عبدالرحمن هاشم اللاحجي

عبدالرحمن هاشم اللاحجي / لا ميديا -
أعلن البنك المركزي اليمني بصنعاء، أواخر رمضان الماضي، قيامه بضخ عملة معدنية جديدة إلى الاقتصاد اليمني كبديل عن العملة الورقية التالفة فئة (100) ريال. أثارت تلك الخطوة السيادية المفاجئة حفيظة السواد الأعظم من الناشطين والمثقفين والمحللين الاقتصاديين وقادة الرأي العام، أفراداً وجماعات؛ فتنوعت الآراء ما بين مؤيدة ومعارضة ومحذرة، وكأن اليمن مُقبل على كارثة اقتصادية لا تُحمد عقباها.
يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على أن طباعة عملة بديلة لن يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية لوحدة النقد المحلية، وارتفاع الأسعار؛ وذلك لكون القاعدة النقدية والعرض النقدي ثابتين. كما أن معدل دوران النقود يتأثر بعوامل أخرى غير استبدال العملات بأنواعها: المعدنية، الورقية، والإلكترونية. بالتالي فإن غاية ما يمكن أن تُحدثه عملية الاستبدال هو تسهيل التبادلات التجارية بين الأفراد، والحفاظ عليهم من الأوبئة المصاحبة للنقود الورقية التالفة.
دعوني من فضلكم، وقبل الحديث عن الأسباب الجوهرية المتعلقة بالتحول الاستراتيجي إلى قاعدة الذهب، أستعرض معكم التطور التاريخي الذي حدث للنقود خلال المائة سنة الماضية، إذ يُعتبر هذا التناول مهماً لسببين:
الأول: من أجل التعرف على القواعد النقدية التي سادت اقتصاديات دول العالم، والعوامل التي أدت إلى تغييرها، والانعكاسات المباشرة التي أحدثها هذا التغيير على الاقتصاد الدولي، وكذا حقيقة المؤامرة التي حدثت بعد انتصار دول الحلفاء في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
الثاني: من أجل التوصل إلى القاعدة النقدية الأنسب للاقتصاد اليمني المقاوم. فالاقتصاد اليمني بحاجة إلى قاعدة نقدية متينة تتناسب مع خصوصيته وواقعه الحالي، خصوصاً في ظل النوايا المبيتة لدى النظام العالمي الحالي لتدميره والقضاء عليه.
حتى ما قبل ثلاثينيات القرن الماضي كانت قاعدة الذهب هي القاعدة النقدية السائدة في اقتصاديات جميع دول العالم بلا استثناء. المبادلات التجارية، والتسويات المتعلقة بها، سواء في ميزان المدفوعات أو بين الأفراد والشركات المختلفة، كانت تتم بواسطة المعدن النفيس (الذهب والفضة). نتيجة لذلك لم تظهر أية مشاكل اقتصادية؛ إذ كانت كمية العمل المبذولة في التنقيب عن المعدن، وتنقيته وصكه، توازي كمية العمل المبذولة على إنتاج أية سلعة أخرى، وبالتالي فإن التوازنات الآلية في الاقتصاد كانت تتم مباشرة، وبدون الحاجة حتى إلى التدخلات من قبل الدولة لإحداث أي تغيير في متغيرات الاقتصاد الكلي.
أدى انتصار دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى إلى إحلال النقود النائبة (النقود الورقية المغطاة بالذهب) بديلاً عن المصكوكات المعدنية، فقد هدفت الدول المنتصرة من وراء هذا الإحلال إلى التعجيل بنمو الاقتصاد الدولي، وذلك لمعالجة مخلفات الحرب، خصوصاً ألمانيا الاتحادية التي أُجبرت على دفع فاتورة الحرب بقيمة تقدر بحوالى 269 مليار مارك. نتيجة لذلك اختلت التوازنات الاقتصادية، وظهرت لأول مرة أزمة الكساد (الركود) عام 1928.
في محاولة لمعالجة أزمة الركود العالمي قدم الاقتصادي البريطاني جون كينز، عام 1936 مجموعة من الأفكار التي نادت في مجملها بضرورة طباعة النقود الورقية بدون أي غطاء ذهبي مع الأسف. رغم أن الحلول التي قدمها جون كينز هدفت في الظاهر إلى تحفيز الطلب الكلي، وإنعاش الاقتصاد، إلا أن باطنها في الواقع لم يكن سوى خدعة لسحب ذهب الشعوب، وإغراقها بعملات ورقية (عديمة القيمة).
الدليل أن تلك المعالجات لم تستمر طويلاً حتى ظهرت مشكلة اقتصادية أخرى لم تعرفها البشرية من قبل تمثلت بمشكلة “التضخم”. الدول التي استجابت لأفكار كينز وطبقتها عانت كثيراً من الارتفاع المفرط في الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك قبل أن تحاول الدول المنتصرة في الحرب (وتحديداً بريطانيا، أمريكا، وفرنسا) احتواء تلك المشكلة في مؤتمر “برايتون وودز” (1944)، من خلال تأسيسها للبنك وصندوق النقد الدوليين.
