عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في ظل واقع التوحش «الإسرائيلي»، وما يرافقه من عربدة وصلف يجتاح المنطقة بلا رادع، تتأكد اليوم حاجة استراتيجية عاجلة إلى عملية نوعية مدروسة، وذات طابع إبداعي غير تقليدي، تستهدف شلّ الكيان الصهيوني على المستويات النفسية والعقائدية والاستراتيجية، وتُعيد هندسة مفهوم الهزيمة في وعي قادته ومجتمعه، لا كخسارة ميدانية، بل كزلزال إدراكي يُفقدهم الثقة ويُربك منظومتهم الأمنية من الجذر، ويحوّل وهم تفوق الكيان الصهيوني إلى ذُعر وجودي دائم. فالهزيمة التي تُزرع في الوجدان الصهيوني وتُعيد تشكيل وعيه الجمعي أشد فتكاً من أي هزيمة ميدانية عابرة. نحن اليوم على مفترق طرق تاريخي؛ لحظة لا تحتمل التردد؛ لحظة لا يُكتفى فيها بالرد، بل تُصنع فيها المبادرة. إن أي عملية أمنية غامضة، دقيقة، ومدروسة، كفيلة بأن تُعيد تشكيل الوعي وتكتب الهزيمة في جينات العقل الصهيوني ذاته، لا على هامش الجغرافيا.

إرث ممتد ورؤية لمستقبل المواجهة
إن ضرب العقل الأمني للعدو الصهيوني ليس مجرد فكرة عابرة أو رد فعل ظرفي، بل هو إرث استراتيجي متجذّر في أدبيات المقاومة، يمثل تراكماً نوعياً للعمل الفدائي الذي أتقنه أبطال من مختلف الجبهات. هذا التاريخ ليس سرداً حكائياً يُروى، بل هو منظومة ردع يجب البناء عليها وتطويرها في مسار المواجهة المفتوحة.
لقد تجسدت هذه العقيدة في عمليات فارقة، بدأت بعملية «أيلول الأسود» في ميونخ عام 1972، التي نجحت في نقل ساحة الاشتباك إلى قلب أوروبا، محطمةً بذلك وهم «الأمن المطلق» الذي كان الكيان يراهن عليه. وتلتها عمليات الدكتور وديع حداد، العقل المدبر للعمليات الخارجية في الجبهة الشعبية، التي استهدفت شريان الطيران «الإسرائيلي»، محوّلةً الأجواء الدولية إلى مسرح للصراع، ومؤكدةً ألا حصانة لأي هدف يخدم منظومة العدو.
ولم يتوقف التراكم عند هذا الحد، بل وصل ذروته في الاختراق النوعي للساحل الفلسطيني عبر عملية «كمال عدوان»، التي قادتها الشهيدة دلال المغربي عام 1978، وكانت رسالة مفادها أن جدار الغطرسة قابل للاختراق من العمق. كما أن عملية مطار اللد عام 1972، التي نفذها فدائيون أمميون من الجيش الأحمر الياباني، أكدت أن العقل الفدائي قادر على استقطاب حلفاء من خارج الجغرافيا، وإيجاد الثغرة الاستراتيجية التي تزرع في وجدان العدو الشعور الدائم بألا مكان آمناً.
إن هذه العمليات مجتمعة هي وثائق حية تثبت أن الإرادة الفدائية تتفوق دائماً على المنظومة الأمنية، وأن الوعي الاستراتيجي للمقاوم هو المفتاح لهزيمة الغرور الصهيوني، وهو ما يفرض علينا اليوم قراءة هذا الإرث بعمق، لا كذكرى، بل كمنهج عمل للمرحلة القادمة.

