جميل المقرمي

جميل المقرمي / لا ميديا -
لم يكن استشهاد السيد حسن نصر الله مجرد نهاية لقائد مقاوم، بل كان بداية لتحول استراتيجي يتجاوز حدود لبنان. فقد مثّل الرجل خلال أكثر من عقدين حارساً متقدماً لبوابات الأمة، لم يحُمِ لبنان فحسب، بل كان عاملاً حاسماً في صمود سورية، وتماسك العراق، وامتناع العدوان المباشر على إيران، وبقاء غزة صامدة في وجه المجازر.
رحيل السيد حسن كشف الفراغ الذي تركه هذا الرجل العظيم والقائد الفذ على الصعيدين المحلي والإقليمي في لبنان، إذ بدأت تظهر ملامح ارتباك داخلي، ليس على مستوى حزب الله فقط، بل على مجمل النسيج الوطني، الذي كان يتكئ -بوعي أو بدون وعي- على قوة الردع التي صنعها خطاب المقاومة وسلاحها. استُبدل بالتصعيد العسكري حرب ناعمة تخنق المقاومة اقتصادياً وتشوهها إعلامياً، وتراهن على تحريك بيئات داخلية مرتبكة أصلاً، وعلى تدخلات خارجية بدأت تُطرح بوقاحة فجة تحت اسم «الإنقاذ الدولي».
المفارقة أن الغدر لا يأتي فقط من الشمال أو الغرب، بل ربما من الشرق أيضاً. وتحذير الشيخ نعيم قاسم من خطر تحريك «الدواعش» على الحدود الشرقية للبنان لم يكن مبالغة، بل قراءة دقيقة في كتاب المؤامرة. فواشنطن، التي أحيت «داعش» في سورية والعراق خلال الأشهر الماضية، قادرة على أن تفعلها مجدداً، وتهيئ جبهة رخوة لضرب ظهر المقاومة، وتفتح ممرّات للفوضى المنظمة، تمهيداً لعدوان أو تسوية إذلال.
المشهد لا يقف عند حدود لبنان، بل إن المنطقة برمتها تقف اليوم على أعتاب مرحلة فارقة. غزة تتعرض يومياً لإبادة منظمة. وسورية تُجفف اقتصادياً وتُقسَّم سياسياً. والعراق يُستنزف بأدوات أمريكية متنوعة. وإيران تُحاصر وتُستفز. واليمن يُطعَن من خاصرته الجنوبية بخناجر تحالف العدوان ومرتزقته.
كان وجود السيد حسن يشكّل عقل هذه الجبهة، ونبضها الاستراتيجي، وضامن تماسكها، ليس لأنه يمتلك السلطة، بل لأنه كان يملك البصيرة التي تجمع ولا تُفرّق، وتقاوم ولا تساوم. والسؤال اليوم ليس عمن يخلف السيد حسن في قيادة حزب الله، بل عمّن يملأ هذا الفراغ المعنوي والسياسي والقيادي على مستوى محور المقاومة بأكمله. وإذا كان استشهاد القادة -في منطق العدو- انتصار نوعي، فإنه في منطق الأمم الحية اختبار للوعي الشعبي، ولقدرة الحلفاء على إعادة بناء التوازن من جديد من رحم التحديات.
وفي هذا السياق، يبرز السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي (حفظه الله)، كأحد أهم الشخصيات المؤهلة لقيادة المرحلة المقبلة. وبما يمتلكه من وعي استراتيجي وحنكة فكرية وبعد نظر سياسي وعقائدي، يُعد السيد عبد الملك أنموذجاً قيادياً استثنائياً في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني ـ الأمريكي وأدواتهما، ومصدر إلهام لجيل كامل من الأحرار والمجاهدين في الأمة. خطابه المتزن، ورؤيته الواضحة، وصدقه المتجذر، جعله قدوة ومركز ثقة داخل محور المقاومة وخارجه، وصمام أمان للمشروع التحرري في أشدّ مراحله تعقيداً.
العدو يظن أنه أسقط الرأس، وسينقضّ على الجسد؛ لكنه ربما ينسى أن الشعوب لا تموت باستشهاد قادتها، بل تولد من جديد إذا امتلكت الوعي والعزم. قد يكون وجه «الشرق الأوسط» تغيّر فعلاً؛ لكن هل نحو الانهيار والتفكك؟ أم نحو يقظة جديدة تعيد الاعتبار للمشروع المقاوم، وتُسقط كل رهانات التطبيع والخنوع؟
إن ملامح المرحلة تتشكل بسرعة؛ لكن الاتجاه لن يُحسم إلا بصمود الشعوب، ووضوح البوصلة، وتماسك الحلفاء. لقد استشهد القائد؛ لكن بقيت الفكرة، وبقي المشروع؛ فإما أن ننهار تحت وطأة الضربة، وإما أن نرتقي بها إلى مستوى التحدي التاريخي. الزمن لا يرحم الضعفاء؛ لكنه يُنصف أصحاب الإرادة.

أترك تعليقاً

التعليقات