رضوان مرتضى موقع (The cradle)
ترجمة:أقلام عبدالملك مانع / لا ميديا -
في أعقاب الحرب «الإسرائيلية» على لبنان، بدأ همس يتردد في الأروقة السياسية عن احتمال انضمام لبنان إلى «اتفاقيات ابراهام». ظهر هذا حتى قبل أن يطرح المبعوث الأمريكي، توم براك، فكرة المفاوضات المباشرة مع «إسرائيل»، وهو اقتراح رفضته بيروت لصالح «آلية» المحادثات غير المباشرة المعمول بها بوساطة واشنطن.
وتُظهر الأدلة اليوم أن واشنطن لا تدفع نحو تطبيع فوري مع «تل أبيب»، بل نحو مفاوضات مباشرة حول «ورقة أمريكية» كخطوة أولى على طريق ما يُسمى «السلام». المفارقة صارخة؛ فهذه الدعوات إلى السلام تتجاهل الواقع على الأرض، مع استمرار أعمال العدوان.
حتى الآن، لم تلتزم «إسرائيل» بوقف إطلاق النار، بينما تتعالى أصوات في لبنان تدعو إلى السلام مع طرف لا يزال في حالة حرب. هذا التناقض يُوقع دعاة «الحلول الدبلوماسية» في مأزق حقيقي.
في الواقع، وجد قائد الجيش اللبناني، رودولف هيكل، نفسه مضطراً إلى إصدار أمر بإطلاق النار على طائرات «إسرائيلية» بدون طيار تنتهك المجال الجوي اللبناني، قبل أن يأمره الرئيس بالرد على أي غزو بري، في أعقاب الحادث الذي اقتحمت فيه القوات «الإسرائيلية» قرية بليدا الجنوبية، وقتلت موظفاً مدنياً في البلدية أثناء نومه.

عندما يكون «السلام» مساوياً لـ»الاستسلام»
بعد عامين من انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد المجازر الفظيعة وحرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل» في غزة وأودت بحياة عشرات آلاف الفلسطينيين، والحرب على لبنان التي أودت بحياة آلاف اللبنانيين أيضاً، عادت مسألة السلام إلى الواجهة في الخطاب العربي. ومع تجدد دعوات السلام مع «إسرائيل» من الدول العربية ووسائل الإعلام، ثمة حقيقة واحدة لا مفر منها: السلام من موقع ضعف لا ينهي الهيمنة؛ بل غالباً ما يُرسّخها.
السلام بموجب هذه الشروط لا يقلب موازين القوى إلا إذا اعترف القويُّ بشريكٍ ذي مكانة متساوية. لكن هذا ليس في أجندة «إسرائيل». «تل أبيب» لا تسعى إلى سلام متكافئ، بل تسعى إلى الهيمنة والتوسع.
وقد عبّر الكاتب الفلسطيني الراحل الشهيد غسان كنفاني عن هذا الأمر بإيجاز عندما سُئل عن سبب رفضه الحوار مع «إسرائيل»؛ فكان رده: ما فائدة الحوار بين السيف والرقبة؟!
أي نوع من الحوار يمكن أن يوجد عندما يكون الأقوياء وحدهم يملكون سلطة اتخاذ القرار بينما يطلب الضعفاء ببساطة؟!
والسؤال الأكثر دقة هو: هل تسعى «إسرائيل» إلى تسوية عادلة تنهي الاحتلال وتؤسس لسلام مستدام، أم أنها تعمل بدلاً من ذلك على صياغة ترتيبات أمنية واقتصادية تعزز تفوقها وتتطلب الخضوع العربي والفلسطيني في مقابل ما يسمى -بشكل مضلل- «السلام»؟!
في 21 كانون الثاني/ يناير 2024، أعلن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو: «لن أتنازل عن السيطرة الأمنية «الإسرائيلية» الكاملة على كل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن»، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع فكرة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
يتزامن هذا الموقف السياسي مع تسارع غير مسبوق في وتيرة الاستيطان. وتُظهر تقارير صادرة عن وكالات أوروبية وأممية أن العامين 2023 و2024 سجّلا مستويات قياسية من الاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية المحتلة، ما يُبدّد حتى إمكانية تحقيق حل الدولتين.
