انتصار الأعور.. سورية في العقل الاستراتيجي لموشيه ديان
- تم النشر بواسطة سعيد محمد

خاص / لندن / سعيد محمد / لا ميديا -
تحققت الرؤية الأمنية طويلة الأمد لموشيه ديان تجاه سورية بسقوط نظام الأسد. على أن «إسرائيل» تكيّف استراتيجيته اليوم للتعامل مع واقع فوضى «ما بعد الدولة المركزية» في شمالها.
لم تكن سورية في نظر موشيه ديان، الشخصية العسكرية والسياسية الأكثر شهرة في «إسرائيل» في النصف الثاني من القرن العشرين، مجرد عدو عربي آخر على الحدود الشمالية، بل كانت تمثل تحدياً استراتيجياً معقداً ومتعدد الأوجه للمشروع الصهيوني في شرق المتوسط. ومنذ بداياته كقائد عسكري شاب وحتى أيامه الأخيرة كوزير للخارجية، شكلت سورية محوراً أساسياً في تفكيره، وتأرجحت رؤيته لها بين اعتبارها تهديداً وجودياً يتطلب رداً عنيفاً وحاسماً، وميداناً لتطبيق تكتيكات استفزازية مدروسة، وصولاً إلى كونها لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاهل ضرورات التعامل معه في أي تسوية مستقبلية.
تكوين ديان كـ«عقل استراتيجي فذ» تعود إلى بداياته كمقاتل في «البلماخ» (قوة النخبة في منظمة الهاجاناه الصهيونية، التي كانت بمثابة القوات غير الرسمية للمجتمع اليهودي في فلسطين تحت الانتداب البريطاني)، وهو ما غرس فيه رؤية للحرب كظاهرة تتطلب مرونة فائقة، وفهماً عميقاً للسياق الجغرافي والثقافي والسياسي الذي يجري فيه الصراع. تميز بقدرته على تبني أفكار متناقضة بصفة ديالكتيكية، وتفويض السلطة، وتطبيق مبادئ إدارية (مثل قاعدة 80:20)، ما سمح له دائماً بالتركيز على القضايا الجوهرية. لم يكن، وفق من درسوا سيرته المهنيّة مخططاً صارماً بقدر ما كان استراتيجياً مرناً، يصنع قراراته من رحم الواقع المتغير، ويجسد التفاعل الدائم بين الأبعاد العسكرية والسياسية، وهو ما يفسر الكثير من قراراته الجريئة والمثيرة للجدل تجاه سورية.
لفهم مكانة سورية في فكر ديان، لا بد من العودة إلى فترة ما قبل حرب العام 1967. في تلك المرحلة، لم تكن سورية بالضرورة الخصم الأقوى عسكرياً مقارنة بمصر؛ لكنها كانت الأكثر نشاطاً والأشد إزعاجاً على المستوى الأيديولوجي والتكتيكي. كانت دمشق، بدعم من الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، تتبنى خطاباً قومياً متشدداً، وتدعم العمليات الفدائية عبر الحدود. هذا الواقع شكل بالنسبة لديان مسرحاً مثالياً لتطبيق عقيدته الأمنية القائمة على المبادرة والردع العنيف ونقل المعركة إلى أرض الخصم.
شهادات ديان اللاحقة، وخاصة في حواراته المسجلة، كشفت عن تبنيه استراتيجية متعمدة من الاستفزاز، واعترف بأن «إسرائيل» كانت مسؤولة عن «أكثر من 80%» من الاشتباكات الحدودية مع سورية في تلك الفترة. كانت الخطة بسيطة وماكيافيلية في آن واحد: إرسال جرار زراعي لحراثة أرض في المنطقة المنزوعة السلاح، مع يقينه الأكيد بأن السوريين سيطلقون النار، وكان من شأن ذلك توفير الذريعة اللازمة لرد عسكري «إسرائيلي» واسع النطاق، باستخدام المدفعية وسلاح الجو، بهدف تحقيق مكاسب تكتيكية وفرض واقع أمني جديد يكرّس التفوق العسكري «الإسرائيلي».
حرب 1967 ومرتفعات الجولان: الضرورة الأمنية والطمع الاستراتيجي
شكلت حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967 ذروة تفكير ديان الاستراتيجي تجاه سورية. رغم أن تركيز «إسرائيل» الأولي كان على الجبهة المصرية؛ إلا أن الجبهة السورية سرعان ما أصبحت محور اهتمامه عندما شغل منصب وزير الدفاع. المثير للدهشة هو أن ديان كان في البداية متردداً في شن هجوم واسع النطاق لاحتلال مرتفعات الجولان؛ إذ كان يخشى من التورط في معركة صعبة ضد جيش سوري متحصن جيداً، بالإضافة إلى قلقه من ردة الفعل السوفييتية.
