دمشق  - خاص / لا ميديا -
في خطوة هي الأولى من نوعها، منذ سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وسيطرة حركة «تحرير الشام» والمجموعات المسلحة المتحالفة معها بقيادة «أحمد الشرع» (أبا محمد الجولاني) على الحكم في سورية قبل حوالى العام، ينتفض المجتمع الدمشقي، ويصدر بياناً عن تجار ووجهاء العاصمة، يُخرج بعضاً مما في صدور السوريين عموماً، والدمشقيين خصوصاً، من حالة الغضب من ممارسات السلطة، والتي لم تعد تطاق.
وجاء في البيان الصادر عن تجار ووجهاء دمشق: «في ظل ما تمر به بلادنا، من ضيق اقتصادي خانق، وسياسات جائرة أرهقت الناس وأطفأت أنوار المدينة برفع أسعار الكهرباء وإغلاق المحال وملاحقة الأرزاق، وفي أعقاب الاعتداء الآثم على الشيخ محمد خير الشعال، أحد رموز الكلمة الحرة، نعلن ما يلي:
1. نرفض كل القرارات الجائرة التي مست حياة الناس اليومية، وفي مقدمتها رفع تسعيرة الكهرباء، الذي دمر مصالح التجار وأتعب البيوت.
2. نستنكر الاعتداء على العلماء والدعاة والوجهاء، ونعتبره اعتداء على دمشق كلها.
3. نعلن عن انطلاق حراك سلمي واسع، يبدأ بإضراب عام، يشمل الأسواق والفعاليات التجارية في العاصمة، تأكيداً على وحدة الموقف ورفض الظلم.
4. نهيب بجميع أهل دمشق، من تجار وأصحاب مهن وطلاب وموظفين، أن يلتزموا بالإضراب، ويعبروا عن موقفهم بكرامة ومسؤولية، دون أي مظاهر فوضى أو تخريب.
5. نحذّر من أي محاولات لقمع المتظاهرين أو ترويعهم، ونحمّل الجهات المعنية كامل المسؤولية عن سلامة المواطنين.
إن صوت دمشق سيبقى حُرّاً، وإرادة أهلها أقوى من الجوع والظلم والخوف».
في تحليل للغة البيان، فإن العارف بتاريخ دمشق، وأدبيات نخبها، يدرك أن عبارات البيان تحمل أقوى أنواع التعبير عن الغضب، والتحذير مما يحصل، ومن الوقوف في وجه أهل دمشق، أو التعرض للمحتجين.
المتابع للأوضاع في سورية عموماً، ودمشق خصوصاً، يدرك أن البيان جاء بعدما بلغ الغضب الدمشقي حداً لا يمكن السكوت عليه، بعد سلسلة من الممارسات والقرارات الجائرة، ومنها:
- التشدد الديني، ومحاولة فرض عقائد وشرائع غريبة على المجتمع الدمشقي، الذي ينتمي بمعظمه إلى مذاهب صوفية أشعرية وماتريدية معتدلة، واتهامهم بأنهم منحرفون عن العقيدة، والسيطرة على المساجد، وتعيين أئمتها من التيارات التكفيرية المتشددة.
- غضب تجار دمشق بسبب إلغاء «نظام الفروغ» المعمول به منذ خمسينيات القرن الماضي، والذي يشمل معظم المحلات التجارية في دمشق، ويعطي «أصحاب الفروغ» حق الانتفاع طويل الأمد، بمقابل مالي أولي وإيجار سنوي ونسبة عند البيع، إضافة إلى ما يفرضونه على التجار وأصحاب المحلات من ضرائب ومخالفات متكررة.
كما أن حرمان قطاعات واسعة من المجتمع من رواتبها، والغلاء الذي أكل ما تبقى من الرواتب، جعل المحلات شبه خالية من الزبائن، وأوقف الكثير من المعامل والمصانع.
- حالة الفوضى والممارسات التي تقوم بها السلطة ورجالاتها، واستباحتهم للكرامات والحرمات، مثل التعرض للناس في موضوع الاختلاط وحجاب النساء والإقامة في الساحات والأماكن العامة وحفلات الرقص والدبكة، وما يرافقها من تخريب للأشجار والغطاء الأخضر وانتشار للأوساخ.