في العالم العربي اليوم -وخاصة في لبنان- تقول وسائل الإعلام الآن: «نريد السلام»؛ «ليس من الجريمة أن نطالب بالسلام»؛ «كسر المحرمات واجب».
أعلن المذيع اللبناني مارسيل غانم في افتتاحية برنامجه: «اكسروا المحرمات... لا نطيق مزيداً من التسويف... نعم، نطالب بالسلام. المطالبة بالسلام ليست جريمة». ورأى مكرم رباح، مدير تحرير موقع «لبنان الآن» والأستاذ المساعد في الجامعة الأمريكية في بيروت، أن «السلام لا عيب فيه عندما يصنعه شعب ذو سيادة. العيب الوحيد هو الاستمرار في الموت من أجل حروب الآخرين».
إن الرغبة في السلام ليست مضللة في حد ذاتها؛ ولكن ماذا لو أن الطرف الآخر اعتبر السلام مجرد أداة لترسيخ هيمنته، وإخضاع شعوب المنطقة، والاستيلاء على ثرواتهم وأراضيهم؟! عندما تُوقّع «اتفاقيات سلام» من قِبَل طرف ضعيف يُقدّم تنازلات هائلة بينما يُحافظ الطرف القوي على بنيته الاستعمارية، يُصبح السلام استسلاماً مُطلقاً. هذه الديناميكية تُعزز فكرة أن «إسرائيل» تخسر في السلام أكثر بكثير مما تخسر في الحرب. من هنا، فإن «السلام»، بتعريفه الصحيح، يُمثّل تهديداً لـ«إسرائيل».

نموذج قطر للهيمنة المدعومة بالوسطاء
بعيداً عن خطوط المواجهة، استثمرت دولة قطر في دورها كوسيط دولي ذي علاقات بواشنطن، وبشكل غير مباشر بـ«إسرائيل». في آذار/ مارس 2022، صنّفت الأمم المتحدة قطر «حليفاً رئيسياً من خارج حلف الناتو».
نظرياً، فإن هذا الوضع يمنح الدوحة امتيازات دفاعية وأمنية خاصة. رعت قطر محادثات، وموّلت مساعدات لغزة، واستثمرت في مشاريع تجارية «إسرائيلية»، وحافظت على علاقات قوية مع الولايات المتحدة، التي تستخدم قاعدة «العديّد» الجوية كمركز متقدم رئيسي.
المفارقة: رغم هذا التموضع الاستراتيجي، وجدت قطر نفسها هدفاً «إسرائيلياً». في 9 أيلول/ سبتمبر 2025، شنت «إسرائيل» غارة في الدوحة استهدفت أعضاءً من وفد حماس التفاوضي داخل قطر. وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً: ما دامت «إسرائيل» تهاجم حتى وسيطاً ليس له سجل في محاربتها، فهل يمكن لعدوانها أن يتغير؟!
تُظهر تجربة قطر أنه لكي يكون «السلام» ذا معنى، لا يمكن أن يكون مجرد مبادرة من الطرف الأضعف، بل يجب أن يسعى إليه ويقبله الطرف القوي. وإلا، فهو بلا معنى.
لنأخذ مثالاً: على مدى عقود، أصبحت السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس شريكاً أمنياً لـ»إسرائيل»، إذ تنسق في الضفة الغربية المحتلة، وتعتقل كوادر المقاومة، وتسلم قوائم المطلوبين، وتتعاون تحت مسمى «التنسيق الأمني».
مع ذلك، تتهمها «إسرائيل» بـ«تمويل الإرهاب»؛ بسبب رواتب الأسرى. ويبدو أن التعاون الكامل لا يضمن السلام؛ إذ يبقى الخضوع هو الخيار السائد.
في المقابل، يُظهر نموذج الإمارات ديناميكية مختلفة: التطبيع مع «إسرائيل» قائم على الاقتصاد والاستثمار، وليس على العدالة أو نهاية الهيمنة. عندما يصبح الأضعف شريكاً اقتصادياً، يتحول «السلام» إلى سلعة مربحة للقوي؛ السلام الذي يُعرّف بأنه «خدمة للقوي مقابل استقرار مؤقت».
