أحلام بيضون

أحلام بيضون / لا ميديا -
يتأثر مصير الشعوب ليس فقط بأفعالهم، بل أيضاً بأقدارهم، تماماً كالإنسان. والسويداء استُهدفت لأنها في منطقة المخطط «الإسرائيلي» الرامي إلى إقامة منطقة عازلة بين الكيان وما تبقى من سورية، وذلك بعد أن يضمها إليه أو يضمها إلى مناطق يراها ضرورية لذلك. وضع السويداء يشبه الوضع في جنوب لبنان، حيث سعى العدو لإقامة المنطقة العازلة، أو ما سمي بالمنطقة الأمنية، حيث أقيمت دويلة سعد حداد ثم أنطوان لحد، ضابطين من المكون المسيحي اللبناني، في منطقة أكثريتها من الشيعة.
يحاول العدو اليوم استغلال المكون الدرزي الذي يشكل غالبية سكان السويداء، في محيط غالبيته من الطائفة السُّنّية. بذلك يؤمّن لكيانه منطقة فاصلة، وغير قابلة للاستقرار، بحكم التركيبة السكانية في الجنوب السوري بشكل عام. وإذا تأملنا في المسألة، يكون ما يقوم به العدو سيفاً ذا حدين؛ من جهة يكون قادراً على تأليب الطوائف بعضها ضد بعض، وجعلها تقترف الجرائم بدلاً عنه؛ ولكن من ناحية ثانية، لا أحد يضمن له الأمن، فبعد تجربة جنوب لبنان، يمكن القول بأن من رحّب به من السكان سينقلب ضده، بعد تجربة الوقوع تحت هيمنته، وتجربة مدى الإذلال والفوقية التي يتعامل بها مع السكان الأغيار. وتجب الإشارة هنا إلى أنه، سواء في لبنان أو في سورية، لا يعني إن كنت مسيحياً أو درزياً أن تكون عميلاً، فالعمالة ليس لها مذهب ولا طائفة ولا دين، تماماً كالإجرام.
الهدف الثاني الذي تسعى له «إسرائيل» في سورية هو منع هذا البلد العربي الكبير والعريق، من أن يشكل دولة قوية من جديد. لذلك، سارعت إلى تدمير أسلحة الدولة السورية، بعد سقوط النظام السابق، دون أن تكون قد تعرضت لأي اعتداء من النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع، الذي على العكس أكد مراراً أنه يريد السلام مع الكيان؛ حتى أنه كان هناك لقاءات بين مسؤولين من النظام الجديد ومسؤولين «إسرائيليين»، من بينها لقاء بين نتنياهو والشرع في أذربيجان.
ولكن إذا شئنا أن نقيّم مثل تلك اللقاءات، فماذا تنفع؟! وعلى ما تدل؟! وكيف يمكن توصيفها غير أن تكون لقاءات رضوخ واستسلام من جانب الطرف الضعيف للطرف القوي؟! والطرف القوي هنا هو «إسرائيل»؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، بل لأن ما تقوم به من عدوان وجرائم في مختلف الاتجاهات في المنطقة مغطى ومحمي من الدولة العظمى، أي الولايات المتحدة، في ظل صمت بقية الدول بما فيها العربية. وأما سورية فهي اليوم في أضعف حالاتها؛ ليس لأن «إسرائيل» قد دمرت كل أسلحتها تقريباً، ومراكز أبحاثها وإنتاجها، واستباحتها كلياً محتلة قسماً كبيراً من أرضها، وصولاً إلى بعد عشرة كيلومترات من العاصمة دمشق، التي لا تنفك تتعرض للقصف والعدوان، وصولاً إلى القصر الجمهوري ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان؛ بل لأن سورية أنهكت بحرب داخلية وتدخلات أجنبية، منذ العام 2011، رافقها حصار وتجويع وعقوبات ضد أشخاص ومؤسسات عامة.
إن هدف «إسرائيل» في سورية ليس فقط تأمين أمن كيانها، بإقامة منطقة عازلة أو آمنة في الجنوب السوري، بل العمل على منع قيام دولة قوية في سورية، وإبقائها مشرذمة ومسرحاً لنزاعات داخلية لا تنتهي. في هذه الأثناء تكون «إسرائيل» قد نفذت ما تريد من أهداف، سواء تأمين ما تسميه «طريق داوود» الذي يربطها بمنطقة الأكراد في شمالي سورية، وبمحاذاة كردستان، الكيان الصديق لها، وبذلك تكون قد وصلت إلى العراق، وأمنت فصله عن سورية، ووصلت إلى حدود «إسرائيل» الكبرى الشرقية التوراتية، كما تدعي.
