوان وخنق البلاد لم ترحم أحدا، فتكدسوا بحثا عن لقمة عيش لهم ولأسرهم. أي ضير في أن يتنازل الجماليون عن بعض نرجسيتهم ولا يرون في الأمر خدشا لحاستهم البصرية المتعالية، فيتكرمون بغض الطرف قليلا عن هؤلاء المكلومين نزوحا وبطالة وانعداما للمرتبات وفرص العمل، باعتبار أن العدوان والحصار فرضا همجيتهما علينا جميعا كيمنيين وعلى الموظفين بشكل خاص؟ فهل تأتي السلطات التي يفترض بها أن ترثي لهم وأن تساعدهم على تجاوز المحنة لتزيد من تأكيد وتعميق تلك الهمجية؟ عليها أن ترفق بالناس لا أن تزيد من التضييق عليهم وخنق أرزاقهم. أليس من المنطق أن الاختناق بالزحام هو أهون بكثير من خنق الأرزاق؟ ثم حتى يكون الناس قد استعادوا أنفاسهم واستقرت الأوضاع وعادت المياه إلى مجاريها، والمرتبات إلى موظفيها، حينها لكل حادث حديث.
صنعاء لا تفكر بعقلية المدن الطارئة
أما العامل الذي كان داخل المحل فكأنما استفزته مسألة الحفاظ على المظهر الجمالي للمدينة، فقال بحدية: هل البسطات التي معناها أرزاق يمكن أن تصبح مظهرا مشوِّها؟ أي مدينة هذه التي سترى في بسطات أبنائها التي يفترشونها على الشوارع -باعتبارها مصدر رزقهم- تشويها لمظهرها؟ هذه إساءة لصنعاء. فصنعاء التي وقفت في وجه العدوان والحصار كل هذه السنوات وتعرضت لقصف ودمار كبيرين، محتضنة أبناءها القادمين إليها من كل بقاع اليمن، حانية عليهم كما تفعل الأم، لهي أكرم من أن تفكر بعقلية المدن الطارئة أو بعقلية أمين العاصمة ومكاتب سلطته المحلية، فتقطع أرزاق الآلاف ممن اضطروا للبحث عن لقمة العيش، بحجة أنهم شوهوا مظهرها الجمالي بفرش بسطات لهم في هذا الزقاق أو ذلك الشارع، وفي ظروف استثنائية على كل المقاييس: عدوانا وحصارا ونزوحا وأوضاعا اقتصادية صعبة وانقطاع مرتبات وانعدام فرص العمل... إلخ.

وجهة نظر جمالية مغايرة
لكن سلطات الأمانة لديها وجهة نظر جمالية مختلفة تماما، وعليه فإن الحملة نجحت بحمد الله وأسفرت عن كنس كافة عربات وبسطات الباعة من الشارع وغيره من شوارع وأسواق العاصمة، وكبها في الشوارع المتفرعة هنا وهناك، كحل جوهري توصلت إليه للدفاع عن شوارعها الفخمة التي استوطنتها تلك «البسطات السرطانية» فشوهت مظهرها الجمالي وخنقتها إلى القدر الذي لم يعد باستطاعتها التنفس. وبذلك تكون صنعاء قد تعلمت من السلطات والمكاتب الخدمية كيف تبدو جميلة، لأن جمالها هو من ذلك المصطنع المجلوب إليها جلبا كحال مدن الزجاج، باعتبار أن تلك المدن وحدها هي التي يعتريها التشوه وتطرأ عليها الطوارئ، فتكون بحاجة إلى بلدية ومكتب أشغال ليجملوها بمثل هكذا حملات.