في السودان، ثالث دولة عربية تنضم إلى «اتفاقيات ابراهام»، لم ترَ «إسرائيل» الخرطوم شريكاً استراتيجياً قط؛ بل كانت بمثابة نقطة أمنية لمراقبة البحر الأحمر وطرق التهريب. جاء التطبيع «من أعلى»، لا من شركاء متساوين.
هذا يدل على أن «إسرائيل» لا تعارض السلام، بل تعارض «السلام المتساوي»، أو السلام الذي يغيّر علاقات القوة.

معاهدات السلام التاريخية... ولكن لا عدالة
وقّعت مصر و«إسرائيل» معاهدة سلام في آذار/ مارس 1979، نصّت على انسحاب «إسرائيل» الكامل من سيناء في غضون ثلاث سنوات، وأنشأت ترتيبات أمنية ومناطق منزوعة السلاح. ورغم التطبيع الرسمي منذ العام 1980، تُوصف العلاقة على نطاق واسع بأنها «سلام بارد». ويبقى القول المأثور: توقيع الدول العربية لا يعني بالضرورة تطبيعاً شعبياً.
على أرض الواقع، تُظهر حوادث أمنية متقطعة، وإن كانت كاشفة، هشاشة الوضع، مثل حادثي حزيران/ يونيو 2023 وأيار/ مايو 2024 قرب رفح. في غضون ذلك، تعمّق التعاون في مجال الطاقة؛ فقد وقّعت مصر و«إسرائيل» والاتحاد الأوروبي في 15 حزيران/ يونيو 2022 اتفاقية لتوسيع صادرات الغاز المصري عبر منشآت التسييل.
الواقع هو صورة مزدوجة للشراكة الأمنية-الطاقية، مقترنة بالمقاومة الشعبية. هذا التوازن يُظهر كيف أن «السلام» بصيغته الحالية يخدم احتياجات «تل أبيب» الأمنية-الطاقية، وليس العدالة الفلسطينية.
الأردن مثالٌ آخر؛ فقد حددت معاهدته مع «إسرائيل»، المبرمة في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، أطراً للمياه والحدود. لكن بعد 30 عاماً، لا يزال السلام بعيد المنال. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، استدعت عمّان سفيرها بسبب حرب غزة؛ وجمّدت توقيع مشروع «الماء مقابل الطاقة».
ومع ذلك، لا يزال التعاون العملي قائماً؛ فالمياه والغاز وقنوات الأمن لا تزال مفتوحة؛ حتى أن الأردن فتح مجاله الجوي أمام سلاح الجو «الإسرائيلي» لاعتراض تهديدات الطائرات المسيّرة/ الصواريخ الإيرانية، ما يُظهر أن «إسرائيل» تُقدم ترتيبات رمزية للعواصم تخدم مصالحها، دون حل سياسي للقضية الفلسطينية.
وفي سورية، عرضت الحكومة الجديدة ذات الجذور المرتبطة بتنظيم القاعدة بعض «الإيماءات الحسنة»، فأعادت رفات الجاسوس «الإسرائيلي» إيلي كوهين، وأعلنت العداء لإيران، واعترضت أسلحة كانت في طريقها إلى حزب الله في قتاله ضد «إسرائيل».
ومع ذلك، لم تُجرِ «إسرائيل» أي محادثات سلام حقيقية؛ بل احتلت المزيد من الأراضي، وهاجمت مطار دمشق، واستولت على جبل الشيخ، وموارده المائية، وأعلنت أنها لن تُغادر أبداً. لا تُريد «إسرائيل» دولاً قوية، بل تُريدها ضعيفة بما يكفي لتكون بمثابة شرطة حدود لحماية أمنها، لا للدفاع عن أرضها.
في لبنان، لن يُنسى بسهولة القتل اليومي والمجازر والاحتلال. كيف يُطلب من لبنان توقيع سلام يتجاهل العدالة؟! «إسرائيل» قتلت آلاف اللبنانيين، وتواصل قصف القرى واغتيال الناس يومياً.
كيف يُطلب السلام على أرضٍ لا تزال الدماء فيها تسيل، وجرائم الحرب دون محاسبة؟! كيف يُسلّم السلاح لعدوٍّ لم يُبدِ يوماً حسن نيته؟! 
