مجاهد الصريمي / لا ميديا-

قد يألف كل المثقفين والمفكرين وضع بيئتهم التي وجدوا أنفسهم فيها جبراً دون اختيار، إلا الأدباء منهم، ولاسيما الأديب الشاعر، لأن الشاعر أكثر الناس نفاذاً إلى عمق الأشياء، وأطولهم باعاً في الإحاطة بها، وأدقهم تصويراً لحقيقتها، وإن وجد بعض الشعراء في أية مرحلة من مراحل التاريخ أنفسهم خارج نطاق رسالية الشعر، فإن ذلك الوزر الذي اقترفوه لا يحط من مكانة الشعر، ولا ينتقص من قيمته، لأن الشعر لا يعيش عادة في كنف ضبابية المصطلحات الفلسفية والكلامية، بل هو كنه الذات ومحور تشكل عوالمها وسبلها لفهم ما حولها، فهو لا يدور في فلك الأقوياء كالتاريخ، ولا يختص وينحصر بفئة من الناس كالفلسفة، إنه كلي الارتباط بكل الناس، ولأنه شذى نفحات الفطرة الإنسانية فقد خالج القلوب واستبطن النفوس لدى الجميع، فتجد الفلاح والغني والفقير والكاتب والخطيب والمذيع والطفل والرجل والمرأة كلهم يستأنسون به ويعبرون عنه ويعبر عنهم، فبالشعر نستدل على ذواتنا، ونقرأ حركة الوجود ومقتضياتها من خلاله.

اليوم نمضي مع وجه من الوجوه المبدعة التي وارتها عنا عتمة سواد ليل حالك دام لعقود من الزمن (زمن حكم أنظمة الوصاية)، إنه الشاعر عبد الواحد حمود محمد مدفع، من أبناء منطقة كتاب، مديرية يريم التابعة إدارياً لمحافظة إب، إنه شاعر ذو ذائقة أدبية أخاذة، يجيد الشعر بكل أنواعه، وهو من مواليد 1978م، وربما زمن ولادته هو الذي جلب له الشقاء، إذ كيف يولد مولود في زمن كل ما فيه تجسيد حي للموت، فاليمن كانت حينذاك في موت سريري، أضف إلى ذلك أن منطقة الشاعر كانت بقاموس نظام العمالة وبمجرد ذكرها مدعاة لتفتح أبواباً مغلقة على بون شاسع من السخرية والاستهزاء، لأن أنظمة الوصاية كانت مسكونة بالخوف من المناطق الوسطى، لذلك اتخذت سياسات عدة عبر أجهزة بسط نفوذها وأشباحها وعسسها لتحطيم الذات من داخلها في تلك المناطق، وزعزعة وتمزيق عرى الانتماء لها، فيصبح قاطنها يشعر بالاشمئزاز كلما استدعى الحال ذكر مسقط رأسه، لأن ذلك محط للتندر من قبل المستفهم وسخريته، وهذا النهج من قبل الأنظمة العميلة لم يكن قصراً على المناطق الوسطى فحسب، بل كان أسلوباً متبعاً في كل مناطق اليمن، مع تفاوت شدته من منطقة إلى أخرى، والهدف من مثل هذه الأساليب هو تبديد الانتماء للأرض وتفتيت أواصر سكانها، وخلق انتماء جديد يربطك بالحاكم لأنه الوحيد الذي لايزال يعبر عن القداسة والكمال.
وشاعرنا رب أسرة، وله 6 من الأبناء، ولديه من الأعمال الشعرية التي لم تر النور بعد الكثير، منها ديوان شعري احتوى بين دفتيه درراً من نتاج شاعرنا من الشعر العربي الفصيح، بعنوان "در البحور"، وديوان آخر بعنوان "بركان الشعر الثائر"، وهو من الشعر الحميني، وكذلك ديوان ثالث، سحر تسميته يأخذك إلى مكنون محتواه، وهو بعنوان "سرٌّ أسير"، وهو من الشعر الشعبي الحميني، وله ديوان رابع بعنوان "غيث الدموع"، من الشعر الفصيح، و"الحرف الذهبي" من الشعر الشعبي، وأيضاً ديوان ضمنه قصائد زهد ومناجاة شعبية بعنوان "مع الله"، ومن أعماله التي يعتز بها قصيدة بعنوان "خوارق اللاشعور"، وهي بمثابة سجل تضمن تفاصيل رحلة لسندباد يمني إلى كل دول العالم، وبالترتيب الأبجدي، مع توضيح وإبراز معالم كل دولة، ثم انتقل فيها إلى الفضاء الخارجي، ليعود أخيراً إلى مسكنه ووطنه، كل ذلك في قصيدة واحدة، وله منظومة شعرية احتوت على أبرز قواعد اللغة العربية، بالإضافة إلى أبرز أحكام التجويد، له أيضاً نتاج معتبر في القصة القصيرة والنصوص المسرحية، وفي مقال قادم بعون الله سنقف على أبرز الملامح المميزة لشعره.