مرزوق المنكوب!
في أحد الشوارع المتفرعة من ذلك الـ»هايل» يقبع النازح (ع. س) في الموضع الذي اختير عشوائيا لعربيته «الكشك» ذات العجلات المتخالفة والتي تؤدي كل منها وجهة مختلفة عن الأخرى، لتتساءل كيف أمكن المجيء بها إلى هنا وهي بكل هذا التخالف والعجز. مدرس نازح من تعز، بنظارته الشاحبة ووجهه النحيل الداكن، حيث لم تترك له فصائل الارتزاق وعصابات الخونج هناك شيئا ينجو به سوى جلده، فاستقرت به بلدية صنعاء في ذلك الموضع يحصي خيبة وقوارير عطر نصف فارغة رصها بإتقان إلى جانب بعضها البعض، تاركا للمرايا الديكورية أن تكمل النقصان الهائل في زجاجات عطر نصف فارغة. سأعرف أنه قطع مسافة لا بأس بها لألتقيه ويقودني إلى كشكه. أول ما تبادر إلى ذهني هو أن أعتذر له عن أن ترك كشكه مفتوحا وجاء كل هذه المسافة، ليجيبني بسخرية: وما الذي سيسرقه السارق من كشك فارغ إلا من زجاجات و»صُلَع بخور»؟ كان الجواب مربكا ليبدأ بتعريفي على أصحابه الذين سبقهم إلى الدوام فلم يكونوا سوى طرابيل مشدودة بحبال ومتوزعة على الشارع: هذا الأخ مرزوق، سنة رابعة صيدلة، كان دخله اليومي ليس أقل من ستين ألف ريال. تراه في هذا الوقت قد خلع عنه بالطو الدراسة الأبيض ولبس مريلة العمل كطباخ فلافل لا يجد وقتا حتى ليرد عليك السلام. هذا الشخص لديه إخوة يدرسون هم أيضا ووراءه زوجة وأطفال وإيجار منزل. وكل هذا كان من مصدر رزقه «عربية الفلافل». الآن لم يعد دخله يتجاوز عشرة آلاف ريال، بعد أن نقلته البلدية بضعة أمتار فقط من ناصية الشارع نحو الداخل. هذه الخطوات القليلة كلفته خمسين ألف ريال يوميا لم يعد يحصل عليها، بحيث أصبح عمله بعشرة آلاف لا يكفي سعر البطاط الذي يشتريه مع بقية المقتضيات والأغراض. وقد يغير اسمه من الآن فصاعدا من مرزوق إلى منكوب.
وهذا الأخ غالي، مدرس نازح مثلي، وصاحب بسطة أرواب مغلقة حتى إشعار آخر. هو أكثرنا تفاؤلا بأن يعود الوضع إلى حاله، ربما بمظاهرة نسائية تطالب بإعادة أرواب غالي الرخيصة. حينها فقط يمكن أن يعود إلى فتح بسطته، أما الآن فهو في عصيان مدني منذ نصف شهر. (يضحك).

عبدالرحمن الفاتح!
ربما وجد الفرصة مناسبة ليعرض علي في تلك اللحظة خلطة «سبيشل» من عطور كشكه قال إنها ستظل عالقة في ثيابي لأيام، مواصلا حديثه وهو يسكب قطرات على ظهر يدي كعطار متمرس: البقية لم أتعرف عليهم بعد، باعتبار أننا جميعا جديدون على المكان، لكن الأمر لن يختلف معهم، فالجميع هنا عبارة عن بسطات مغلقة مثلما ترى. وباعتباري أنا الوحيد «الفاتح» هنا في هذه الأوقات فيمكنك أن تسميني «عبدالرحمن الفاتح».
قرأ في ملامحي بعض استغراب من هذا التعريف غير المتوقع بأشخاص «مغلقين»، فاقترح أن نذهب إلى شارع فرعي آخر، حيث سنعثر هناك على «فاتح» يشبهه. عدل من وضعية نظارته وهو يغادر كشكه على حاله، ليقودني إلى الشارع الرئيس الذي «كُنسوا» منه، حسب تعبيره.

