أغلقت المصانع أبوابها بفعل العدوان فامتنعت المحلات الوسيطة عن شراء حصاد جولاتهم اليومية في القمائم والأزقة
مأســاة جامعــي الخــردة


شريحة كبيرة من المواطنين الذين يبحثون عن قناني المياه الصحية البلاستيكية والمعادن والنحاس والحديد، من بين أكوام وأكياس القمامة، المتواجدة في أرصفة شوارع العاصمة، وتجميعها داخل شوالات وأكياس كبيرة، ليتم بيعها الى أصحاب محلات وأحواش الخردة المنتشرة بعدد كبير في العاصمة صنعاء، وبأسعار زهيدة جداً.. مشهد يومي يصادفه الجميع لشريحة تتسع كل يوم أكثر، تشاهدهم يتسكعون في الشوارع ليل نهار، حاملين على ظهورهم شوالات كبيرة، مستهدفين أماكن القمامة المكدسة، ليقوموا بنبشها لإخراج كل ما فيها من مخلفات، والأهم من ذلك هو حصولهم على قناني المياه. أطفال ونساء وعجزة يعتبرون أغلبية من يعملون تحت هذه الشريحة، التي تستهدفهم لممارسة مهنة لاتسمن ولا تغني من جوع. ولكنهم هم فضلوا تجميع قناني البلاستيك بدلاً من الاستسلام والرضوخ لموت بطيء بسبب الفقر المدقع والبطالة وانقطاع سبل الحياة أمامهم. 
قبل أيام أثناء زيارتي لأحد أحواش الخردة في العاصمة صنعاء، صادفت امرأة مسنة تبيع قناني المياه الصحية، وعندما طلبت الإذن منها للتصوير قالت يا ابني لماذا تصورني؟ (بتعطونا معاش وتسجلونا عندكم، أني لي خيرات وأني ألقط (قرابع) ـ تقصد علب البلاستيك ـ وأبيعها بـ500 ريال هنا من أجل أشتري بها بطاط وقوتنا اليومي). 
لخصت أم محمد بهذه العبارة معاناتها عندما كنت أحاول تصويرها. هي تبلغ من العمر ما يقارب 50 عاماً، قالت إنها منذ 10 أعوام تعتمد على تجميع علب البلاستيك يومياً. 
ويؤكد صالح، صاحب محل الخردة، ما قالته أم محمد، قائلاً إنه منذ فتح (حوشه) ووضع الميزان فيه، وضعت أم محمد شوالاتها من أول يوم، وهي تبيع القناني والعلب بمقابل 500 ريال يومياً.
هذه الأم الخمسينية سلطت الضوء على تفاصيل معاناة يومية تعيشها المئات من الأمهات والفتيات اليمنيات والأطفال، في شوارع العاصمة، من أجل البقاء والعيش بعزة. 
في الآونة الأخيرة، ومع تزايد عوز الناس، أصبح البحث عن العلب الفارغة في شوارع وأزقة العاصمة صنعاء، مهنة لدى شريحة واسعة من الفقراء والمهمشين وعمال النظافة. وتتسع حافة هذه الشريحة يومياً أكثر فأكثر، متخذة من هذه المهنة مصدر دخل بسيط تعول به الآلاف من الأسر الفقيرة التي تعتمد على أكياس وبراميل القمامة.

عامل نظافة وباحث عن علب 
(شوعي) عامل في صندوق النظافة في أمانة العاصمة، قدم من محافظة حجة قبل سنوات إلى العاصمة صنعاء، للعمل في صندوق النظافة براتب شهري قال إنه لا يكفي قضاء متطلبات أسرته، لهذا لجأ الى تجميع قناني المياه الفارغة بعد عودته من عمله الى منزله الكائن في حي السنينة، بعد الظهيرة. ويعتمد شوعي على دخل بيع القناني الفارغة لأصحاب محلات الخردة مقابل مبلغ يتراوح بين 300 و500 ريال، ينفقها لشراء متطلبات أسرته الأساسية. ويقول شوعي إن الراتب الشهري الذي يتقاضاه من صندوق النظافة، والذي يقدر بـ25 ألف ريال، لا يكفي لإنفاقه على أسرته المكونة من 4 أشخاص، الى جانب أنه يدفع من المبلغ 15 ألف ريال إيجاراً شهرياً، وباقي الراتب قال إنه يذهب في تسديد ديونه للبقالة ومتطلبات أطفاله المدرسية.
كما يذكر شوعي في حديثه للصحيفة أنه ليس الوحيد من بين عمال النظافة من يقوم بتجميع قناني المياه الفارغة، فغالبية عمال النظافة زملائه أيضاً يجمعون قناني البلاستيك أثناء عملهم، وبعد انتهائهم من الدوام، وحتى أيام الإجازات والأعياد، علاوة على أعداد غفيرة من الناس الذين امتهنوا جمع الخردة. 