لكن هذا التردد سرعان ما تلاشى؛ فمع انهيار الجبهتين المصرية والأردنية، وتزايد الضغط من قادة الجيش والمستوطنات الشمالية التي كانت تتعرض للقصف السوري، قرر ديان في النهاية اغتنام فرصة استراتيجية قد لا تعوض؛ ليس إسكات المدفعية السورية فحسب، بل والسيطرة على الجولان: المرتفعات الشاهقة التي تمنح من يتحكم بها عمقاً استراتيجياً وميزة عسكرية ساحقة، بالإضافة إلى السيطرة على مصادر المياه الحيوية.
في شهاداته اللاحقة، قدم ديان تبريرات متضاربة لهذا القرار. فمن ناحية، تحدث عن الضرورة الأمنية المطلقة لحماية المستوطنات «الإسرائيلية»، ومن ناحية أخرى، ألمح إلى أن «شهية» المستوطنين للأراضي الزراعية الخصبة في الجولان كانت عاملاً مؤثراً. وقال في إحدى المقابلات: «رأى يهود الكيبوتسات الأرض الزراعية الخصبة أمامهم، ولطالما حلموا بمد أيديهم إليها». لقد امتزجت حينها الاعتبارات الأمنية المحضة مع رؤية توسعية عقائدية، ومصالح براغماتية. بالنسبة له، لم تعد مرتفعات الجولان مجرد درع واقية لـ«الدولة» العبريّة؛ ولكن أيضاً مكسباً عقائدياً واستراتيجياً لا يقدر بثمن.
ما بعد الحرب: إدارة الاحتلال والنظرة إلى حافظ الأسد
بعد حرب العام 1967، انتقل ديان من دور المخطط العسكري إلى دور الحاكم الفعلي للأراضي المحتلة. وفي الجولان، تعامل مع السكان الدروز المتبقين بنوع من البراغماتية الحذرة. فبينما تم تدمير معظم القرى السورية وتهجير سكانها، تبنى ديان سياسة تهدف إلى احتواء الدروز ودمجهم اقتصادياً، مع السعي لفصلهم سياسياً عن دمشق. كانت هذه السياسة جزءاً من رؤيته الأوسع لإدارة الصراع، والتي تقوم على «العصا والجزرة»، أي توفير منافع اقتصادية مقابل الهدوء الأمني.
لكن مع صعود حافظ الأسد إلى السلطة في سورية عام 1970، وجد ديان نفسه في مواجهة خصم من نوع جديد. لم يعد الأمر يتعلق بقيادة سياسية متقلبة في دمشق، وإنما بزعيم قوي، صبور، وذي رؤية استراتيجية طويلة الأمد. أدرك ديان سريعاً أن الأسد، على عكس القادة العرب الآخرين، لم يكن يسعى إلى مجرد جولة أخرى من القتال، بل كان يخطط لحرب تهدف إلى تغيير الواقع الاستراتيجي الذي فرضته هزيمة 1967.
جاءت حرب أكتوبر 1973 لتؤكد هذا التقييم. شكل الهجوم السوري المفاجئ على الجولان صدمة لديان وللقيادة «الإسرائيلية» بأكملها. في الأيام الأولى للحرب، ومع انهيار الخطوط الدفاعية «الإسرائيلية»، سيطرت على ديان حالة من التشاؤم العميق، حتى إنه تحدث عن «خراب الهيكل الثالث». لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه، ولعب دوراً حاسماً في إدارة المعركة على الجبهة الشمالية، حيث أمر بتركيز جهود سلاح الجو على وقف التقدم السوري، معتبراً أن الخطر القادم من دمشق أكثر تهديداً لوجود «إسرائيل» من الجبهة المصرية.
التفكير المتأخر: هل كان السلام ممكناً؟
في سنواته الأخيرة، وبعد أن ترك منصب وزير الدفاع، ثم كوزير للخارجية في حكومة مناحيم بيغن، بدت أفكار ديان حول سوريا أكثر تعقيداً. فمن ناحية، ظل متمسكاً بالأهمية الاستراتيجية القصوى لمرتفعات الجولان، وردد مقولته الشهيرة بأن «شرم الشيخ بدون سلام أفضل من سلام بدون شرم الشيخ»، وهو منطق يمكن تطبيقه بسهولة على الجولان، ومن ناحية أخرى، أظهر ديان في محادثاته مع الدبلوماسيين الأمريكيين، مثل هنري كيسنجر، استعداداً لمناقشة تسويات إقليمية. كان يدرك أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن «إسرائيل» لا تستطيع «السيطرة على شعب آخر» إلى ما لا نهاية. لكنه كان يرى أن أي انسحاب «إسرائيلي» يجب أن تقابله ترتيبات أمنية صارمة وتطبيع كامل للعلاقات، وهو ما لم يكن وارداً على الإطلاق في قاموس حافظ الأسد. ولذلك، بقيت رؤيته لسوريا محكومة بعدم ثقة عميق في نوايا نظام البعث في دمشق، ولم يؤمن بإمكانية التوصل إلى سلام حقيقي مع سوريا مادام الأسد موجوداً في السلطة، وكان على يقين تام أن أي اتفاق لن يكون أكثر من مجرد هدنة تكتيكية.