استشراف آفاق ممكنة
إن الضربة المنشودة، في سياقها الاستراتيجي الجديد، لا يجب أن تقتصر على الميدان العسكري التقليدي، بل يجب أن تتخذ أبعاداً غير متوقعة تضرب في صميم البنية التحتية الحساسة للكيان. قد تكون صمتاً مطبقاً في أعماق البحار يسبق العاصفة، أو وميضاً خاطفاً في قلب منشأة حيوية، أو كشفاً عن قدرة تكنولوجية كانت طي الكتمان، مهمتها إذلال الكبرياء العسكرية للعدو في المرحلة القادمة.
فيجب أن تكون العملية متجاوزة لمنطق القوة إلى منطق الدهاء، تستهدف نقاط الضعف الوجودية للكيان، لتثبت أن العقل المقاوم قادر على إيجاد الثغرة في أي جدار مهما بدا محصناً. ففي ميزان الصراع، الآفاق الممكنة لهذه العملية ضمن هذا الإطار ليست مجرد حدث يُرى وينتهي، بل واقع جديد يُعاش؛ واقع تتغير فيه قواعد الاشتباك، وتصبح فيه الأشياء الصلبة هشة، والأماكن التي ظُنّت آمنة مجرد نقاط في ذاكرة الماضي.
هذا الواقع يجب أن يكون الأساس الذي تُبنى عليه استراتيجية المرحلة القادمة في الصراع مع الكيان الصهيوني. لا يكفي أن نُهدد، بل يجب أن نُربك. لا يكفي أن نُقاوم، بل يجب أن نُعيد تشكيل الوعي. الكيان الصهيوني لا يُهزم بالتهديدات، بل بضربة تُفقده توازنه العقلي قبل العسكري. ما يفرضه الواقع هو عملية تُبنى على قواعد النار والدهاء، لا على ردود الأفعال. فالكيان الصهيوني نفسه قام على نظرية الضربة الاستباقية، فهل نترك له احتكار المبادرة؟! المطلوب الآن هو هزيمة إدراكية لا تُقاس بعدد القتلى، بل بعدد المرات التي يُعاد فيها رسم الخرائط داخل غرف القيادة؛ ضربة تُسقط العقيدة الأمنية من الداخل، وتحوّل التفوق إلى عبء، والردع إلى وهم، والسيطرة إلى ارتباك.

هل يستطيع المحور أن يفعلها؟
نعم، بل يجب أن يفعلها محور المقاومة. وإن لم يكن هذا المحور، فمن؟! وإن لم يكن الآن، فمتى؟!
نحن لا نتحدث عن أمنيات، بل عن ضرورة استراتيجية تُحتّم على محور يضم دولاً ذات سيادة، وتنظيمات أمنية محترفة، وقدرات عسكرية ممتدة، وموارد مالية وتكنولوجية هائلة، أن يُترجم كل ذلك إلى فعل. هل يُعقل أن يمتلك المحور كل هذه الإمكانيات -من غرف عمليات مشتركة إلى أقمار صناعية إلى وحدات سيبرانية إلى شبكات استخباراتية عابرة للحدود- ثم يعجز عن تنفيذ ضربة واحدة تُحدث شللاً في منظومة الردع الصهيونية؟!
ما الفائدة من كل هذه البنى إن لم تُنتج لحظة تُعيد تعريف الردع الآن؟! وما الجدوى من كل هذا التراكم إن لم يُثمر حدثاً يُربك القيادة الصهيونية، ويُفقدها ثقتها بنفسها، ويُدخلها في دوامة من الشك والارتباك في هذا التوقيت؟!
الموضوع لا يحتاج إلى جيوش جرارة، ولا إلى حرب شاملة، بل يحتاج إلى فطنة استخباراتية، توقيت ذكي، قرار جريء، وعقل يُدير. نحتاج إلى فعل صامت في صيغته، صاخب في أثره؛ يُفهم ولا يُعلن، يُذلّ ولا يُفاخر، يُربك ولا يشرح. العدو مكشوف، نقاط ضعفه موثّقة، مراكزه الحساسة مرصودة، والمجتمع الصهيوني يعيش على وهم الأمن لا على حقيقته.
فهل نتركه ينام مطمئناً؟! أم نُعيده إلى حجمه الحقيقي؟ إلى من يملكون زمام المبادرة: لا يُطلب منكم غزو «تل أبيب»، ولا إسقاط الأقمار فوق النقب. كل ما يُطلب باسم الشعوب المقهورة هو ضربة واحدة تُربك الحسابات، وتُعيد تشكيل المعادلة، وتُكتب في أدبيات الأمن الصهيوني كأكبر فشل استخباراتي في تاريخه.
ختاماً: لسنا أمام خيار ترفي، بل أمام لحظة فاصلة. مقالنا هذا ليس نداء عاطفة، بل نداء وعيٍ واستحقاق. إننا لا نكتب هذا المقال لنُحلل، بل لنُحرّض؛ لا لنبكي على الواقع، بل لنُشعل فيه شرارة. فنحن نعيش في زمن تُقاس فيه الأمم بقدرتها على المبادرة، لا على ردود الأفعال.
رحم الله الشهيد يحيى السنوار، شهيد «طوفان الأقصى»، ومهندس الضربات الموجعة التي كسرت هيبة العدو، والمباغتة التي أربكت عقله الأمني؛ أربكهم بمفاجأته، وأذلّهم باستشهاده، حين تحوّل إلى أسطورة تُطاردهم في يقظتهم، وتُسقط وهم أمنهم في صمت أشد وقعاً من الانفجار.

أترك تعليقاً

التعليقات