- تغيير المناهج الدراسية، والعبث بتاريخ دمشق، وتشويه سمعة رجالاتها التاريخيين، مثل الشهداء الذين أعدمهم السفاح العثماني جمال باشا، في 6 إيار/ مايو 1916، والذي كان يعتبر يوماً وطنياً للشهداء في سورية، وتحولوا في كتب التاريخ الجديدة، إلى عملاء للفرنسيين والإنكليز، وأعدمتهم السلطات «الوطنية»، كما تم إلغاء خريطة لواء إسكندرون، الذي تحتله تركيا، من خرائط سورية.
- استشراس حالة الفساد، وسطو رجالات السلطة على أموال الضرائب والمعابر، والسيطرة على بيوت ومصانع وأملاك شخصية لتجار ورجال أعمال، لمصالحهم الخاصة وليس للدولة ووفق القانون، بذريعة أنها تعود لرجال النظام السابق، إضافة إلى عمليات خطف رجال أعمال، لابتزازهم وإطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية طائلة.
- عملية التطبيع المتسارعة التي تسعى فيها السطات مع العدو «الإسرائيلي»، والتفريط بالحقوق السورية، وحالة العجز التي تبديها السلطة أمام العدو «الإسرائيلي» الذي سيطر على أراضٍ جديدة في الجولان وجنوب سورية، والوصول إلى ما يبعُد كيلومترات قليلة عن دمشق، وتسجيل دخول «إسرائيليين» بشكل متواصل إلى دمشق، وظهورهم في فيديوهات مصورة ومباشرة منها.
- والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت قرار رفع الكهرباء بشكل جائر، وصل إلى 600 ضعف، ما أثار صدمة وموجة واسعة من الاستياء في كل المجتمع السوري وطبقة رجال الأعمال والتجار والصناعيين، الذين ستتوقف أعمالهم ونشاطاتهم، خاصة في ظل الفقر الذي يعاني منه المجتمع السوري، وضَعف رواتب الموظفين، وسط معلومات بأن هذه الزيارة المرعبة تمت بطلب من شركات تركية تعمل للسيطرة على قطاع الكهرباء في سورية، وانكشاف عملية التضليل التي قامت بها السلطة في هذا القطاع، مع امتناع قطر عن تزويد سورية بالغاز، وفشل صفقة الغاز مع أذربيجان.
كما أن الأيام القادمة ستشهد رفعاً لأسعار الاتصالات والانترنت أيضاً، بسبب محاولات الشركات التركية السيطرة على هذا القطاع.
أما عن تأثير البيان الدمشقي، فقد أسقط أهم سردية حاولت السلطة روايتها للتغيير في هرم السطلة، بأنها أعادت السلطة إلى الأكثرية «السُّنّية»، متناسية أن أمور الدول وقيادة الشعوب تتم على أسس وطنية، وليس على أسس طائفية أو عرقية، وأن المجتمع الدمشقي العريق في أمور التجارة والصناعة لا تهمه هذه التوصيفات، سواء في العمل والتوظيف أو في التجارة والتسويق.
كما أن البيان الدمشقي سيشجع بقية المحافظات الأخرى على الانتفاض على السلطة، وخاصة في حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية، والمتضررة أكثر من دمشق، من إجراءات وممارسات السلطة.
أيضاً يكسر البيان الدمشقي حالة الخوف التي سيطرت على بقية المكونات السورية، ممن يطلق عليهم «الأقليات»، التي تعرضت لمجازر ومذابح، ولا تزال تتعرض لحالة التضييق والانفلات الأمني، وعمليات القتل والسرقة التي تقوم بها عناصر السلطة.
هذا يؤكد أن مرحلة الصمت وإعطاء الفرص انتهت، وما تحذير البيان للسلطات، من أي محاولة لقمع المتظاهرين، إلا إنذار بأن أي مساس بالمحتجين لن يبقي الإضراب سلمياً، وسيليه خطوات أقوى وأشد.