رحلة إلى أرض الملكة الشابة (لوسي)
- وميض شاكر الأربعاء , 7 ديـسـمـبـر , 2016 الساعة 1:27:22 PM
- 0 تعليقات
كنت أعلم أن (لوسي) تقيم هنا، على بعد غرفة مني. كنت أعلم أنها الآن مسترخية بوقار ككل الملكات، ولكن من دون حرب أو أسطورة. كنت أعلم أن قلبي الآن يدق وبكل وجل. سأرى لوسي وجهاً لوجه، سأرى تلك التي فاجأت العالم وهزت شجرة البشرية بـ45% من بقايا هيكلها العظمي المنتصب أمامي هذه اللحظة. هذا الانتصاب الذي تعجز عن فعله القرود والشمبانزي، وقدرت على فعله لوسي قبل ثلاثة ملايين و500 ألف سنة.
مثلي تماماً، وأنا أنظر إلى جذعها المعلق على جدار المتحف، كانت لوسي تنظر إليَّ.
لأسنان لوسي نابان صغيران، لمست أسناني متفقدة أنيابي. كانت أنيابي ناقصة واحداً، لكن أنياب لوسي كانت مكتملة. للوسي إبهامان في اليد، ومثلهما في القدمين، طيعا الحركة، كانا يساعدانها على العمل، وربما الكتابة كما أفعل الآن. لا يزيد طول لوسي عن 150سم، أقصر قليلاً من رفيقها الذكر، بالضبط كما هو حال الذكور اليوم، أطول قليلاً.
لوسي كانت تأكل العشب وأوراق الشجر، وعلى جسدها شعر، جمجمتها أصغر من القرود، ومثبتة إلى الأمام، وعظام حوضها إلى الداخل، ليحفظ الأحشاء والأجنة. (ممنوع اللمس!)، عبارة مكتوبة فوق كل صندوق زجاجي، وعلى كل لوحة معروضة في المتحف. ممنوع اللمس في هذا المتحف! ممنوع العناق قطعاً، ممنوع بكل تأكيد يا لوسي.
هنا، في المتحف الوطني لأديس أبابا، أربعة طوابق: الأرضي يختص بالحفريات، الأول بممالك إثيوبيا، الثاني بالفن الإثيوبي، الثالث بالحياة الإثيوبية. وهناك طابق آخر، مشترك بين الطوابق الأربعة، مبهج ومتحرك، إنه طابور طلاب المدارس الصغار يلتوي بين السلالم جيئة وذهاباً دون تعب.
إذا فكرت بزيارة طوابق المتحف، عليك أن تضع خطتك لا على أساس التسلسل المنطقي للطوابق الأربعة، بل تبعاً لتواجد طابور الطلاب، ومن ثم تفاديه. فإذا كانوا في الأرضي، قد تبدأ من الثالث مادام أن هناك ثلاثة طوابق كاملة، بل ثلاث حيوات تبعدك عنهم. لا لشيء، فقط لأنهم أكثر حياة وحقيقة من كل الطوابق التي تكلفت جهد المجيء إليها لتراها ميتة.
ذهبت الى الطابق الثالث تاركة طابور الطلاب في الطابق الأرضي، تعرفتُ هناك على (مينيليك الثاني) وحصانه وبزته وخوذته. بنى الملك مينيليك الثاني أديس أبابا في القرن التاسع عشر، وأطلقت عليها زوجته الاسم (أديس أبابا) ويعني الوردة الجديدة. ماذا لو لم يكن هناك ملكات؟! لربما انتهت الورود من المدن!
مينيليك الثاني كان الملك الأقل جمالاً بين كل الملوك الذين رأيتهم في الطابق الثالث. 225 ملكاً ذكراً من مينيليك الأول (ابن الملكة بلقيس- أو مكيدا (ماجدة) عند الإثيوبيين- والنبي سليمان)، قد توارثوا الحكم حتى (هيلي سيلاسي)، الذي كان يملك كرسياً عظيماً بارتفاع الطابق، أعيد مؤخراً من إيطاليا.
عدت إلى الطابق الأرضي، بعد أن تأكدت أن طابور الطلاب قد غادره. على بوابة الطابق الأرضي يستقبلك مرشد المتحف. إنهم يعرفون أن هذا الطابق هو الأهم والأجدر بمرشد شاب يعرف علم الحفريات جيداً. يبدأ المرشد شرحه بالتفريق بين ما هو (عظم) وما هو (حفرية). الحفرية تشبه العظم تماماً، إلا أن وزنها أخف كثيراً بفعل عوامل الطبيعة وطول الزمن، طوله الكبير الواصل حد عمر لوسي، حد ثلاثة ملايين سنة وأكثر.
في جوفه، يخبئ الطابق الأرضي لمتحف أديس أبابا الوطني، حفريات القردة الوسطى، كائنات الافتراق التطوري، وهي الفترة التي انقسم فيها تطور السلف المشترك ما بين الإنسان والقردة، إلى خطين. أعطى الخط الأول الإنسان، وأعطى الآخر القردة. خط الإنسان ذاك كانت تقوده القردة (لوسي).
في الليلة التي غنى فيها (البيتلز) عام 1974م، أغنية (لوسي تغني في السماء)، اكتشف عالم الأحافير الأمريكي، تيم وايت، لوسي، أو (دينكش) عند الإثيوبيين، فسماها لوسي. اكتشف وايت لوسي وقد رحلت قديماً جداً، بسلام رحلت من دون أن تورث 225 ملكاً ذكراً، من دون عرش ومن دون جان، ومن دون حرب أو أسطورة.
رحلت لوسي مخلفة وراءها طفلتها (سلام). وقبل 3,4 مليون سنة، جرف سيل منطقة (عفار)، جنوب إثيوبيا، جرف معه سلام أيضاً، وماتت المسكينة قبل أن تكمل الثالثة من العمر.
يوم غنت السماء، ولدت لوسي. ويوم بكت الأرض، ماتت سلام. لكن رغم ذلك، للوسي أجيال، ولأجيال لوسي كل البشر.
المصدر وميض شاكر
زيارة جميع مقالات: وميض شاكر