علي القرشي

علي القرشي / لا ميديا -
في حياة الشعوب، تبرز بين الحين والآخر شخصيات تصنع أثرها، لا بالضجيج، بل بالعمل الصامت والعزيمة الثابتة. من هؤلاء كان الشهيد الغماري، الذي استحضره السيد القائد في حديثه الأخير، نموذجاً للرجل الذي جمع بين التقوى والمسؤولية، وبين الإيمان والابتكار، فصار مدرسة قائمة بذاتها في دروب الجهاد والعمل والإخلاص.
قال السيد القائد إن الشهيد الغماري لم يكن يؤدي مهامه وفق الروتين العسكري أو تقاليد الجيوش، بل كان أرفع من ذلك؛ إذ تحرك بإحساسٍ عميقٍ بالواجب، ملؤه الصدق والاهتمام والمثابرة. كانت روح المسؤولية عنده عبادة، والصبر سلاحاً يواجه به قسوة الأيام وضغوط المهام، حتى صار عنواناً للثبات في وجه الشدائد.
في حديث القائد، برزت قيمة الصبر كجذرٍ لكل الفضائل التي اتسم بها الشهيد الغماري. فالصبر هنا ليس مجرد احتمالٍ للألم أو انتظارٍ للفرج، بل ممارسةٌ يومية تُترجم في ميدان العمل. كان الغماري -كما وصفه القائد- من أهل «الصبر الجميل»، ذاك الصبر الذي لا يئنّ ولا يشتكي، بل يواصل العطاء بصمتٍ وإيمانٍ ورضا.
إن أعظم ما يميز الإنسان المؤمن هو أن يتعامل مع الشدائد لا بوصفها عبئاً، بل فرصةً لصقل النفس ورفعها إلى مراتب أعلى من النقاء والإخلاص. وقد كان الشهيد الغماري تجسيداً لهذه الحقيقة؛ فكل من عرفه وجد فيه الطمأنينة وسط العاصفة، والثقة في لحظات الارتباك، والحكمة حين يشتدّ الضيق.
لم يكن الشهيد الغماري جندياً يكتفي بتنفيذ الأوامر، بل كان مبدعاً في الرؤية والتفكير، قادراً على تحويل التحديات إلى فرص. في حديث السيد القائد، يتضح أن الابتكار والتكيف مع الظروف الصعبة كانا من أبرز سماته، وهو ما جعله ورفاقه يحققون نقلات فارقة في القدرات رغم قلة الإمكانات.
إن الإبداع في الميدان، كما في الحياة، يولد من رحم الإيمان، حين يؤمن الإنسان أن الله لا يضيع سعي العاملين ولا يخيب أمل الصادقين.
الشهيد الغماري لم يكن مجرد فرد في مسيرة طويلة، بل رمزاً من رموز المدرسة القرآنية الإيمانية التي تحدث عنها السيد القائد، المدرسة التي تُخرّج رجالاً متوازنين بين القوة والخلق، بين التواضع والحزم، بين الإيمان والعمل.
من هذه المدرسة انطلق الغماري حاملاً مشروعه بروحٍ راضيةٍ وعقلٍ منفتحٍ، مؤمناً بأن مكارم الأخلاق هي الشرط الأول لكل نجاح حقيقي.
قد يرحل الجسد؛ لكن الأثر يبقى. والشهداء -كما قال السيد القائد- هم الذين يخلدهم التاريخ؛ لأنهم قدموا حياتهم بإخلاصٍ نادرٍ، فصاروا مناراتٍ تهدي الأجيال من بعدهم.
لم تكن الشهادة بالنسبة للغماري نهاية، بل اكتمال مشروع حياة ملؤها العطاء، وتحقيق لوعد الله لعباده الصابرين: أن تبقى ذكراهم نوراً يضيء الطريق أمام أمةٍ تتطلع للكرامة والنهضة.
لقد كان الشهيد الغماري عنواناً لجيلٍ آمن بأن العمل في سبيل الله والوطن ليس شعاراً، بل مسؤولية تبدأ من داخل الإنسان وتنتهي عند حدود التضحية. وإننا إذ نودّعه في الذاكرة، فإننا نقرأ في سيرته درساً بليغاً: أن الصبر ليس ضعفاً، وأن الإيمان ليس مجرد عقيدة، بل طريق بناءٍ وحضارةٍ وكرامةٍ إنسانية.

أترك تعليقاً

التعليقات