إغلاق محلات الخردة بسبب العدوان والحصار على اليمن 
طارق، صاحب محل خردة، قال: نحن نشتري من المواطنين الذين يقومون بتجميع قناني البلاستيك الفارغة من بين أكوام القمامة، وأغلبيتهم من الأطفال، فنشتري العلب الفارغة بكل أشكالها الكبيرة والصغيرة، أما الحديد فقد توقفنا عن شرائه من المواطنين، بسبب توقف المصنع في الحديدة منذ بداية العدوان والحصار على اليمن.
وعن البطاريات التالفة والنحاس رد بقوله إنهم يستقبلونها من المواطنين ويشترونها منهم. وأضاف أنه بعد عملية الشراء يقوم أصحاب الخردة بفرز كل نوع على حدة، وبعد ذلك (نبيعها الى أصحاب الفرامات، وهم تجار أعلى منا، وبدورهم يبيعونها الى تجار آخرين بأسعار لا تزيد عن الشراء إلا بفارق 10 الى 20 ريالاً كربح لنا، ومن ثم تصديرها الى محافظة الحديدة داخل أحواش كبيرة).
وأشار طارق إلى أن التجار في محافظة الحديدة يبيعونها بالدولار لأنهم يصدرونها بالأطنان في السفن الى الصين، هذا بالنسبة للعلب البلاستيكية. أما جوالين الزيت والسمن فقال (إننا نفرمها ونبيعها بـ50 ريالاً للكيلو لأصحاب مصانع البلاستيك الذين يعيدون تصنيعها داخلياً بآلات كهربائية).
ولفت إلى أن المواد الأخرى كالمعادن والنحاس ومخلفات أخرى صالحة للتصنيع وإعادة تدويرها مرة أخرى، قال إن (التجار يصدرونها بعد شرائها منا الى دول أخرى كدولة الإمارات). منوهاً إلى أن العمل في الخردة في السنوات السابقة كان معظم الأيام عبارة عن مواسم يتم الشراء فيها والبيع سواء في المواد البلاستيكية أو الحديد. (وفي حال توقف التجار الذين يشترون منا هذه المخلفات أيضاً يتوقف الشراء عندنا، ونرفض الشراء من الباعة، فهي عملية تسلسلية بين صاحب الخردة والتاجر والباعة. وهذا ما حدث بالنسبة لمصنع الحديد، فقد توقف عدة مرات بسبب ارتفاع الديزل والحصار، ولهذا توقفنا عن شراء الحديد من الباعة، وأصبحت خردة الحديد مكدسة لدينا داخل الأحواش والمحلات).
ويشير أيضاً الى أن العمل في شراء الخردة منذ عام ونصف من العدوان على اليمن، تراجع، وأغلقت أكثر محلات الخردة بسبب الحصار، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية، وعرقلة تصدير المخلفات القابلة للتدوير والتصنيع مرة أخرى.

