فهد شاكر أبو راس

فهـد شاكر أبو راس / لا ميديا -
بعد اغتيال القيادي في حزب الله هيثم علي الطبطبائي بغارة "إسرائيلية" على الضاحية الجنوبية لبيروت، تدخل المواجهة بين "إسرائيل" وحزب الله مرحلة جديدة بالغة الحساسية، لا تُفهم من خلال الحدث نفسه، بل في سياقه الاستراتيجي الأوسع؛ وهو سياق حرب مستمرة بوسائل أخرى، تهدف بالدرجة الأولى إلى فرض موازين قوة جديدة على الأرض لمصلحة "إسرائيل"، واستكمال عملية إضعاف المقاومة، التي باشرتها خلال الحرب السابقة. إن "إسرائيل"، ومن خلال قراءة متأنية لأحداث الأشهر الماضية، لا تتعامل مع اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في نوفمبر 2024 كإطار للسلام، بل كأداة مرنة تُطوّع لتحقيق أهدافها، لتحول الخروقات المنهجية إلى واقع جديد، وتعيد من خلاله رسم الحدود والتوازنات دون الحاجة إلى حرب مفتوحة، وذلك عبر استراتيجية ميدانية تقوم على فرض الوقائع على الأرض وتراكم الإنجازات لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية.
"إسرائيل" تريد أن تتجاوز سياسة الردع التقليدية إلى استراتيجية هجومية مستمرة، تهدف إلى حرمان حزب الله من أي فرصة لإعادة بناء قدراته، وهو ما أكده تصريح مسؤول "إسرائيلي" بأن "جولة الإضعاف لحزب الله يجب أن تُنجز قبل نهاية العام"، وأنه "يمكن إضعافه بشكل كبير لسنوات طويلة بقتال لأيام فقط"، ما يوضح أن الهدف "الإسرائيلي" ليس ردعاً مؤقتاً، بل شلٌّ للقدرة لفترة طويلة.
وفي هذا الإطار، يأتي استهداف "إسرائيل" للقيادات البارزة في حزب الله، مثل القائد هيثم الطبطبائي، كإجراء عملياتي ضمن استراتيجية شاملة، فهي لا تتردد في تقديم أي هدف وازن تتوفر له معلومات استخبارية، بغض النظر عن الحسابات السياسية أو توقيت الحدث، كما حدث في توقيت الغارة، الذي تزامن مع ذكرى استقلال لبنان. وقد برهنت "إسرائيل" على أنها لا تأبه للدعوات الدولية ولا للمبادرات اللبنانية، إذ اعتبر الرئيس اللبناني، جوزيف عون، أن استهداف الضاحية هو "دليل آخر على أنها لا تأبه للدعوات المتكررة لوقف اعتداءاتها على لبنان وترفض تطبيق القرارات الدولية".
لقد حوّلت "إسرائيل" اتفاق وقف إطلاق النار إلى غطاء لاستمرار عدوانها، حيث أسفر عن الغارات، منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ، استشهاد 331 شخصاً وإصابة 945 آخرين، وفقاً لوزارة الصحة اللبنانية. كما أنها احتفظت بخمس تلال لبنانية استراتيجية، رغم أن الاتفاق ينص على انسحابها، في ترسيخ متعمد لاحتلال جديد وفرض أمر واقع.
في المقابل، يعاني موقف لبنان الرسمي من ضعف واضح وعجز عن مواجهة هذا العدوان، إذ ترفض "إسرائيل" بشكل منهجي أي مبادرات لبنانية للتفاوض. فقد جدّد رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، تأكيد استعداد بيروت للانخراط في مفاوضات غير مباشرة مع "إسرائيل" عن طريق وساطة دولية، مشيراً إلى أن كيان العدو "يرفض أي نقاش حول ملفات أساسية مثل ترسيم الحدود البرية، وانسحاب القوات الإسرائيلية، ووقف الغارات".
هذا الرفض "الإسرائيلي" لمبادرات لبنان يكشف أن "إسرائيل" لا تريد تفاوضاً حقيقياً، بل تريد تفاوضاً يخدم رؤيتها فقط؛ فهي ترفض ما تسميه "تفاوضاً ضيقاً" يريده لبنان، وترغب في توسيع نطاق المفاوضات نحو "تطبيع تدريجي" وربط أي تقدم بترتيبات أمنية وسياسية أوسع، وهو ما ترفضه بيروت باعتباره شكلاً من أشكال التطبيع غير المقبول.
وهذا المأزق يضع الدولة اللبنانية في موقع ضعيف، إذ يقتصر دورها على إصدار البيانات والإدانات، كما فعلت بعد غارة حارة حريك، دون أن تملك أدوات فعلية لردع العدوان أو حتى إجبار "إسرائيل" على احترام الاتفاقات القائمة.
وفي خضم هذا الضغط، تمارس "إسرائيل" أيضاً سياسة ممنهجة للتضليل حول خطواتها ونواياها، إذ انتشر خلال الساعات الماضية تصريح منسوب زوراً لمسؤول في حزب الله عبر تطبيق "واتسأب"، في محاولة لتشويه صورة الحزب وموقفه.
وهذه الحوادث ليست بريئة، بل هي جزء من الحرب النفسية والإعلامية التي تشنها "إسرائيل" لتشويش الرأي العام وخلق انقسامات داخلية، وهي تكتيك معروف في حربها الشاملة ضد المقاومة.
إن هذا التضليل، إلى جانب التصريحات "الإسرائيلية" التي تتهم حزب الله بإعادة التسليح وتحمّل لبنان المسؤولية، كلها أدوات لخلق ذرائع تبرر استمرار عدوانها وتمهد الرأي العام العالمي لأي تصعيد مستقبلي.
كما أن احتمالية وأشكال أي رد من حزب الله على اغتيال الطبطبائي تبقى مرتبطة بحسابات بالغة التعقيد، ولا يمكن التكهن بنتائجها قبل الإعلان الرسمي لحزب الله.
باختصار: إن النوايا "الإسرائيلية" العدوانية تجاه لبنان واضحة ولا لبس فيها، فهي تسير بخطى نحو تحقيق هدفين: منع حزب الله من استعادة عافيته العسكرية، وفرض شروط جديدة على الأرض تمهد لمرحلة سياسية تكون فيها الأوراق كلها في يدها.
إنها تستخدم مزيجاً من القوة العسكرية المباشرة، والضغط الدبلوماسي، والحرب النفسية، واستغلال ضعف الموقف الرسمي اللبناني، لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه بالحرب المفتوحة.
وفي مواجهة هذا المشروع، يبقى مصير التصعيد رهناً بقرار حزب الله، الذي يجسد إرادة المقاومة، وهو قرار مرتبط بمعادلة دقيقة تزن بين ضرورة الرد على العدوان، ومراعاة الظروف الداخلية والإقليمية الحرجة، والحفاظ على القوة المتبقية لمواجهة أي تطورات أكبر في المستقبل.
ولا يمكن لأحد أن يتكهن بمسار الأمور قبل أن يعلن حزب الله موقفه. لكن اليقيني الوحيد هو أن "إسرائيل" تواصل حربها، وأن لبنان الرسمي عاجز عن ردعها، وأن المنطقة تتحرك على حافة الهاوية، بحيث أن جميع السيناريوهات، بما فيها احتمال الانزلاق إلى حرب واسعة، تظل مفتوحة.

أترك تعليقاً

التعليقات