مع أن رئيس الوزراء اللبناني ورئيس الجمهورية ومعظم الوزراء يتفقون على موقف مناهض للأسلحة غير الحكومية، فإنهم يؤكدون أيضاً أن «إسرائيل» لم تحترم ما التزم به لبنان. فكيف يُمكن -إذن- مناقشة المفاوضات في حين أن العدو لم يلتزم حتى بوقف إطلاق النار الذي التزم به لبنان؟!
وماذا عن الأصوات التي تُنادي الآن بالسلام وكأنه خلاصٌ مُمكن لا يتحقق إلا بنيل الدولة اللبنانية كامل السيادة واحتكارها للسلاح؟! تتجاهل هذه الأصوات أن الرئاسة والحكومة في لبنان، رغم الخلافات الداخلية، مُتفقتان على أن «إسرائيل» لا تسعى للسلام، بل لمكاسب لا حدود لها.
دُمِّرت سورية، دون إطلاق رصاصة واحدة على «إسرائيل»، ومع ذلك لا تزال الاعتداءات «الإسرائيلية» مستمرة. ما الفرق -إذن- بين لبنان وسورية؟! المسألة لا تتعلق بحركة المقاومة، حزب الله، بل بشهية «إسرائيل» المستمرة للتوسع والسيطرة.
انكشفت هذه الطموحات في اتفاقية الحدود البحرية؛ إذ سعت «تل أبيب» إلى تعظيم مكاسبها، ثم ألغتها بعد اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله. وأظهرت الطمع الإقليمي مجدداً عندما رفع نتنياهو خريطة «الشرق الأوسط الجديد» في الأمم المتحدة، والتي أغفلت لبنان وسورية.
كانت تلك الخريطة جزءاً من خيال «إسرائيل الكبرى»، لا من الواقع السياسي. وفي صدى لذلك، زعم توم براك في دمشق أن لبنان وسورية «دولة واحدة، لا دولتين»، في تزامنٍ غريب مع الخطاب «الإسرائيلي» الذي يمحو الحدود ويعيد رسم المنطقة على هواه.
إن المطالبين بالسلام اليوم وصلوا متأخرين بعقود من الزمن، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من مؤتمر مدريد الذي عقد في العام 1991، والذي رفضته «إسرائيل».

ماذا تقصد «إسرائيل» بالسلام؟
بجمع العناصر السابقة: سيطرة أمنية دائمة غرب نهر الأردن، تسريع وتيرة الاستيطان، ودفع العواصم العربية إلى تعاون ثنائي منفصل عن الحل النهائي أو القضية الفلسطينية؛ نصل إلى تعريف «السلام» كما تراه «إسرائيل»: نظام ردع وإخضاع يُحيّد الدول ويُديم السيطرة على الفلسطينيين.
هذا الاستنتاج تؤكده -سياسياً وعملياً- تصريحات نتنياهو نفسه، الرافضة لقيام دولة فلسطينية، وسياسات حكومته في الضفة الغربية.
السلام المُطالب به من موقف ضعف لا يكفي. يبدأ السلام الحقيقي عندما يُجبَر القوي على معاملة الطرف الآخر كندٍّ له، لا تابعاً. لكن «إسرائيل» ترى نفسها «السيد»، والبقية تابعين لها.
هذا هو جوهر تفكيرها، مدفوعاً بأسطورة «إسرائيل الكبرى». لا يمكن للدول الضعيفة الاعتماد على ادعاء السلام فحسب؛ بل يجب عليها خلق معادلات قوة تفرض الاحترام وتفرض الاعتراف بحقوقها.
إن الخطر هنا هو أن تتحول الدعوات العربية للسلام إلى ميثاق استسلام، تحت مسمى «السلام»، ولكنها في الواقع استمرار للهيمنة.
الخطوة الأولى نحو السلام الحقيقي ليست توقيعاً أو بياناً صحفياً، بل هذا السؤال البسيط: هل يُغيّر هذا «السلام» الواقع، أم يُشرّع استمرار الخضوع؟ هل الطرف القوي مستعدٌّ للتخلي عن الاحتلال والعدوان؟
لا يكفي أن نقول: «لا نريد السلام». إذا كان الطرف الآخر لا يريد سوى الهيمنة باسم السلام، فإن دعوتنا للسلام من جهة هي مجرد أُمنية، ومن جهة أخرى هي مكافأة على الإبادة الجماعية.