تراجع أسعار المخلفات 
يبلغ سعر الكيلو من العلب البلاستكية عند محلات الخردة 40 ريالاً، وبحسب بعض الباعة فإن سعر الكيلو قد هبط من 100 ريال، مع الحرب والعدوان على اليمن، الى 40 ريالاً. وهذا السعر يختلف من محل خردة الى آخر، والفارق 10 ريالات فقط. أما الكيلو من المعدن فيباع بـ100 ريال، بعد أن كان سعره قبل عام ونصف 300 ريال. 
أكرم علي، صاحب حوش كبير لشراء الخردة، قال إن انخفاض أسعار العلب البلاستكية كان بسبب الوضع الذي يعيشه البلد، ويضيف أن الطقس عامل كبير في عودة الكثير من باعة العلب مجدداً، والذين يختفون خلال الشتاء البارد في العاصمة. مرجعاً ذلك الى أن أسعار العلب تخضع أحياناً لاستهلاك المواطن اليمني لها بمختلف أنواعها، حيث يزداد استهلاك قناني المياه وعلب المشروبات في فصل الصيف أكثر من أيام فصل الشتاء. أما النحاس فسعر الكيلو الحالي 1000 ريال، وقد انخفض عن سعره المعروف بـ1500 ريال، مع العدوان والحصار على اليمن.
أما مراد، وهو صاحب محل خردة آخر في حي القاع، فقال إن أصحاب محلات الخردة كانوا يقومون قبل الأزمة برفع أسعار شرائهم للكيلو من العلب البلاستيكية بإضافة 10 ريالات إلى 20 ريالاً، وهي وسيلة لإغراء الزبائن وجلبهم في بيع قناني المياه لهم. وهذه الطريقة تغري الأطفال بالذات كثيراً. 
ويواصل حديثه عن الباحثين عن العلب، بقوله إن هناك أمهات كبيرات في السن وفتيات في مقتبل العمر يقصدن محله بشكل يومي لبيع قناني المياه. وهو يصف أولئك الفتيات بشيء من الحزن لما يقمن به من عمل شاق في هذا المجال غير المربح. 
ودعا مراد المنظمات الحقوقية والجهات المسؤولة للحضور إلى جوار محله لمشاهدة عدد من الفقراء ومن الأطفال والنساء والعجزة الذين لم يقف بجانبهم أحد، ولا يحصلون على أية مساعدة، ولا يتم التطرق لحالتهم البائسة.

 نبش أكياس القمامة
ياسين خالد، مدير صندوق النظافة في إحدى مديريات محافظة صنعاء، قال للصحيفة إن العمال في صندوق النظافة يعانون من نبش وفتح أكياس القمامة من قبل الأشخاص الباحثين عن العلب والقناني البلاستيكية، وبشكل يومي، بطريقة فوضوية، ورميها على الأرصفة والشوارع. 
وأضاف ياسين أن (مثل هذا العمل الفوضوي وغير المسؤول في الأخير يتحمل مشقاته عمال النظافة وحدهم، ويترتب عليه بذلهم جهداً إضافياً فوق مهمتهم اليومية المتعبة. وبدل أن يأتي عامل النظافة ويرفع أكياس القمامة المغلقة على الرصيف، وبجهد أقل، وبطريقة سريعة، يواجه مشكلة أخرى، وهي تجميع المخلفات التي بعثرت خلال البحث عن قناني المياه الفارغة، في كل مكان، كما يصعب على عامل النظافة تجميعها بالكامل، وهذا ما يعرقل ويؤخر عمال النظافة من الوصول الى رفع بقايا القمامة المتواجدة في أحياء المديرية المكلفين برفعها يومياً).

