في الخندق الخطأ
 

سبأ عبدالرحمن القوسي

يقول مظفر النواب:
(لعنت زماناً خصى العقل فيه تقود فحول العقول)
لم يكن زمناً مبنياً للماضي ما أشار إليه النواب، بل هو حاضرنا الأليم الذي انحرفت فيه قيم المواطنة بفعل الهوس السياسي المعارض والباحث عن نصيبه من الغنيمة على حساب شعبه وأرضه، وفي ظل الصراع المحموم الذي نعيشه منذ سنوات كانت كافية لتكشف لنا حقيقة النخب القيادية في نضالها النبيل أو الآني الضيق ممّن غلّبوا مصالحهم الأنانية على المصالح الوطنية، لاسيما أولئك ذوي السجل المميز من الإنجازات الوطنية والمشاريع النهضوية الذين محوا جُل أعمالهم بموقف ولائي على حساب الوطن، فكم من شخصيات سابحة في فضاء وهم المثاليات التي يرونها مُحقّقة حالما تتم إبادة الشعب كاملاً، وتطهيره ممن يقفون في طريقهم، بدأوا يتنبهون أنهم كانوا مجرد أداة تزييف للوعي إذا لم تكن أداة جريمة، فبعد أن تم الإيحاء لجمهورهم أنهم النخبة الأفضل للواقع، التي تحمل رؤية مثالية لقلب الموازين، اتضح لهم أنهم كانوا مجرد دعاية سوداء مخالفة لطبيعة الواقع، ولهذا تبدلت المواقع في الخنادق، وفقدَ كل ذي حق حقه، وكل ذي رؤية صائبة خسر صوابها ومصداقيتها بمجرد الاصطفاف في الخندق الخطأ.
من حكايات ثوار 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963، لن أقف أمام أسماء بذاتها، ولكن هذا ما أثبتته أحداث مسيرتهم الكفاحية والنضالية ضد النظام الإمامي والاستعمار، وتطلعهم نحو إقامة نظام جمهوري شعبوي عادل، عندما وجدوا أنفسهم أمام ممارسات خاطئة وتشوهات سلوكية في ظل نظام حكومة الثورة، وجدوا أنفسهم يتصرفون بردة فعل حمقاء، فبعثروا كل قيمهم الثورية وطموحاتهم، ليقبلوا على أنفسهم أن يكونوا في الخندق الخطأ، خندق الثورة المضادة لإسقاط النظام الجمهوري، وسأسوق نموذجاً أقرب إلى ذاكرة الحاضر، نموذج شخصية (علي سالم البيض) الذي كان يظنه البعض رجل الدولة الأول الاستثنائي في زمنه، عندما تنازل طواعيةً من أجل تحقيق هدف من أهداف الثورة، وأصبح أسطورة جيل زمن 22 مايو 1990 المثالية، الذي بدأ يتربع على عروش آمالهم وعواطفهم وتطلعاتهم، ويتقزم أمامه شخص علي عبدالله صالح ومنظومته في حكم شمال اليمن ما قبل إعلان الوحدة، لصالح مملكة علي سالم البيض، ولكن كما يقال (العبرة بالخاتمة)، فعلي عبدالله صالح كبرَ وتألق وفرضَ نفسه على الشعب، برغبة أو بدون رغبة، لأنه تمسك بالثبات في خندقه الصحيح، خندق الجمهورية اليمنية والحفاظ على وحدتها وشرعيتها، بغض النظر عن التقييم لنواياه ومساره، بينما (البيض) ذاب كقطعة ثلج هو ومن إليه بمجرد استعلائه منصة الخندق المضاد غير الصحيح، الخندق الذي لا يمثل كل خطاباته وكل المكانة التي التف بها الشعب حوله، عندما بدأ يتلكأ في إدارة الدولة وفق نتائج انتخابات 1993، وحتى كشف عن وجهه الحقيقي بإعلانه الانفصال.
إن هذا كُله يجعل مما استهللت به عبارة مظفر النواب، التي تعني كيف تفضي بعض الأحداث إلى تغيير المواقع وتغير الخنادق، فها نحن اليوم نتابع العدوان الأمريكي السعودي على الأمة العربية، وبشكل مركز ومكثف في اليمن، وكيف أصبح كثير من كوادر الدولة اليمنية بمختلف مستوياتهم أفقياً ورأسياً، معاول لها، لأنهم في الخندق الخطأ، ومكانتهم الحقيقية حملة مناجل وأقلام وكل أدوات بناء الجمهورية اليمنية التي تركوها لغيرهم سواء كانوا أهلاً لذلك أم لا، حسب وجهة نظرهم أو لغيرهم، وأياً كانت مُبرراتهم بأنهم أُجبروا قسراً للهروب الى أحضان العدوان، أو لم يُمكَّنوا من البقاء أو البناء ومواصلة المسير، أو عانوا من الإهمال والقسر والإقصاء، أياً من كل هذا قد تحدث، لكنها لا تعني ولا تُبرر الارتماء بأحضان العدوان، واعتلاء منصات المواقع الخطأ، التي ستفقدهم كل حق يدَّعونه، بل قد تمحو عنهم كُل سِيرة نظيفة تَغفر لهم، فتعلمنا من ديننا الإسلامي الحنيف أن باب جهنم مفتوح لكل مؤمن وزاهد ونقي السريرة إذا ارتكب خطأً وجُرماً في نهاية حياته، فلن يغفر له الله. وهذا هو حال البعض الذين يبحثون عن تبريرات لاستمرارهم مع العدوان دون أية ملامة أو محاسبة ضمير، ويستكفون بحجة أن الحاكم أتى بقوة السلاح، أو أنه غير مرغوب عنده، أو أياً من هذه الحجج التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا يعني ذلك أن سلطة الأمر الواقع هي السلطة المثالية أو السلطة المطلوبة، هي سلطة أمر واقع فُرضت بمعرفة كل الأطراف، وكل يتحمل مسؤوليته في ما وصلت إليه الأمور بإيعاز المهام إليهم في كل جزئية، وفي كل الأحوال تظل هي سلطة لم تأتِ من الفراغ، هي سلطة أتت من الواقع اليمني، بغض النظر عن تحميلها كل تبعات علاقاتها الخارجية مع إيران أو مع غير إيران، فهذا حال كل الأطراف السياسية وامتداداتها الخارجية دون استثناء. هذه السلطة مع احترامنا لمن له تحفظ منها، وهذا حق مكفول له، أو من هو مسلم بها أو من هو معها، ومع تقديري أنها لا تخلو من عيوب ومساوئ، وأنني أيضاً لي ما لي من تحفظات، إلا أنها في هذه المرحلة هي ومن معها في الخندق السليم والصحيح كقوى مناهضة للعدوان، كسبت شعبية وطنية أسقطت عنها الحجج، وكفرت عن سوءاتها أمام خسارة المقابل ممن ارتهنوا للعدوان، ودنسوا حسناتهم.

أترك تعليقاً

التعليقات