ما بعد سقوط دمشق: انتصار الأعور وتحول التهديد
بعد عقود من بقاء الجبهة السورية كأخطر التحديات العسكرية التقليدية لـ»إسرائيل»، جاء سقوط نظام (بشار) الأسد في دمشق في 8 ديسمبر 2024 ليضع إرث موشيه ديان الاستراتيجي في سياق جديد تماماً. لطالما نظر ديان إلى سوريا ككيان دولتي منظم يشكل تهديداً وجودياً، وبنى استراتيجيته على أساس الردع الدائم والاحتفاظ بمرتفعات الجولان كدرع لا يمكن التنازل عنه.
من منظور استراتيجي بحت، يمكن القول إن انهيار الدولة السورية المركزية المعادية يحقق، بشكل مباشر، الهدف الأسمى الذي سعى إليه ديان دائماً: تحييد الخطر العسكري التقليدي القادم من دمشق. فبزوال الجيش العربي السوري كقوة منظمة قادرة على خوض حرب شاملة، تكون «إسرائيل» قد أزالت أكبر وأخطر خصم عسكري مباشر لها منذ تأسيسها. هذا التحول التاريخي يُنظر إليه في الأوساط الاستراتيجية «الإسرائيلية» على أنه انتصار بعيد المدى، وتتويج لعقيدة أمنية وضع ديان الأعور -الذي اشتهر بعصابة عينه المفقودة السوداء- أسسها.
لكن هذا الانتصار يفتح الباب في الوقت ذاته أمام تحديات من نوع جديد وأكثر تعقيداً. فبدلاً من مواجهة جيش نظامي يمكن التنبؤ بتحركاته، تواجه «إسرائيل» الآن واقعاً سورياً مجزأً قد يتحول إلى بيئة فوضوية خصبة لجماعات مسلحة متنوعة الولاءات، مما يحول التهديد الأمني من خطر تقليدي واضح إلى خطر غير متناظر ومنتشر. وبهذا، يكون جزء من رؤية ديان الأمنية قد تحقق، ولكنه تطور إلى شكل جديد من التحدي الذي ربما لم يتوقعه ديان نفسه، مما فرض على «إسرائيل» تكييف استراتيجيتها لتناسب واقع «ما بعد الدولة» على حدودها الشمالية.
أولى هذه التحركات في هذا الاتجاه كانت التمدد لفرض السيطرة الكاملة على هضبة الجولان، وتحويلها من خط دفاع متقدم إلى جزء لا يتجزأ من السيادة «الإسرائيلية» بشكل نهائي، وهو ما يمثل التتويج العملي للرؤية الأمنية التي رسخها ديان بعد عام 1967. وفي موازاة ذلك، تبنت «إسرائيل» سياسة نشطة تجاه الجنوب السوري، حيث عملت على دعم دروز السويداء وتوفير الحماية لهم، في خطوة لا تقتصر على البعد الإنساني، بل تهدف إلى خلق منطقة نفوذ حليفة وعازلة.
هذه السياسات الجزئية تندرج ضمن محاولة أوسع لفرض هيمنة استراتيجية على كل الجنوب السوري. ويتم ذلك ليس فقط عبر القوة العسكرية، بل من خلال السعي لعقد تفاهمات أمنية مع النظام الجديد في دمشق، يتولى فيها الأصدقاء القدامى -الذين دعمتهم «إسرائيل» خلال صراعهم مع نظام الأسد الابن- ضمان حدود هادئة لـ»الدولة» العبريّة، ومنع تحول المنطقة إلى قاعدة لقوى معادية. وبهذا، تكون «إسرائيل» قد انتقلت من استراتيجية «الردع» التي صاغها ديان ضد جيش نظامي، إلى استراتيجية «الهيمنة والتأثير» في بيئة مجزأة.
لقد شغلت سوريا مساحة فريدة في العقل الاستراتيجي لموشيه ديان، تاركةً وراءها إرثاً مركباً وممتداً. فهو الذي أمّن لـ»إسرائيل» مرتفعات الجولان ورسّخ عقيدة القوة التي أدت في النهاية إلى تحييد خطر وجودي فادح مثلته سوريا الأسد. لكنه في الوقت ذاته، جعل أي تسوية سلمية أمراً بعيد المنال، تاركاً الخيار العسكري والأمني الوحيد المطروح على الطاولة في التعامل مع الجبهة السورية. ويتجسد إرث ديان الفكري اليوم في تكييف «إسرائيل» أدواتها ببراعة، لتحويل تحدي «واقع ما بعد دولة البعث» إلى فرصة لتأسيس نظام هيمنة أمنية إقليمية أكثر استقراراً من منظورها.
المصدر سعيد محمد