الطفولة في مهمة شاقة 
مع بزوغ كل صباح يستيقظ الطفل محمد ليحمل على ظهره (شوالة) فارغة يتجول بها على أرصفة وشوارع العاصمة صنعاء، من أجل تجميع العلب البلاستيكية.
محمد (8 أعوام) ترك دراسته من أجل القيام بمهمة متعبة أرغمته عليها ظروف عائلته المادية القاسية، مما أجبره على المثابرة والخروج صباح كل يوم إلى شوارع العاصمة، قاصداً جمع أكبر عدد من قناني المياه الفارغة، وبيعها في الأخير بمبلغ لا يزيد عن 500 ريال، قال إنه يودعه إلى أمه التي تنتظره أثناء عودته عند المساء. وأشار إلى أنه منشغل دوماً في تجميع هذه القناني حتى أيام الإجازات والأعياد.
محمد واحد من مئات الأطفال الذين حرموا من التعليم واللعب، ومن ممارسة طفولتهم كما يحلو لهم كبقية أطفال العالم، وباعتباره حقاً أساسياً لهم. وعوضاً عن ذلك قضوا مرحلة طفولتهم البريئة في البحث عن قناني المياه الفارغة من بين أكوام وأكياس القمامة، والتردد على محلات الخردة.
ماراثون ليلي
عبيد، وهو أحد الباحثين عن العلب، قال إنه يقطع مسافة طويلة في سبيل البحث عن علب فارغة، وأشار إلى أن العمل في البحث وتجميع القناني يتطلب منه حركة سريعة وجهداً كبيراً من أجل الوصول إلى أماكن براميل وأكوام القمامة، وقبل أن يتم نبش أكياس المخلفات من قبل زملائه. وشبه البحث عن القناني الفارغة في الشوارع بأنها كعملية السباق في ما بينهم، مرجعاً سبب ذلك بقوله إن الآلاف من اليمنيين الفقراء أصبحوا ينافسونه في ذات المهمة. 
ويوضح علي، صاحب محل خردة، أن أعداداً كبيرة يخرجون أثناء الليل للبحث عن العلب الفارغة، منتشرين على براميل وأكوام القمامة التي قال إنه يصعب عليهم دخولها في النهار، تجنباً للإحراج، وخشية من رؤية المواطنين لهم أثناء النهار، وتفادياً لمصادفة المعروفين لهم من الجيران والأصدقاء. وتطرق الى أن البعض منهم يخرجون في الليل مراعاة لعادات وأعراف قبيلتهم التي ترى في البحث عن قناني المياه الفارغة أنه عيب. أما البعض فقال إنهم يفضلون الخروج للبحث عن القناني الفارغة ليلاً، لأنهم من مدمني السهر، إلى جانب تفضيل الهدوء، وتجنب شمس النهار الحارقة، وإزعاج السيارات والمواطنين لهم.  

رؤية اجتماعية وحقوقية
يقول متخصصون في علم الاجتماع التقتهم الصحيفة، إن المجتمع اليمني يقع في غالبيته تحت خط الفقر، ويعاني من البطالة، وهذا ما يؤدي إلى بروز المشكلات الاجتماعية والأسرية التي تؤثر بدورها على العلاقات العامة بين جميع الأطراف والمجتمع، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة أو المجتمع عموماً. 
كما أن هؤلاء الفقراء يحاولون البحث عن الوسيلة التي يحلون بها مشكلاتهم الاقتصادية، أو على الأصح ما يسد رمق عيش الأسرة. فتشاهد كثيرين يتخذون من التسول وسيلة للعيش، والبعض يمتهن جمع العلب البلاستيكية المتنوعة التي يتم فرزها وإعادة تدويرها صناعة لخفض كلفة تصنيعها. 
إلى ذلك، فإن من يعمل في هذه المهنة دائماً ما يقع تحت طائلة الاستغلال، إذ لا يقدر جهده وتعبه الذي يبذله طوال يومه، فيحوله المشتري إلى قليل من الريالات التي لا تكاد تكفي حاجته، ولكنه مضطر للاستمرار في هذا العمل. 
ويحيل المختصون السبب وراء ظهور هذه الحالات إلى غياب التخطيط لإيجاد مشاريع ذات قاعدة عمالية عريضة تستطيع استقطاب العديد من هؤلاء المحتاجين الذين طحنتهم الظروف، فحرمتهم من حق التعليم والعمل والعيش الكريم، باعتبار الفرد مواطناً يستحق الحياة واحترام كرامته وعضويته في المجتمع.
وعن فئة المهمشين الذين يعتبرون الفئة الأكثر حضوراً واعتماداً على تجميع علب البلاستيك الفارغة بشكل مستمر، يقول يحيى صالح، رئيس المنظمة اليمنية لمناهضة التمييز، في حديثه للصحيفة، إن الأسباب التي تدفع المهمشين إلى جلب العلب البلاستيكية، هي ظروفهم المعيشية، إلى جانب أنه يتم رفضهم في العمل داخل المؤسسات والمحلات الخاصة.