أتاح مؤتمر “برايتون وودز” للدول التي تعاني من مشكلة التضخم الحفاظ على عملتها، من خلال ربطها بالذهب، فاتجهت عشرات الآلاف من أطنان الذهب والفضة من دول العالم -عن حسن نية- إلى البنك الدولي، وذلك بناء على وعد من الولايات المتحدة بثبات سعر الصرف بين (الذهب/ الدولار) وسداد قيمة الدولار ذهباً عند الطلب. لكن هذا الوعد لم يستمر طويلاً، حيث أعلنت الولايات المتحدة، في عام 1971، على لسان رئيسها ريتشارد نيكسون، فك ارتباط الدولار بالذهب، لتدخل البشرية في دوامة جديدة، وتطفو على السطح مشكلة أخرى جمعت هذه المرة بين التضخم والركود، في سابقة لم تكن لتخطر على بال أحد من العالمين.
منذ ذلك (نكسة نكسون) وحتى اليوم، تُفكر الدول ملياً بالعودة إلى قاعدة الذهب، دون جدوى! الدول التي دخلت في دهاليز النظام العالمي وجدت نفسها حبيسة قرارات وتوجيهات البنك الدولي، الذي تحتفظ لديه بعشرات التريليونات من الدولارات على هيئة احتياطيات مالية متنوعة، وللحد الذي عجزت فيه عن التخلص من تلك الفكاك الشيطانية، رغم رغبتها القوية في هذا الأمر.
من حسن حظ الدولة اليمنية الحديثة أنها ليس لديها احتياطيات مالية ضخمة بالدولار الأمريكي لدى البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي لتخشى الابتزاز أو المساومة، إن رغبت بالتحول إلى قاعدة الذهب. تمثل قاعدة الذهب الدرع الحصينة لاقتصاد خالٍ من المشاكل الاقتصادية. إضافة لذلك يمكن إيجاز أهم الأسباب الأخرى الدافعة باتجاه التحول الاستراتيجي إلى قاعدة الذهب في النقاط التالية:
أن الاقتصاد العالمي على مشارف أزمة غير مسبوقة؛ إذ تؤكد التقارير الصادرة عن مراكز البحوث الاقتصادية العالمية أن مديونية الدول وصلت إلى أرقام مخيفة، وفي ظل عدم وجود غطاء من الأصول الحقيقية المقابلة لهذه الديون فإن سقف التوقعات بانهيار النظام الاقتصادي الحالي يرتفع بدرجة كبيرة. في الحقيقة لم يتم معالجة أزمة الكساد العظيم من خلال النظر إلى مسبباتها، ويأتي على رأسها تغيير قاعدة الذهب بقاعدة النقد الورقي، بل من خلال أفكار شيطانية أدت في المجمل العام إلى زيادة الطين بلة.
ما يدعم هذا التوقع هو المتغيرات السياسية الراهنة التي أحدثتها حرب غزة وعمليات البحر الأحمر وبروز أقطاب دولية جديدة في الساحة العالمية. إذا كان عامل الثقة هو العامل الوحيد الباقي على الاقتصاد المالي العالمي حتى الآن، فإن الخسائر التي تكبدها الاقتصاد البريطاني والأمريكي خلال هذه الحرب ولايزال يتكبدها حتى اللحظة تُنذر بانهيار هذا العامل. بالتالي تُمثل العودة إلى قاعدة الذهب طوق نجاة لكل دول العالم. إن من الأنسب أن يبدأ اليمن فعلاً بالتحضير لهذا الطوق منذ الآن.
إنها رغبة ثورية. ولعل دعوات البنك المركزي اليمني المستمرة بضرورة التحول إلى الاقتصاد الحقيقي تؤكد هذه الرغبة. تمثل قاعدة الذهب مدماك الاقتصاد الحقيقي، حيث تكون قيمة النقود موجودة في العملة ذاتها، وبالتالي بإمكان الأشخاص الاحتفاظ بهذه النقود كمخزن للقيمة أو كوسيط للمبادلات التجارية أو بيعها كسلعة في السوق المحلية أو الأجنبية.
بلا شك أن الاقتصاد اليمني سيعاني من العزل الدولي مستقبلا، ما يعني أن الاقتصاد اليمني سيكون أقرب إلى “الاقتصاديات المغلقة”. يُعد مثل هذا النوع ملائماً للتحول إلى قاعدة الذهب كقاعدة نقدية متينة بإمكانها بناء اقتصاد ذاتي (حقيقي)، بعيداً عن هيمنة اقتصاديات الاستعمار.
تُظهر الدراسات الجيولوجية أن اليمن تمتلك من الموارد ما يساعدها على تحقيق هذا التحول الهام، إذ تتميز جبالها بتواجد جيد للمعادن. لقد كان قرار إلزام الصناديق السيادية للدولة بالاستثمار في الشركات الاستخراجية، خصوصاً العاملة في مجال استخراج المعادن كالذهب والفضة والنحاس... خطوة موفقة للغاية. وما نأمله هو أن تكون هذه الخطوة ما تزال فعّالة حتى الآن.
مستقبل واعد بالخير الوفير ينتظره اليمنيون بجميع فئاتهم وتوجهاتهم ومناطقهم دون استثناء. يبقى فقط التحلي بالروح الثورية التواقة للكرامة والحرية. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

أترك تعليقاً

التعليقات