شيطنة المقاومة
لسنوات، أنتجت آلة إعلامية عربية وغربية ضخمة دعاية منهجية لإعادة صياغة الخريطة الأخلاقية في الوعي العربي. يتم تقديم إيران وحزب الله وأي شخص يقاوم المشروع (الأمريكي - «الإسرائيلي») على أنهم سبب الانهيار الإقليمي، بينما يتم تصوير الغزاة والأنظمة المتحالفة معهم على أنهم أبطال السلام والاستقرار.
كل يوم يتم «تطهير» ذاكرة الشعب من خلال خطاب أحادي الجانب حول «التهديد الإيراني» و«توسع حزب الله» و«الهلال الشيعي»، في حين يتم إخفاء الجرائم المرتكبة تحت رايات «الحرية» و«الديمقراطية» من قبل التحالفات الغربية أو الوكلاء العرب.
وتبقى الحقيقة أن المقاومة لم تكن هي التي دمّرت لبنان، بل المستسلمون؛ من تواطؤوا مع الحصار، وسهّلوا الغزو، وموّلوا التدمير الإعلامي والسياسي والعسكري الذي اجتاح المنطقة باسم الحداثة والتنوير.
على مدى عقدين من الزمن، عملت وسائل الإعلام العربية والغربية على بناء رواية مشوهة جعلت إيران وحزب الله العدو رقم واحد، وأخفت الأسباب الحقيقية لمآسينا.
عندما تعرضت أفغانستان للدمار تحت الاحتلال الأمريكي، لم يسأل أحد عن عدد القتلى أو عدد الملايين الذين عانوا في ظل «الحرب على الإرهاب».
عندما غزوا العراق بشكل غير قانوني في العام 2003، مات مئات الآلاف، وانهارت البنية التحتية، وسادت الفوضى... وكل هذا تحت مسمى «المسيرة نحو الديمقراطية».
يتعرض لبنان اليوم للعدوان «الإسرائيلي» المتكرر، ويُمنع من بناء دولة مستقلة حقيقية؛ لأن استقلاله يهدد «تفوق» «إسرائيل». ومع ذلك، تصوّره الحملات الإعلامية كمصدر الأزمات، متجاهلةً مَن هو الذي فرض الحصار، وموّل الانقسام، وأطلق النار على الاقتصاد.
في سورية، لم يكن الدمار ناجماً عن «النفوذ الإيراني» كما يُشاع، بل عن مشروع دولي حشد آلاف المقاتلين من «داعش» و«جبهة النصرة» وجماعات أخرى بتمويل خليجي وتواطؤ غربي. كانت إيران من القوى القليلة التي ساهمت في منع انهيار دمشق. وفي النهاية، سقطت الحكومة تحت حصار اقتصادي خانق، ليس نتيجةً للتدخل الإيراني.
أما بالنسبة لليمن، فإن الحرب لم تكن صراعاً بالوكالة، كما تم تبسيطها في وسائل الإعلام، بل كانت عدواناً مباشراً من قبل المملكة السعودية والإمارات، بدعم من واشنطن، ما أدى إلى تحول البلاد إلى بلد يعاني واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
في فلسطين، يُقتل الناس ويُقتلون بالقنابل والحصار منذ عقود، ومع ذلك تُشيطن حركات المقاومة أكثر من مرتكبيها. تُنكر وسائل الإعلام الرئيسية حق الشعب المحتل في الدفاع عن نفسه، وتُشيطن صواريخه، متجاهلةً طائرات الاحتلال المقاتلة التي تُبيد العائلات وتُدمر المدن.
في السودان، تتكشف عمليات تطهير عرقي ممنهجة بقيادة قوات الدعم السريع في دارفور، المتهمة بارتكاب جرائم قتل جماعي وتهجير قسري وإبادة جماعية، وتتورط فيها مليشيات مدعومة إقليمياً من الإمارات و«إسرائيل». ويتعامل التيار السائد مع الصراع على أنه أزمة هامشية.
لقد قلبت جهود الدعاية الرواية رأساً على عقب؛ فالغزاة والمحتلون يُصوَّرون كصانعي سلام، بينما يُصوَّر من يقاومونهم كتهديد. إذا استمرت الدعوات العربية إلى «السلام» على هذا المنوال، فلن تُفهم على أنها سعيٌ لتحقيق العدالة، بل كإشارة استسلام خفية.