لبوح الحروف سمات جليلة، وخصوصا تلك التي تسلم قياد نظمها لشاعر كشاعرنا الذي ما إن تجول بعينيك في رحاب قصائده حتى لا تملك إلا أن تقول إنك أمام صائغ بارع لسبائك الذهب، إذ يريك الكلمة الواحدة ذات المعنى المتعدد، ويريك سياقات الكثير من المعاني في معنى واحد. هنا سنتلمس معا أبرز السمات التي تميز بها شاعرنا في عدة نصوص من الشعر الشعبي. واقتصارنا على الشعر الشعبي لا يعني أن الشاعر قصير الباع في كتابة الشعر الفصيح، فله فيه دواوين كما بينا سلفا. 
دعنا عزيزي القارئ نقرأ الشاعر في هذه المقطوعة التي نراها بمثابة الهوية، فهي من وجهة نظري سيرة ذاتية مكتملة الأركان، إذ تكشف لنا دواخل نفس الشاعر واعتمالاتها في المحيط بها، وهي تفسر لنا علاقة الشاعر بمن حوله، وتتحدث عن مفهومه للحياة والأحياء. وقد عنون مقطوعته هذه بـ"المنزل الفردوسي": 
زلزل عروش الفكر يا هاجوسي
في عصف حرفك حيثما اصبح وامسى
نكس قوافي يا هواجس حوسي
بين الرؤوس الراوسة والحوسا
والمس ونافس من درس قاموسي
من ترجم احساسه قيم لا تنسى
قل للمشاعر يا مشاعر دوسي
على النفوس العابسات الخرسا
على مساري في ضيا فانوسي
ضوت قصور الأندلس والأحسا
ما دام لي عزي ولي ناموسي
ما همني بالطقس مهما يقسا
لو يجمعوا كل السلاح الروسي
وألف ألف اسطول بالبحر ارسى
في عزتي بالله اصوب قوسي
واقول للعالم بكله يخسا.
واخاطب اهل الفكر في محسوسي
باسلوب مسمس كل صخرة ملسا
واطمس أسا الماسون الهندوسي
واحكم فرنسا بالأسس والنمسا
وحدي رئيسي والجميع مرؤوسي
ولا ارتضي في من أسى واستأسى
أصنع من افضال القيم ملبوسي
ولا سواها بالحواس اتكسا
وافرد لمن آمن زين طاووسي
وأطلق على أهل السحر أفعى موسى
ولا اطمع الا المنزل الفردوسي
على بساط المايسة والخنسا
كثيرون من تسقطهم نكهة الأموال ويستعبدهم لمعان بريق الريال، فكم نفوس سقطت تحت تأثير الطمع! وكم تحدرت من شاهق فطرتها السليمة إلى الحضيض البهائمي، رافضة التكريم الإلهي، وباحثة عن النقائص! وهاك ما استقصاه شاعرنا في هذه المقطوعة:
 "حب القرش" 
بلاك الله يا مبلي بحب القرش والدرهم
ونفسك كلما تطهر رماها الرجس شاريها
ومن قد باع كل الناس لاجل المال يتوهم
بأنه فاز لكن هل قيم دونه يجاريها
ومهما يرتقي يسقط بعين الناس لو يفهم
ومن يكسب أسود الغاب يتملك براريها
وانا كنزي ثقة قومي ورأي الناصح الملهم
وحرصي في مياه الود ما تخلف مجاريها
وكلٌّ له مقامه حسب ما قد قدمه واسهم
ونفس الحر ما تخضع لغير الله باريها
ولشاعرنا فلسفته الخاصة عن الصداقة زخرت بها الكثير من قصائده، فكثيرا ما أفرد لكل جانب من جوانب العلاقات الاجتماعية قصيدة خاصة، كقصيدته المتميزة "البقاء في الوجوه"، وقصيدته "العوايب"... وفي كل قصيدة كان يبحث عن الإنسان السوي ويرسم صورته، ويهاجم النقائص ويشرح عيوبها. ولطالما ظل الباحث المنقب عن الصديق الصدوق الذي رآه من علامات المستحيل، كما يبين ذلك في قصيدته الطويلة "الصداقة" والتي اخترنا منها هذه الأبيات: 
يقول المدفعي دنيا غريبة من صحب واصحاب 
وفي معنى الصحب عمري بها ما كان لي صاحب 
تمنيت التقي صاحب إذا ناديت باسمه جاب 
يوافيني من اخلاصه ويدعيني وانا اجاوب 
أفرش له وسط قلبي بوصله واغزر الترحاب 
وباخلاصه يبادلني شعور احساس متقارب 

وعن حكمة وصدق تجربة وضع الشاعر ما توصل إليه في قصيدة بعنوان "كلٌّ ينتقي ما يناسب".
