عن ميتٍ بجسد متحرك
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
وجدته صدفةً على قارعة الزمن، ولكنني للأسف لم أجده، بل أيقنت أنه قد مات منذ أمد بعيد!
إن هذا الشخص الميت بجسد يتحرك؛ هو ذاته الذي ابتدأ ذات يوم مشواره العملي والفكري في سبيل الله والمستضعفين، وكان عادة ما يرى حاضراً إلى جانب عامة الناس، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويتقاسم معهم الخبز والماء، ويحمل همومهم، ويتألم لآلامهم، ويسعى دوماً لرفع كل ما يقع على عاتقهم من أثقال، يصعب عليهم احتمالها، مبادراً لنصرة المظلوم فيهم، ولو كان أقلهم شأناً ومالاً ومكانةً اجتماعية. لقد كان له صوتٌ عالٍ في كل المحافل والمنابر والقنوات في المطالبة بحقوقهم المنهوبة والمجهولة والمنسية، وتمضي الأيام والسنون وهو لا يكل ولا يمل من أداء دوره الذي قربه من الجميع، وحببه إلى قلوب الفقراء والمعدمين، فعرفه وأحبه الكبار والصغار!
ولكن ما إن تحين لحظة التمكين للقافلة التي يربط بينها وبين ذلك الشخص حبلٌ من عقيدة وفكر، حتى يقبل على ذلك الحبل بكلتا يديه، لا ليجذبه إليه، ويعزز من خلاله صلته بالناس، وإنما لكي يجعل من ذلك الحبل وسيلةً للخروج من محيط مجتمعه، وسبيلاً للوصول إلى عالمٍ آخر، تموت فيه النحن، وتحل محلها الأنا، بحيث يغيب المجتمع عن فكره واهتماماته، ويتفرغ لخدمة ذاته الفردية، باذلاً قصار جهده لذلك!
وهنا يكون المنصب الجديد هو بوابته المثلى، التي يلج من خلالها إلى عالمه الخاص، بعد أن يتحلل بالقرب منها من ذاته وروحيته وعلاقاته وثيابه، وكل ما له صلة بماضيه، ليرتدي ذات وروحية وثياب أخرى، ويكون علاقات ونمط حياة جديد، مغاير لما كان عليه في الزمن الغابر، ظناً منه أن تغير المواقع، وتبدل الأحوال والظروف، والترقي في المناصب، لا بد أن يصحبها جميعاً تغيير في الفكر والشعور، وإعادة لصياغة أهداف مختلفة عن الأهداف التي التزمها سابقاً، إذ بات ذكر ماضيه بالنسبة له مضيعة للوقت، كونه صار بالياً، لا ينسجم وموقعه الجديد، وهكذا أصبح التنكر لكل ما يربطه ببداياته الحركية والعملية والاجتماعية شغله الشاغل.
لقد بحث عنه الناس الذين اعتبروه يدهم ولسانهم وضميرهم وفكرهم، فلم يجدوه، إذ تبدلت أرقام هواتفه، وتعذر الدخول إلى مكتبه، وإذا ما صادفوه في الشارع العام، وجدوه محاطاً بالحراس، طائراً على كف عفريت، لا يجرؤ أحدٌ على اعتراض موكبه، عندها يتساءل الجميع: هل هذا هو فلان؟ كيف أصبح هكذا؟ ألم يكن علويَ النهج والخطى والسلوك، والنظرة؟ أما قرأ قول الإمام في دعاء كميل: وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً؟
ربما لم يجد في وقته متسعاً للاطلاع على سيرة ومسيرة الإمام علي عليه السلام، وربما تغير اتجاهه العقائدي بالكلية، فباتت المصلحة الشخصية هي دينه وإمامه ومذهبه، وبات معبوده هو ذاته فقط من دون الله، لهذا أخلد إلى الأرض، وبات مجرداً حتى من إنسانيته، ليصير معدوداً ضمن مخلوقات أخرى.
لقد كان يؤمن بالنهج والخط بعقله المصلحي التجاري، ولم يكن ذلك الإيمان بأبعاده العقدية والمعنوية والقولية والعملية، الإيمان المبني على أساس معرفي، يجعله يتداخل مع كل مكونات الروح والجسد، ويصبغها بصبغته، الإيمان القادر على إيجاد المحبة في قلوب معتنقيه، وليست تلك المحبة التي نرمي إليها كتلك المتعارف عليها لدى التصوف والعرفان، وما يماثلهما، ولكننا نعني المحبة الكفيلة بتحويل الإيمان إلى قوة قادرة على تحريك بنيه، بمعزل عن حسابات واعتبارات العقل المصلحي، بحيث تنطلق هذه القوة من داخل الذوات المؤمنة، تحرك الفطرة، فتفجر الذات وتثور عليها، وتتمرد بشكل ملتهب على كل رواسبها وقيودها ونقائصها، التي هي جزء من بواطنها، والبنية الموجدة لعدوها فيها ومنها، قوة لا تقوم على نظم وقوانين طبيعية أو منطقية، وليست كذلك بالجنون واللا منطق، وإنما هي فوق الطبيعة، وأسمى من المنطق، قوة تنطلق من واقع الفناء، لتحقق لمَن وراءها وجوداً إنسانياً حراً وطاهراً، يعيش بروح غايتها الإيثار والتضحية من أجل الناس.

أترك تعليقاً

التعليقات