خلف كل «بسطة» منزوعة أسرة جائعة
أشار بإصبعه إلى المكان الذي كان فيه قبل الكنس كأنما ليعرفني عليه هو أيضا، لكن دون أن يكون بحاجة إلى سخرية هذه المرة. بل اتخذ حديثه طابعا رسميا كما لو أنه يتحدث إلى أمين العاصمة، وهو ينفذ زيارة مفاجئة للمكان ويطلع على الوضع عن كثب: كان الأمر بحاجة إلى تنظيم فقط، فالشارع الذي هو أصلا ذو وجهة واحدة يتيح مساحة لبقاء البسطات على جانبيه دون أن يشكل ذلك عائقا كبيرا على سير السيارات. يقال في المثل (بعض الشر أهون من بعض) وبالتالي شر بقاء تلك البسطات على حالها أهون من شر إزالتها ورميها إلى مكان ناء يكون مصيرها معه الإغلاق. فوراء كل بسطة انتُزعت من مكانها وقُذف بها للصدفة في شارع فرعي قصة لا يعرفها إلا أصحابها الذين لا يجدون حيلة سواها في إعالة ذويهم، من أطفال ونساء وعجزة قابعين في البيوت. ليست مجرد بسطات، بل هذه أسر. هل تعلم يا حضرة أمين العاصمة ماذا يعني عدد 816 بسطة تم رفعها من شارع هايل وحده؟ بحسب إحصائيتكم الرسمية هذا العدد لا يعني سوى 816 بسطة تم إزالتها بسبب ما تسببه من زحام وتشويه للمظهر الجمالي للمدينة. أما بحسب إحصائيتنا نحن فإن هذا العدد يعني 816 أسرة تضررت من رفع مصدر رزقها الذي تسمونه بسطات. سنكون واقعيين أكثر منكم ونتحدث فقط عن حوالي خمسمائة بسطة تم رفعها، لا 816، باعتبار أن إحصائيتنا لا يراد منها استعراض منجزات وزيادة كلفة الكنس. لكن عدد خمسمائة بسطة يعني أيضا خمسمائة أسرة. أليس كذلك يا حضرة «الأمين»؟

مهندس مدني يبيع خردوات!
كان ينتظر مني في تلك اللحظة أن أصدر توجيها صارما بإعادة البسطات فورا إلى مواضعها التي كُنستْ منها، ولم يبق إلا أن يسأل «حضرتي» ما إذا كان لدي قلم لإصدار التوجيه، أم سيكون على طاولة مدير المكتب غدا صباحا وفقا للإجراءات وأوقات الدوام الرسمي. لكن المسافة لم تسعفه كثيرا فعاد إلى سخريته المريرة عند أول منعطف. دخلنا الشارع الفرعي حيث صاحبه. لكنه لم يجد سوى بسطة مغلقة أخرى، فصاح: «فينك يا خردة؟». أجابه صوت من ركن عمارة بلامبالاة. شاب في الثلاثينيات من عمره متكئ إلى «طوبة» وأمامه كيس قات يلوك أوراقا منه ويرمي بأوراق أخرى، دون أن يكترث لما يلوكه ولما يرميه. المهندس عمار، مهندس مدني، صاحب بسطة ألعاب وخردوات، تركها مقفلة على حالها وفضل أن يتناول القات على مقربة منها بلا اكتراث.

دعها مُغلقة!
«ماذا أصنع؟ لم أعد أُدخِل حتى ألف ريال في اليوم، وتريد مني أن أواصل. دعها مغلقة هكذا». كان كما لو أنه هو الآخر يخاطب بلدية حمود عباد نفسها ودون أن يعجبني أن أكون في ذلك الدور على الإطلاق، وأنا أحدثه عن الجمال والانسيابية وعن تولي جهات مسؤولة إزالة التشوهات ومعالجة مشاكل السير في شارع هايل الذي كُنست منه بسطته ليُكنس معها مصدر رزقه. كان جوابه قبل أن أنصرف: لا تحدثني عن الجمال في الوقت الذي تراني فيه أصارع لقمة العيش.