من ناحية ثانية، هيمنة «إسرائيل» على سورية تعني فصلها عن لبنان، على الأقل فيما يتعلق بمحور المقاومة. لن يتمكن حزب الله حسب تقديرهم من تلقي أي إمدادات عسكرية أو غير عسكرية، وبالتالي سيتمكن الكيان من السيطرة على لبنان، وهو ما بدأ به، ولم ينجزه بالكامل في هذا البلد. فقد تمكن بما سمي إعلان وقف إطلاق النار بين «إسرائيل» ولبنان، برعاية أمريكية، من تحقيق ما عجز عن تحقيقه قبل وقف إطلاق النار. فقد أطلق العنان ليده «الطولى»، بتوافق تام مع «العم سام»، الذي يحميه، ويعطل أي محاولة لمحاسبته. ولكن، كل ذلك لا يكفي، فلا يزال العدو يسعى إلى تحقيق هدفه بنزع سلاح حزب الله، وهو هنا لا ينزع سلاح الحزب فقط، بل ينزع أي وسيلة للقوة لدى الدولة اللبنانية تمكنها من الدفاع عن سيادتها وشعبها، في ظل منع تزويد الجيش اللبناني بأي أسلحة من شأنها أن تمكنه، ليس من مهاجمة «إسرائيل» فقط، بل وحتى من التصدي لاعتداءاتها وجرائمها.
وفي مراجعة سريعة لما يحصل منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، التي تمثلت في تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك، والذي كشفت بعض جهات الاستخبارات الأمريكية أنه تمّ بتخطيط «إسرائيلي»، نجد أن هناك دولاً في المنطقة صنفت ضمن محور الشر، وأخرى ضمن محور الاعتدال، وبالصدفة ضمّ محور الاعتدال دولاً مطبعة مع العدو، أو دول الخليج، وغيرها مستعدة للتطبيع. أما محور الشر فقد شمل ما كان يسمى دول الممانعة، وهي العراق وسورية ولبنان، بفعل وجود المقاومة فيه، وليبيا وإيران. وقد تمّ اتخاذ القرار في ذلك الوقت بوجوب معاقبة تلك الدول، وقد ضم إليها -وفق التسريبات من جهات استخباراتية أمريكية- كل من الصومال والسودان. وهكذا، فقد تمّ تخريب كل تلك الدول، بشن حروب تدميرية ضدها، تحت ذرائع كاذبة، ولم يتبقّ إلا إيران، التي تمكن العدو مؤخراً -بالاتفاق مع الولايات المتحدة- من توجيه ضربة قاسية لها، دون التمكن من إسقاط نظامها وإقامة نظام موالٍ لأمريكا وخاضع لإملاءاتها متصالح مع «إسرائيل»، كما فعلوا في الدول الباقية، التي أسقطوا أنظمتها دون أن يضمنوا كل أهدافهم فيها هي الأخرى.
بقيت أمام العدو الصهيوني العقبة الكأداء، والتي تم تصنيف العالم في الأساس في محور شر ومحور خير، وفقاً لموقفه منها، وهي قضية الشعب الفلسطيني، وما تعرض له من ظلم وإجرام لم يشهد له التاريخ مثيلاً. نقول: بقيت قضية فلسطين، رغم الإطباق على غزة والضفة والقدس، ورغم الإبادة العرقية والجماعية التي يتعرض لها ذلك الشعب المناضل والمظلوم. فما دام هناك طفل يقاوم، أو طفل فلسطيني يرفض الاحتلال الصهيوني لبلاده، فستبقى هذه القضية حيّة.
صحيح أن هجوم 7 أكتوبر، الذي قامت به الفصائل الفلسطينية المقاومة ضد كيان الاحتلال والاستيطان القهري، قد تمّ استغلاله من هذا الأخير، كي ينفذ مخططه الرامي إلى التخلص نهائياً من الشعب الفلسطيني المتبقي في الأرض الفلسطينية التاريخية؛ إلا أن الصحيح أيضاً أن هجوم 7 أكتوبر أعاد إحياء القضية الفلسطينية من الأساس، وأرجعها إلى بدياتها، كاشفاً كل الوقائع التي كانت خافية على جماهير الشعوب الغربية، وفاضحاً الأكاذيب الصهيونية والغربية التي تصور الكيان على أنه «قضية شعب معتدى عليه، وقد تعرض خلال تاريخه من قبل الأوروبيين للتمييز والمحارق، وهو يتعرض في أرضه التاريخية التي وعده الله بها لشعوب لعدوان شعوب المنطقة المتوحشة وللإرهاب الفلسطيني».
لقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة الوصول إلى المعلومات، على إظهار حقيقة القضية، وشاهدت الشعوب، خاصة الأجيال الجديدة، بأم العين، ارتكاب الجرائم الفظيعة بحق الفلسطينيين. لقد أعادت غزة المدمرة، وأشلاء أطفالها، وشعبها المجوّع والمهان والمشرد في شوارع مدينته التي كانت منذ وقت قصير زاخرة بالحياة، رغم الحصار والتقتيل الممنهج، أعادت غزة الحياة للضمير العالمي. إن أحرار العالم، المدافعين عن الشعب الفلسطيني، خاصة في غزة، هم في ازدياد مستمر، وإن «إسرائيل» لأول مرة، منذ أن وطأت أرضنا العربية، تتعرى بهذا الشكل، ويعرف العالم حقيقة كونها كياناً مجرماً عنصرياً محتلاً غير شرعي. بالمقابل، يثبت ذلك حقيقة الرواية الفلسطينية، ويساعد في الإقرار بالحقوق الفلسطينية على أرضهم ووطنهم المسلوب.
بيروت، 21/ 7/ 2025

أترك تعليقاً

التعليقات