كلما عارك الإنسان الحياة واستزاد معرفة وفهماً للناس أدرك أن السعادة الحقيقية هي تلك التي يرفل بها ويتقلب في وافر نعمائها أولئك البائسون والكادحون الملتحفون للسماء والمفترشون للأرض من سكان القش والصفيح، إذ يعيشون حالة الغناء دون مال ويتصفون بالسخاء دون إمساك.
وحين يجسد الحرف قذيفة من حنايا الكادحين فما على القلوب المتبقية إلا أن تكون بساطا كي تحتوي خطى هذه الفاتنة والتي هي بعنوان "على كيفي"، ويقول فيها:
أيسرت وايمنت والحظ البهيج اقفا
يا اهل المروات خلوني على كيفي
خلوني اجمع زهوري بالهوى والفا
حلمي فبه عشت من قحط الشتا صيفي
شابع من الجوع والقلب الجريح اخفا
نزيف جوفه وهو نازف على جوفي
شامخ بلا روح خوف العيف يتشفى
وخوف من ود نحوي بالعلن يجفي
من صبري اقتات قوت ايامي العجفا
ويحسب الناس فيض البحر من كفي
بالحق آمنت كلّ عنده استوفى
قسمه وانا كيف اجافي شمعتي واطفي
فرازق النمل وسط الصخرة الجوفا
بطرفة العين قادر يبتهج ظرفي
هل لي إذا كان هم افرش وهم ادفا
تشفى جروحي ومن قد دانني يعفي 
ما عاد غير ابتسم واضحك عسى تصفى
سما حياتي وامتع بالسنا طرفي
والجرح لو سرت لاجله ألف مستشفى
فما سوى الله قادر للألم يشفي 
فاسلوا وسلوا فؤادي قبل ما يصفى 
مشيب راسي ويبكي حالتي حرفي
لا تسألوني على حالي فحرف الفا
لا افرق فراقي فانا في مرتقى عرفي
واستقرضوني مودة لا الزمان احفا
أحيا بها في بشوش الوجه مستكفي
باعيش وافي وباعرافي لمن يوفى
أنذر بروحي ويجتاح الفضا عصفي
ومن ينافي ودادي فالفؤاد انفا
وده وعقبى المهاني كلها ضيفي
ولم يكن المغترب بعيدا عن اهتمام شاعرنا، وهكذا هم شعراء اليمن المُجيدون، إنهم يعيشون معنى الانتماء للأرض من خلال تبنيهم قضايا وهموم سكانها، وهاكم "مشاعر مغترب":
الغربة اليوم عند المغترب نكبة
يعيش فيها حياته كل يوم مغصوب
والحال يفرض عليه يكذب مية كذبة
ويدعي الله تبقى الخاتمة ويتوب
يظل يسبح بداخل بحر من حلبة
ويبصر الحال في عينيه بالمقلوب
يا كم يعاني ويوصف عيشة الكربة
ويوصف الصبر من صبر النبي أيوب 
يتشوق الوقت ذي به يجمع القُربة
لا جانبه والعمر في كل ساع محسوب
يوصل على امه وابوه يبرك على ركبة
يقبل اقدامهم باروع وخير اسلوب
ويجمع الخل والأولاد والصحبة
ويبصر السعد فيهم منتشي مرغوب
يكفيه يشرب من ايد الغالية شربة
بطعمها عنده احلى من جباح النوب
أما في مقتضى تجليات الكينونة اليمنية المستوعبة لمفهوم الهوية التي توجب على كل يمني مواجهة العدوان وتقديم في سبيل ذلك النفس والمال والولد، فقد تجلى قلم شاعرنا يصنع من شذى البارود شدو البنادق، وذاك ما نستشفه ونقرؤه في قصيدته "وهج العزايم":
قولوا لابو جبريل عبدالملك
يبقى بحبل الله ماسك
واحنا بصفه للثقة نمتلك
وسعدنا حوم المعارك
هذه يمنا من غزاها هلك
ما همنا جمع الممالك
وهج العزايم حالما تحترك
تخوض في كل المسالك
قد كل من مِن ضيق حاله ضنك
في المعركة قرر يشارك
شوقه مع جيش العدا يشتبك
ولا يصده سلك شايك
بالأمر للكاشف بلمس التتك
فيها نضوي ليل حالك
باقدامنا كل القمم ترتبك
فاحنا الشهب واحنا النيازك
محال أن نرضخ لمن ينتهك
أو مننا للحق تارك
لك يا وطن طهر الدما تستفك 
وعزمنا بالخصم فاتك
ومن بصف اهل البغا يشترك
يقود نفسه للمهالك
ما بيننا بالخاتمة من ضحك
قوم الهدى أو حلف آفك